بالرغم من كون الولايات المتحدة القوة العظمى في العالم في عصرنا الحالي إلا أن الجريمة المنظمة الأمريكية هي من أكثر الأشياء التي تفرض نفسها بقوة على المجتمع الأمريكي وتجعل الكثيرين منهم في خوف مستمر على أمنهم وأمن أسرهم، وخاصةً في مناطق معينة وفترات معينة، فمع هذا التطور المذهل لتلك البلد العملاقة إلا أن هناك عائلات إجرامية موجودة منذ عقود هناك، وهم من مختلف الجنسيات، هذا في الوقت الذي نجد فيه غيابًا تامًا للجريمة المنظمة في بعض بلدان العالم الثالث، ونحن هنا لسنا بصدد تفسير ظهور الجريمة المنظمة الأمريكية ، لكنك في نفس الوقت ستستنتج بنفسك بعض الأسباب بعد قراءتك لهذا الموضوع المفصل، حيث سنتحدث فيل المقام الأول عن المافيا الإيطالية وهي صاحبة النصيب الأكبر من الشهرة، ولكون المسألة ضخمة ولا يمكننا التحدث عنها في موضوع واحد فقد اخترنا بعض النقاط المحددة لنوصل لك أهم المعلومات والأفكار، فبعد ذلك سنتحدث عن العصابات المنظمة الأخرى مثل المافيا الصينية هناك وعن آل كابوني وبدايات سيطرة المافيا على مناطق كاملة وغيرها.
متى ظهرت الجريمة المنظمة في الولايات المتحدة؟
اعتادت جماعات الجريمة المنظمة فيما قبل الثلاثينيات من القرن الماضي على العمل في أشياء محددة لم يخرجوا بعيدًا عنها وهي الدعارة والابتزاز والقمار والسرقة، ولم تكن العصابات في ذلك الوقت منظمة بهذا القدر الذي يدعونا إلى تسميتها بعصابات الجريمة المنظمة، ولكن بسبب ظهور القانون الثامن عشر الخاص بتحريم بيع الكحول فقد ظهر طريق جديد للجريمة أصبح من أهم مميزات فترة الكساد في أمريكا، فقد اختفت المشروبات الروحية من كل الحانات والمحلات التي كانت تتاجر فيها بشكل رسمي فيما مضى، ومع اعتياد الناس على الشرب فإنهم كانوا في موقف عصيب، خاصةً مع تدهور الأوضاع الاقتصادية في تلك الفترة السوداء من تاريخ البلاد، لذا حمل أفراد عصابات الجريمة المنظمة الأمريكية على عاتقهم مهمات تهريب وبيع الكحول، مع العلم بأن القانون ظهر في السادس عشر من يناير 1919 وبدأ تطبيقه فعليًا في 29 يناير 1920، وفترة الكساد تمتد من 1920 وحتى 1933، وفيها ظهر ما يدعى بمحلات سبيكزي التي ظهرت قبل ذلك في أواخر القرن التاسع عشر عندما فرضت الحكومة الفيدرالية ضرائب باهظة على الاتجار في الكحوليات، لكن هذه المرة أصبح الأمر بشعًا بالنسبة للشعب الأمريكي، فحتى الأغنياء منهم لن يكونوا قادرين على جلب المشروبات إلا عبر الطرق غير القانونية. ومن هنا تكونت العصابات المنظمة بالضرورة وأصبحت تعمل بنظام لم تعهده الولايات المتحدة من قبل.
المافيا الإيطالية-الأمريكية
كلمة “المافيا” أصبحت مرادفة لأي عصابة إجرامية في الوعي العام، إلا أنها ذات معنى بالغ الخصوصية لدى أفراد المافيا الإيطالية لدرجة أنهم يعتبرونها من المفاهيم القومية، والواقع أن هذا المفهوم يحمل جزء كبير من الصحة، فبداية تشكيل مافيا صقلية كان رد فعل وطني واضح ضد الظلم، ومافيا صقلية أو المعروفة بكوزا نوسترا أو لا كوزا نوسترا (LCN) تعني حرفيًا “الشيء الخاص بنا”، لكنه تحول وتحور مع الوقت ليشمل معاني دخيلة، لكن حتى يومنا هذا فإن هناك ثوابت لا يستطيع أي شخص خرقها مهما كان، فالأعضاء الأساسيون في المافيا الإيطالية-الأمريكية يجب أن يكونوا من أصل إيطالي، أما المساعدون فإنهم من غير الإيطاليين ولا يستطيعون التقدم في الدرجة مهما فعلوا من إنجازات.
