لا تزال حادثة مقتل إيميت تل التي وقعت في عام 1955 أكبر دليل على أن العنصرية في الولايات المتحدة الأمريكية قد وصلت إلى أعلى مستوى ممكن لها خلال القرن الماضي، وأن ما حدث الآن من تمكين أصحاب البشرة السوداء ووصولهم إلى مناصب هامة وتحولهم إلى نجوم سينما أو رياضة أو حتى رؤساء سابقين لهذه الدولة مجرد ردة فعل لما حدث مع بطل قصتنا إيميت، والذي لم يكن يتوقع أبدًا أن قتله في سن الرابعة عشر سيؤدي إلى كل هذه التغيرات، كذلك لم يكن الفتى على علم أبدًا بأن مجرد مزحة بسيطة سوف تقوده إلى الموت، والأدهى من كل ذلك أن يحصل من قتلوه على البراءة بكل سهولة وسط حسرة وقهرة من والدة إيميت، على العموم، نحن الآن لن نبالغ في مقدمتنا ونسرد كل شيء، وإنما سنجعل هذا الأمر مهمة السطور القادمة التي سنتناول فيها حادثة قتل إيميت تل وتوابع تلك الحادثة، فهل أنتم مستعدون لفاصل من المعاناة؟
الطفل إيميت تل
قبل أن نسرد لكم تفاصيل ما حدث وأدى بدوره إلى مقتل الطفل إيميت تل دعونا أولًا نتعرف على هذا الطفل البريء، فهو إيميت تل المولود في ولاية شيكاغو عام 1941، صاحب بشرة سمراء اكتسبها من الأصل الإفريقي الذي يعود إليه، وهو بالمناسبة الحال مع الكثير من المهاجرين الذين تواجدوا في الولايات المتحدة الأمريكية بهذا التوقيت وكانوا في الأساس سببًا من أسباب نهضتها وتقدمها، على العموم، لم يُخفي إيميت لونه الأسود لأنه ليس بمقدوره فعل ذلك بطبيعة الحال، ولذلك واجه الكثير من العنصرية التي كانت في النهاية تصل إلى العنصرية اللفظية أو ربما في مرات تعد على الأصابع تعرض إيميت للضرب من أصدقائه أصحاب البشرة السوداء، في النهاية كانت الحياة تمضي وكان إيميت يستمتع بوجوده على قيد الحياة وسط والديه، حتى جاء ذلك اليوم المشؤوم من عام 1955 وتغير كل شيء، للأسوأ.
إيميت يدخل الجحيم
في الحقيقة ليست هناك تفاصيل مؤكدة لما حدث بالضبط في هذا اليوم، إذ أنه ثمة الكثير من الروايات التي خرجت وثبت صحة بعضها وثبت كذب بعضها، على العموم، خرجت أم إيميت تل ذلك الصباح وأردت اصطحاب إيميت في زيارة عائلية إلى خالته بمنطقة دلتا الميسيسبي، وقد كانت تُحذره أكثر من مرة من التحدث مع الأشخاص ذوي البشرة البيضاء، إذ أن العنصرية في هذه الآونة كانت قد وصلت إلى أعلى درجة لها، لكن إيميت، والذي نذكركم أنه مجرد طفل لم يُكمل الرابعة عشر بعد، لم يستمع لتنبهات والدته ودخل محل بقالة تملكه سيدة في الحادية والعشرين من عمرها تُعرف باسم كارولين، ولو كنا دقيقين فإن وصف ما فعله إيميت بالضبط أنه قد وضع قدميه في الجحيم، أو ما سيتضح أنه كذلك لاحقًا.
داخل محل البقالة
دخل إيميت تل محل البقالة دون إخبار والدته، ثم قم بإصدار صوت الصفير أمام صاحبة المحل كارولين حسبما ادعت، أيضًا لاحقًا قالت إنه أمسك بزراعيها وقام بلمسها، بما يُفيد ببساطة التحرش بها، فما كان من كارولين إلا أن صرخت بينما غادر إيميت تل المحل وهو لا يُدرك أساسًا ما فعله للتو، فببساطة شديدة هو طفل، حتى أنه لم يُخبر والديه عندما عاد للمنزل بما حدث لأنه لا يظن أساسًا بأن شيء ما قد حدث، لكن بالنسبة لصاحبة محل البقالة كارولين فإنها قد انتظرت عودة زوجها حتى تُخبره بما حدث، قالت له صراحةً أن شخص أسود قد اعتدى عليها، فما كان من زوجها إلا أن جُن جنونه وقرر إعطاء الفتى إيميت ما يستحقه من عقاب، تخيلوا ما هو العقاب الذي رأى الزوج أن إيميت يستحقه جراء فعلته؟ ببساطة شديدة الموت، وفي طريقه لتحقيق ذلك اصطحب شقيقه، وكان كلاهما لا يُبطنان أي شيء آخر بخلاف الشر!
جريمة إيميت تل
بالفعل تمكن الزوج وشقيقه من اختطاف إيميت تل دون أن يشعر به والديه وظلا على امتداد ثلاثة أيام يُعذبانه وينكلان به بكل طرق العذاب الممكنة حتى وصل الأمر إلى اقتلاع عينيه، ثم بعد ذلك وبكل سهولة قاما بدفنه، كان الأمر بالنسبة لهم عادي، بالنسبة للمجتمع بأكمله عادي، ففي النهاية هذا مجرد طفل أسود لا قيمة له، أو هكذا كانوا يفكرون وقتها، حتى بعد أيام قليلة، وتحديدًا ثلاثة أيام عندما تم اكتشاف الجثة، لم تكن هناك أية ردة فعل تُذكر، إذ أن الصحافة والإعلام بشكل عام لم يُعطي الأمر أي انتباه، كذلك القتلة كانوا يسيرون في الشوارع بصورة طبيعية ولم يدفعهم الخوف إلى الهرب مثلًا أو النجاة بأنفسهم، النجاة من أي جرم يا تُرى؟ هكذا كانوا يفكرون على اعتبار أن ما حدث مجرد أمر عادي لا يرتقي إلى الجريمة.
الأمور تأخذ منحنى تصاعدي
بعد ثلاثة أيام تم اكتشاف الجثة وقامت أم إيميت بنشر الخبر في كل مكان في الولايات المتحدة الأمريكية، أرادت الانتقام لوفاة طفلها فلعبت على العواطف واستهدفت الفئة التي يُمكنها خدمتها في هذه الحالة، ببساطة، لقد استهدفت أصحاب البشرة السوداء على وجه التحديد، حيث نادتهم بالانتفاض والوقوف أمام عملية القتل التي يتعرضون لها وكأنهم مجرد كلاب في الشوارع، وبالفعل أخذ الأمر منحنى تصاعدي سريع وقامت ثورة أو انتفاضة من جميع حاملي البشرة السوداء في العالم، الجميع رفع لافتات تحمل صورة إيميت بالإضافة إلى قيام والدته بفعل أكثر جنونًا لكنه ساهم كذلك في جذب التعاطف أكثر إلى الحادثة وتسليط الضوء عليها، وبالتالي ضمان ردة فعل أكبر.
ما فعلته والدة إيميت ببساطة أنها في لحظة الجنازة فتحت التابوت الذي يحمل طفلها وأصرت على أن تُقام كافة الشعائر والمراسم الخاصة بعملية الدفن أثناء فتح التابوت لكي يرى العالم بأكمله ذلك القدر الكبير من الجنون الذي وصل إليه أصحاب البشرة البيضاء، وقد كان هناك وفد كبير من الصحفيين حاضرًا في هذه الأثناء وأحسن استغلال تلك المناظر والترويج لها مع الوضع في الاعتبار أساسًا أن إيميت كان تعرض لعملية تهشيم للجمجمة أثناء التعذيب مع بعض الأمور الأخرى التي أسهمت في كون حالة الجثة داعية أكثر تعاطفًا، فلم يُقتل الفتى فقط، وإنما عُذب أيضًا لمجرد كونه أسمر!
براءة ظالمة
لا نزال مع مجريات مقتل إيميت تل ، فبعد أن تم تصعيد القضية أمام الرأي العام ألقت المحكمة القبض على القاتل وشقيقه الذي اشترك معه في الجريمة، لكن المفاجأة أنه بعد فترة ليست بالكبيرة من التحقيق حصل كلا القاتلين على البراءة، حيث قالت المحكمة أنهما لم يتعمدا القيام بجريمة القتل وأنه كان مجرد ضرب، أيضًا قالوا أن الأمر كان دفاع عن النفس من الدرجة الأولى، والغريب أن المحكمة قد أخذت ذلك وسلمت به تمامًا، وبالتالي أخلت سبيلهما، خصوصًا وأن الجميع كان يتوقع عقوبات صارمة تفتح الباب أمام وجود مجتمع يتعايش فيه الأبيض والأسود معًا، هذا أيضًا مع الوضع في الاعتبار كون تلك البراءة قد جاء بعدها اعترف من القتلة بأنهم قد قتلوا إيميت تل متعمدين، حيث كانوا يمشون في الشارع ويتحدثون للناس بتفاخر عن كونهم قد أنهوا حياة فتى أسمر دون أن تمسهم ذرة أذى واحدة.