عائلة بونانو
قد تكون أكثر عائلات الجريمة المنظمة الأمريكية المؤثرة، وهي تسيطر على الأنشطة الإجرامية في مناطق حيوية في مدينة نيو يورك، ولذلك فإنها أكثر العائلات ظهورًا في الإعلام وقد استطاعت العائلة في فترات مختلفة السيطرة على رجال سياسة كبار ورجال قانون وشرطة وغيرهم من رجال السلطة وذلك بحكم موقع وجودهم، ويرجع تاريخ العائلة إلى جوزيف بونانو الذي يعتبر مؤسسها الأول والذي أدار الدفة لأكثر من ثلاثين سنة متصلة واستطاع أن يصبح واحدًا من أكثر الرجال نفوذًا في المدينة، وهذه الفترة يعتبرها البعض الفترة الذهبية للعائلة وربما للمافيا الإيطالية، فقد استطاع بونانو السيطرة على كل أفراد العصابة والأهم قدرته على ضبط موازين العلاقات والتعاون مع العائلات الأربع الأخرى، مع العلم بأن تاريخ الصراع بين أعضاء كل عائلة على حدة شهد توترات دموية وعنيفة في أوقات عديدة وكذلك بين العائلات الأخرى، ومنذ سنة 1931 وحتى 1968 لم يواجه بونانو أية معارضة قوية تؤثر على منصبه، لكن في النهاية لم تسر الأمور على ما يرام وطردت عائلات نيو يورك مما كان يدعى باللجنة، وهو اجتماع كان يتم بين زعماء العائلات للتشاور في أهم الأمور الجارية، ويقال أن سبب انحدار العائلة في نهاية الستينيات هو تورطهم في تجارة الهيروين التي رفضها الزعماء الآخرون ولأسباب أخرى قد يكون أهمها اقتحام الإف بي آي للعائلة عبر عميل الإف بي آي الشهير دوني براسكو.
تاريخ عائلة بونانو الإجرامي
بدأت النشاطات الإجرامية للعائلة في التسعينيات من القرن التاسع عشر ولاتزال مستمرة حتى وقتنا هذا، ويبلغ عدد أعضاءها الأساسيين حاليًا ما بين 100-110 عضو وفقًا لتقديرات سنة 2015 مع وجود أكثر من خمسمائة عضو من المساعدين من غير الإيطاليين، وكعادة أعضاء المافيا الآخرين بدأوا بفرض الحماية الإجبارية لأصحاب المحلات والمشاريع الصغيرة مقابل إتاوات مالية يتم إجبارهم على دفعها كل شهر، ثم انخرطوا بعد ذلك في عمليات أخرى مثل غسيل الأموال وتهريب المخدرات والقمار غير القانوني وتم توثيق عمليات قتل وسرقة عديدة.
المافيا واغتيال فيدل كاسترو
الارتباط بين رجال الدولة والمافيا موجود في العديد من الحالات، لكن هذه المرة كان الأمر غريبًا إلى حد ما، حيث تعاون جهاز الاستخبارات المركزية الأمريكية مع المافيا الإيطالية التي وطدت وجودها في الستينيات في مدينة ميامي الساحلية التي تبعد أقل من نصف ساعة بالطائرة عن كوبا، وبالفعل تم التعاون بين الجهتين على إنجاز خطط لاغتيال زعيم كوبا الأوحد عبر وضع السم له أو عن طريق قتله بالرصاص الحي مباشرةً، وبدأ هذا في أغسطس 1960 ولم تنجح الخطة وتم تكرارها مرة أخرى في أبريل من السنة التالية، والأعضاء المتورطون في هذه العملية هم سام جيانكانا وكارلوس مارسيلو وسانتو ترافيكانتي جونيور وجون روسيلي، لكن على ما يبدو فإنه بالرغم من قوة المافيا وبراعتها في عمليات التصفية إلا أن خطتهم لم تكلل بالنجاح ولم يذكر اقترابهم حتى من النجاح، ولكن قد لا تكون المشكلة في أفراد المافيا أنفسهم بل في كاسترو نفسه، فهو صاحب أكبر عدد محاولات اغتيال فاشلة في التاريخ ودخل بسبب هذا موسوعة جينيس للأرقام القياسية، فمنذ إطاحته بالحكم الدكتاتوري في سنة 1959 وحتى وفاته في 25 نوفمبر 2016 فقد تعرض إلى 638 محاولة اغتيال وفقًا للموسوعة ووكالات إعلام معروفة مثل البي بي سي، وقد استندوا إلى ملفات سرية – تم الإفصاح عنها فيما بعد – لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، وهو بهذا يتفوق على الدكتاتور الأكبر أدولف هتلر بمئات المحاولات.
عائلة ماجادينو
تعرف أيضًا بعائلة الجاموس نسبةً إلى مكان يدعى “بافلو” في مدينة نيو يورك حيث تم تأسيسها، أما اسم ماجادينو فهو نسبة لستيفانو ماجادينو الذي أصبح واحدًا من أهم رؤساء العصابة في تاريخها وواحدًا من أهم رجال المافيا الإيطالية على الإطلاق وهو صقلي المنشأ وحصل على الجنسية الأمريكية فيما بعد وحظى بعضوية في اللجنة، ويلقب بدون ستيفانو أو الحانوتي، وبدأت العائلة أنشطتها الإجرامية في الأجزاء الغربية من مدينة نيو يورك وأونتاريو وكندا وإيري وبينسيلفانيا، وذلك منذ العقد الثاني من القرن العشرين وحتى وقتنا الحالي، ومؤسسها هو أنجيلو بالميري.
تاريخ عائلة ماجادينو الإجرامي
بدأت العائلة باكتساب قوتها خلال فترة الكساد التي شهدت ظهور أبرز زعماء عصابات الجريمة المنظمة الأمريكية في تاريخ البلاد مثل آل كابوني، وفي سنة 1931 ومع حصول زعيم العصابة ستيفانو ماجادينو على عضوية اللجنة فقد تغير مسار العائلة إلى حد ما، حيث اتجه ماجادينو إلى النزعة السلمية أو البعد عن أنظار السلطات ورجال العائلات الأخرى وذلك حتى عقد الستينيات، ثم تغيرت دفة القيادة وحدثت انقسامات بين أفراد العائلة لدرجة أن البعض حاول اغتيال ماجادينو نفسه إلا أن هذا لم يحدث ومات بصورة طبيعية في التاسع عشر من يوليو 1974، ومرت السنين واستمرت الخلافات بين أفراد العائلة، إلا أن ظهور جوزيف تودارو كان قويًا واستطاع توحيد العائلة وتقاعد في سنة 2006، إلا أن بعض رجال الشرطة والقانون يعتقدون أنه هو الذي يدير قيادة العائلة حتى الآن مع وجود ليونارد فالزوني كمجرد رئيس واجهة، وتضم العائلة 20 من الأفراد الأساسيين وأكثر من مئة من المساعدين.