تأنيب الضمير الخاص بهذه القضية نال فقط كارولين، تلك الفتاة التي بدأ وانتهى عندها كل شيء يتعلق بهذه الجريمة، فقد قالت كارولين بعد فترة أنها لم تشهد أي فعل سيء من إيميت، هو فقط قام بالصفير بالقرب منها، ثم قالت صراحةً أنها لم تكن تتمنى أبدًا أن يصل الأمر إلى ما وصل إليه وأنها تندم على ذلك وتود لو يعود بها الزمن ولا تُخبر زوجها، وبالطبع تلك الشهادة إنسانية ورائعة من كارولين، لكن هل هي كفيلة بإعادة إيميت تل للحياة، بكل تأكيد لا، إذًا هي ليست ذو قيمة.
عودة إيميت تل
هل يعود الأموات؟ بالطبع لا، لكن من الممكن جدًا عودتهم للحياة من خلال الحديث عنهم، وهذا ما حدث مع إيميت تل مطلع الألفية الحديثة، حيث أنه قد شهد تذكر الناس مرة أخرى لحادثة القتل الظالمة التي تعرض لها وما تبع ذلك من إغفال وتكتم عن الموضوع وعدم إعطاء المجرم القدر الذي يستحقه من العقاب، ففي تلك الفترة أصبح أصحاب البشرة السمراء قوة لا يُستهان بها ووصل بعضهم إلى مناصب كبرى للغاية في الحكم، بالتالي بات من حقهم تمامًا إخراج صوتهم، وقد ظهر كل ذلك من خلال تولي الرئيس أوباما رئاسة هذه الدولة لثمانية سنوات متتالية.
ما يشغلنا الآن أن نعرف بأن إيميت تل أصبح في نظر القضاء الأمريكي، بعد سنوات طيلة من موته، بريئًا، وهذا بعد أن مات القاتل وشقيقه، وإن كان يتردد أن شقيق القاتل، والذي ساهم هو الآخر في جريمة القتل، قد اعترف في نهاية حياته بأنه قد ساعد في قتل هذا الطفل بلا رحمة، المهم أن إيميت بات الآن يحظى بدرجة المُلهم، فمنذ اتحاد أصحاب البشرة السوداء بعد موته وقد بدا جليًا أنه يُمكن أن يخرج من بين هؤلاء كيان قوي، وهذا ما تحقق لاحقًا بالفعل، أما والدة إيميت تل فقد ماتت لاحقًا وهي لا تزال متحسرة على وفاة طفلها، تلك الوفاة التي زلزلت المجتمع الأمريكي بأكمله ولا تزال تبعات ذلك الزلزال مستمرة حتى وقتنا الحالي، هذا اعتبرنا أن أصحاب البشرة السمراء قد عرفوا حقهم في التعايش منذ ذلك اليوم وطالبوا به.
حوادث مشابهة
إياك أن تعتقد عزيزي القارئ أن ما تعرض له الطفل إيميت تل هو الشاهد الوحيد على العنصرية التي كان يعج بها المجتمع الأمريكي في ذلك التوقيت، فبالتأكيد الأمر ليس بهذه البساطة، وإلا فإن تلك الحالة كانت لتكون حالة فردية، لكن في نفس الفترة أيضًا تم قتل أكثر من شخص أسود بدافع العنصرية كما تم كذلك إذلال أصحاب البشرة السوداء من خلال القرود وإعادة سوق العبيد مجددًا مطلع القرن العشرين، والحوادث التي يُمكنها أن تدعم ذلك ليس هناك أكثر منها بالتأكيد.
ختامًا عزيزي القارئ، لا يسعنا سوى أن نؤكد على نعمة الإسلام الذي لا يُفرق بين أبيض وأسود ونعمة العقل التي تجعلنا لا ننظر إلى الناس ومقامهم من خلال لونهم، فقد بدا هذا الأمر قديمًا وكأنه عدوى مصاب بها عدد ليس قليل من الأمريكيين.
أضف تعليق