آل كابوني: أبرز رجال الجريمة المنظمة الأمريكية
عاش آل كابوني الحلم الأمريكي بطريقته الخاصة، فقد تحول إلى مليونير وشخصية شهيرة قبل أن يبلغ الثلاثين، وكانت حياته مليئة بكل أنواع الرفاهية بدايةً من الملابس الفاخرة والعلامات التجارية العالمية ومرورًا بالمجوهرات النفيسة وحتى السيارات الفارهة والمصنوعة خصيصًا له والمنازل الضخمة. كان آل طفلاً من سبعة أطفال لجابرييل وتيريزا كابوني اللذان هاجرا من نابولي في إيطاليا إلى بروكلين في نيو يورك في أواخر القرن التاسع عشر، وكان رابع إخوته الذكور مع أختين، وتوقف عن الذهاب إلى المدرسة في الصف السادس عندما كان في الرابعة عشر وبدأ بالانخراط في أعمال صبيانية كانت بداية طريق الإجرام بالنسبة له ليصبح فيما بعد أهم زعماء الجريمة المنظمة الأمريكية ، حيث كان يجتمع بشكل يومي مع غيره من الأطفال والمراهقين ممن كونوا عصابات الأطفال مثل “مغتصبو بروكلين” و”اللصوص الأربعون الصغار”، وحصل على اسمه بسبب ندبة موغلة في خده الأيسر، وهي ما قام بها فرانك جالوشيو، وبعد سنين أعاد الانضمام إلى عصابة أولاد شارع جيمس بقيادة جوني توريو الذي كان يلقب بالعقل المدبر وهو من أكثر رجال الجريمة المنظمة الأمريكية الناجحين في بروكلين في تلك الفترة. وانتقل جوني توريو إلى شيكاغو في سنة 1909 بناء على طلب الزعيم كولوزيمو أو المعروف ببيج جيم وهو من أهم زعماء المافيا الإيطالية في تلك الفترة وبنى إمبراطوريته الخاصة في شيكاغو بالاعتماد على الأعمال الخاصة بالعهر والقمار والتهديد مقابل الأمان.
الطريق نحو الإجرام
في 1918 تقابل آل كابوني مع فتاة أيرلندية طويلة نحيلة تدعى ماي كوجلين في إحدى الحفلات التي اعتاد على الذهاب إليها باستمرار، وأعجبته لدرجة أنه تزوجها في نفس السنة، مع العلم بأن هذه الخطوة قد تبدو جريئة إلى حد كبير بالنسبة لزعماء المافيا الإيطالية، فهم يعتبرون الزواج رباط مقدس إلى أبعد الحدود، والأهم أنهم يقدسون قيمة العائلة، لذا فالزواج بتلك السرعة من فتاة غير إيطالية قد أثار الريبة إلى حد ما، لكن الأمور سارت على ما يرام ورزقا بطفلهما الأول والأخير وهو ألبرت الذي أصبحت كنيته فيما بعد سوني، وكان الزعيم جوني توريو هو الأب الروحي الخاص به. في السنة التالية استطاع آل كابوني التغلب على آرتي فينيجان وهو عضو بارز في عصابة أيرلندية تدعى اليد البيضاء وهي من أبرز جماعات الجريمة المنظمة الأمريكية في ذلك الوقت، ولذا قام رئيس العصابة ويليام لوفيت أو المعروف باسم بيل المتوحش بإذاعة الخبر وقال أنه يبحث عن رجل يملك علامة مميزة في وجهه، ولذلك أرسله جوني توريو من مدينة نيو يورك إلى شيكاغو ليختفي لفترة من الوقت.
تاريخ آل كابوني الإجرامي
في مايو 1920 تعرض الزعيم بيج جيم إلى الاغتيال بدون أن يعرف أحد قاتله، وخلفه كل من جوني توريو وآل كابوني وامتلكوا إمبراطوريته الواسعة، واستطاعوا بحكمة ذكية إرساء التعاون والهدنة بين مختلف عصابات الجريمة المنظمة الأمريكية وقاموا بتوزيع المناطق، وبعد ثلاث سنين أصبحت الأمور أكثر استقرارًا بالنسبة لآل كابوني وأنشأ مقره الخاص في فندق ليكسينجتون في زاوية شارع 22 (طريق سيرماك)، وبعد سنتين تقاعد جوني توريو مع ثروة بلغت 30 مليون دولار بعد تعرضه لمواجهة خطيرة مع عصابة الجانب الشمالي وكاد أن يفقد حياته، وبصفة آل كابوني ذراعه اليمنى فقد تقلد الزعامة من بعده، وكان لا يزال في السادسة والعشرين فقط من عمره، ومن هنا أصبح زعيم الجريمة المنظمة الأمريكية في شيكاغو وبدأ بالعمل في مختلف أعمال الجريمة وبالتحديد تجارة الكحوليات وإنشاء مصانعه الخاصة التي كونت شبكات واسعة امتدت إلى كندا، ومع ذلك فقد كان له بعض الخصوم أبرزهم جورج موران المعروف باسم باجز وإيرل ويز المعروف بهيمي.
ذكاء متقد في الجريمة
لا يستطيع أي شخص أن ينكر قدرة آل كابوني المذهلة على تنظيم جرائمه وإحكامه السيطرة على شيكاغو بأكملها، فقد استطاع رشوة رجال الشرطة والسياسيين والقضاة وحتى محافظ المدينة، وأهله هذا ليستكمل الطريق في تكوين إمبراطورية الجريمة الخاصة به، لدرجة أن رئيس شرطة شيكاغو أقر أن حوالي 60% من رجال الشرطة العاملين لديه في ذلك الوقت كانوا يعملون في نفس الوقت لدى آل كابوني، وبحلول سنة 1927 كانت إمبراطورية آل كابوني تجني حوالي 60 مليون دولار في السنة وكانوا يديرون أكثر من عشر آلاف من محلات سبيكزي.
نهاية آل كابوني وتصاعد الجريمة المنظمة الأمريكية
لكن العدالة تنتصر في النهاية، فمع وجود هذا الكم الهائل من المرتشين والغاضين بصرهم، فقد استطاع بطل من الإف بي آي يدعى إليوت نيس أن يحمل على عاتقه تشكيل فرقة من رجال الشرطة المخلصين للوصول إلى رقبة آل كابوني، ولكن الطريق كان بالغ الصعوبة وتعرض إلى تهديدات ومواجهات دموية وكذلك أسرته وأسر المتعاونين معه، لكنه في النهاية تمكن من إثبات بعض التهم على آل كابوني وعصابته، وتم الحكم عليه في 24 نوفمبر 1931 بالسجن لإحدى عشر سنة مع غرامة تبلغ خمسين ألف دولار وأكثر من أربع أضعاف المبلغ لتذهب إلى مصلحة الضرائب، وبعد السجن لأكثر من نصف المهلة بسنتين تقريبًا تم إطلاق سراح آل كابوني ليذهب إلى مستشفى بالتيمور لعلاج اضطرابات دماغه ثم تقاعد في منزله الخاص في فلوريدا، وعانى من نوبة خطيرة في 1947 ليموت بنوبة قلبية في منزله. وبالرغم من حياته القصيرة إلا أنه تمكن من وضع أطر دقيقة لتنظيم الجريمة المنظمة الأمريكية ليصبح الأب الروحي للمافيا في العقود التالية وحتى يومنا هذا، وظهر في عدد كبير من الأفلام وجسد دوره أكبر الممثلين مثل روبرت دي نيرو.
المافيا الصينية في أمريكا
يقترب عدد سكان جمهورية الصين الشعبية بمقاطعاتها المترامية الأطراف من المليار ونصف مليار إنسان في قارة آسيا التي تحتضن أكثر من نصف عدد سكان العالم، لذا فإنه من المنطقي أن نجد لهم ظهورًا واسعًا في مختلف أرجاء العالم في كافة الأنشطة سواء كانت إيجابية أو سلبية، ومع أنك قد تسمع في بعض الأحيان عن الاحترافية العالية والساعات الطويلة التي يقضيها الصينيون في العمل فإنك ستسمع في أحيان أخرى عن الأنشطة الإجرامية العتيدة التي يقومون بها، فمثلاً الحي الصيني في سان فرانسيسكو هو من أسوأ الأحياء سمعة في الولايات المتحدة من ناحية معدل الجريمة.
يشار إلى مجموعات الجريمة المنظمة الصينية حول العالم بأسامي متعددة وأشهرها هو فرع منظمة “ترياد” التي لا تعتبر منظمة واحدة ويندرج منها مجموعات فرعية تندرج منها مجموعات أصغر، وتنتشر مجموعات ترياد في الصين وهونج كونج وتايوان بشكل أساسي باعتبار التوزيع الإقليمي، لكن في البلدان التي يكثر فيها أعداد الصينيين نجد ظهور جامح لتلك المجموعات مثلما في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وفيتنام وكوريا الجنوبية واليابان وسنغافورة والفلبين وإندونيسيا وماليزيا وتايلند وكذلك بلدان أوروبية مثل المملكة المتحدة وبلجيكا وهولندا وفرنسا وإسبانيا وحتى في جنوب أفريقيا وأستراليا ونيوزيلاندا.
تجارة المخدرات والمافيا الصينية
يرتبط مخدر الأفيون الذي يعتبر من أقدم أنواع المخدرات وأقواها بشكل رئيسي بالقارة الآسيوية، ومع قوانين حظر زراعة وتجارة الأفيون في القرن التاسع عشر فقد حملت تلك المجموعات على عاتقها تجارة المخدر بطرق غير شرعية على نطاق عالمي، ومع تقدم السنين وظهور المخدرات الجديدة نوعًا ما مثل الهيروين والكوكايين فقد قلت شعبية الأفيون – في خارج آسيا على الأقل – وتحولت العصابات الصينية إلى تجارة تلك الأنواع وبدأوا بعمليات التهريب إلى أمريكا الشمالية وبالتحديد حدث هذا بشكل كبير في الستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم، وهذا بالتوازي مع التهريب الهائل الذي كان يأتي من كولومبيا وإمبراطورية بابلو إيسكوبار، وحاليًا أهم منظمات الجريمة المنظمة الصينية التي تسيطر على تلك التجارة هي منظمة 14K ومنظمة تاي هوين تشاي، وفي السنوات الأخيرة وكي يواكبوا متطلبات السوق أو بالتحديد متطلبات المدمنين الجدد فإنهم بدأوا بالعمل على التجديد والتجارة في أنواع جديدة مثل مخدر الميثفيتامين القاتل وحبوب الإكيستاسي وكذلك حبوب الترامادول الذي لا توجد قوانين تحظر صنعه عالميًا الآن والذي يتم تصنيعه على مستويين، المستوى الأول هو الاستخدام الطبي العادي والذي تقوم به شركات الأدوية المرخصة، أما المستوى الثاني فهو عبارة عن خطوط إنتاج هائلة تعمل في الخفاء وتنتج مئات الملايين من الحبوب سنويًا، ووفقًا لتقرير حديث أصدرته الأمم المتحدة بشأن هذا المخدر المسبب للإدمان وآثار صحية بالغة أهمها التأثير على الجهاز العصبي فإن الهند هي صاحبة المركز الأول في هذه الصناعة غير القانونية، لكن لا يغيب دور جماعات الجريمة المنظمة الصينية وتعمل بصورة بارزة.
تاريخ منظمة 14K الإجرامي
من بين مختلف منظمات ترياد الصينية المنتشرة في أرجاء أمريكا وبالتحديد الولايات الشرقية والشمالية، فإن تلك المنظمة تبرز بشكل خاص بسبب قوة التنظيم وحدة أعمال العنف التي تقوم بها، والمقر الأساسي للمنظمة هو هونج كونج إلا أنها تحسب على أنها ضمن الجماعات الصينية، ومن ناحية العدد فهي ثاني أكبر جماعات ترياد في العالم بأسره حيث تبلغ الأعداد الكلية للأفراد ما يقرب من خمس وعشرين ألف فرد يتوزعون في ثلاثين مجموعة، وهم يعتبرون الخصم الأول لجماعة سون يي أون التي تعتبر أكبر الجماعات، وقد تم تأسيسها في سنة 1945، وتعمل المنظمة في دول ومناطق عديدة لا نستطيع حصرها إلا أن الأنشطة تتركز في المقاطعات الصينية المختلفة وتايوان والفلبين وتايلند وماليزيا والولايات المتحدة وكندا وبلدان أخرى، وأهم الأنشطة بالنسبة لهم تهريب المخدرات والأسلحة والدعارة والاتجار بالبشر وعمليات السرقة والاحتيال بمختلف أنواعها بدايةً من السطو على المحلات الصغيرة وسرقات بطاقات الهوية الشخصية وحتى سرقات المصارف، وتم إثبات عمليات قتل وخطف عديدة على مدار العقود الماضية.
الحلفاء والأعداء
تمثل تلك الجماعة ذعرًا لمختلف جماعات الجريمة المنظمة الأمريكية سواء كانت جماعات المافيا الإيطالية أو غيرها، لكن بشكل خاص فإن هناك بعض الجماعات التي تعتبرها من الخصوم الدائمين مثل جماعة سون يي أون كما ذكرنا في المقام الأول وجماعات آسيوية أخرى مثل شوي فونج وو شينج وو وآه كونج وجماعة الدائرة الكبيرة التي تعمل بصورة تشبه الجماعات العسكرية وقد انبثقت بعد الثورة الشيوعية في الصين، لكن كحال بقية العصابات الأخرى فإن لهم حلفاء يتعاونون معهم في مختلف العمليات خاصةً التي يتحتم فيها وجود تعاون منظم مثل جماعة رأس الثعبان الصينية (المتحالفة مع المافيا الإيطالية والياكوزا اليابانية) والتي تتخصص بشكل رئيسي في عمليات الرشوة وتزوير الوثائق وغسيل الأموال وتهريب البشر، أما حليفهم الذي يثير تعاونهما معًا الغرابة هو جماعة أبو سياف وهي أكبر الجماعات الإسلامية المتشددة في الفلبين وهي منبثقة من جبهة التحرير الوطنية في مطلع التسعينيات من القرن المنصرم، فحتى تنظيم القاعدة المتشدد ترك التعاون مع تلك الجماعة منذ سنين، إلا أن جماعة 14K لاتزال متعاونة معهم وربما تكون العصابة الكبيرة الوحيدة المتعاونة معهم.
تناقص الجريمة المنظمة الأمريكية في العقود الماضية
بعد الحرب العالمية الثانية تزايدت وتيرة الجريمة في الولايات المتحدة، ووصلت الذروة في السبعينيات وحتى بداية التسعينيات، وبالتحديد فإن العنف في الجريمة المنظمة الأمريكية تزايد بشكل ملحوظ وأصبح واقعًا لا مفر منه منذ سنة 1960 وحتى 1991، ولكن بعد ذلك قلت المعدلات بدرجة ملحوظة جدًا مع مرور السنين، ويعزي البعض هذا إلى أسباب عديدة منها الزيادة التدريجية الكبيرة لأعداد الشرطة وزيادة حدة القوانين خاصةً عندما أقر الرئيس بيل كلينتون قانون التحكم بالجريمة في 16 سبتمبر 1994، وفيه تم النص على إنفاق أكثر من 30 مليار دولار كمساعدات فيدرالية وذلك على فترة مدتها ست سنوات لتحسين كفاءة قوى القانون وضبط كل ما يتعلق بالسجون وزيادة كفاءة برامج منع الجريمة، كما أن البعض يربط تصاعد العنف في تلك العقود بظهور المخدرات الفتاكة مثل الكوكاكيين والهيروين، حيث كانت أشبه بموضة يقوم بها مختلف أنواع الفئات العمرية والاجتماعية، لكن بعد مرور السنين وبعد زيادة الحملات التوعوية وإدراك الناس لمدى فتك تلك المخدرات قلت النسب تدريجيًا، ومع أسباب أخرى مثل زيادة متوسط الدخل.
يخبرنا بعض الخبراء أن السبب الأقوى هو التكنولوجيا، حيث أصبحت الأجهزة الحديثة المعين الأول لرجال الشرطة للإمساك بالمجرمين وحتى منع الجريمة وترهيب من يفكر باقتراف الجرائم، وظهرت العديد من المسلسلات التلفزيونية التي جعلت الشعب الأمريكي يوقن في وعيه الباطن بأن رجال الشرطة هم أذكى الفئات المجتمعية وظهرت جمل عديدة تؤكد هذه الأفكار مثل أن الجريمة لا تفيد وأنه لا توجد جريمة كاملة مهما أتقنها أي إنسان، كما أن اختراق الإف بي آي لجماعات الجريمة المنظمة الأمريكية تسبب في القضاء على تلك الإمبراطورية التي تحولت إلى تاريخ قديم يظهر فقط في الأفلام والمسلسلات، وبالرغم من أن تلك الجماعات موجودة حتى وقتنا الحالي إلا أنها تعمل في الخفاء وتريد دومًا التقليل من عملياتها مع مرور السنين واستثمار أموالهم في أعمال شرعية.
أضف تعليق