يُعتبر أليكساندر بيشوشكين أكبر دليل على أن الجنون من الممكن جدًا أن يتواجد في البشر بصورة أكبر مما نتخيل بكثير، يمكن أن يدفعهم مثلًا إلى قتل أكثر من ستين شخص مثلما حدث مع بطلنا الشرير أليكساندر، والذي كان يُريد قتل ما لا يقل عن أربعة وستين شخص بسبب حبه الشديد للعبة الشطرنج التي تتكون من نفس العدد من القطع، الأدهى أنه كان لا يجد أي مُشكلة خلال ارتكاب كل هذه الجرائم، فلم يُشتبه به ولو لمرةٍ واحدة لأنه كان طبيعيًا إلى أبعد حدٍ ممكن، وهذا ما سيُكتشف نقيضه في النهاية عندما نعرف بشأن الحادث الذي تعرض له في طفولته، لكن الآن دعونا نبدأ بما هو أهم، حيث التعرف على أليكساندر وظروفه التي مر بها، وكيف كان يقتاد ضحاياه ويُرسلهم إلى مثواهم الأخير بكل سهولة، فهل أنتم مستعدون لخوض تلك الرحلة المجنونة مع شخص لا يقل جنونًا عنها!
من هو أليكساندر بيشوشكين؟
بكل أسف، يُجبرنا المنطق على أن نُعرف أولًا ببطل القصة مهما كان ما فعله، فلو لم تعرف البطل فلا قيمة لأن تعرف ما قام به، وبطل هذه القصة هو الروسي أليكساندر بيشوشكين، الذي وُلد في مدينة موسكو خلال سبعينيات القرن الماضي، وهو وقت كان الاتحاد السوفيتي به يلفظ أنفاسه الأخيرة ويستعد للتعامل كدولة عادية ممثلة في روسيا وليست قوى عظمى مثلما هو الحال مع الولايات المتحدة الأمريكية التي وجدت ذلك المكان على تم استعداد لاستقبالها، عمومًا، وبعيدًا عن البلد المنشأ لبطلنا المجنون، فإن النشأة نفسها كان مثالية بحق، وإذا كنا نعتقد أن أي سفاح أو مجرم يجب أن يمر بسنوات سوداء في طفولته فلا يجب أن نعتبر السفاح الروسي الذي نتحدث عنه ضمن ذلك الاعتقاد، وذلك لأنه ببساطة قد حظي بعائلة يحلم الكثيرون أن يحظوا بمثلها، ولا يجب أن نتوقف عند العائلة، فهناك أمور أخرى رائعة له.
طفولة أليكساندر بيشوشكين
بدأت طفولة أليكساندر بداية مثالية، كان لديه عائلة متوسطة الدخل تستطيع إطعامه أفضل الطعام وإلباسه أفضل الملابس وإدخاله أفضل المدارس، كل شيء كان مثالي، حتى أوقات الدراسة قد مرت على أفضل ما يكون، فقد كان الطفل ذكيًا إلى حدٍ كبير، وبعيدًا عن تفوقه في الدراسة فقد كان ثمة دليل آخر على ذلك الذكاء، وهو أنه كان بارعًا في لعبة الشطرنج، وهذه اللعبة كما نعرف هي لعبة الملوك الأذكياء ودواهي الحروب، لكن أليكساندر كان يُتقنها منذ سن العاشرة، وإلا هنا يُمكن أن نُهلل ونقول أنها أفضل طفولة مثالية في الحياة، لا مشاكل عائلية ولا مادية وحتى دراسة، بيد أن القدر لم يعود أحد أبدًا أن يكون رحيمًا معه كل هذا القدر، ببساطة، كان لا بد من قرصة أذن للفتى وعائلته، ومن سوء الحظ أن قرصة الأذن تلك قد ألقت بظلالها السيئة على أكثر من ستين ضحية فيما بعد!
حادثة تُغير مجرى الحياة
كما ذكرنا، كان كل شيء يسير بصورة طبيعية، لكن عندما كان أليكساندر بيشوشكين في سن الثالثة عشر تعرض لحادث بدراجته فسقط على رأسه فاقدًا الوعي، ومن هنا بدأ كل شيء يتغير، فقد ظل الطفل في غيبوبة لمدة ست أيام كان يُتوقع أنه لن يقوم منها أبدًا لكن من سوء الحظ أنها قد نجى منها ولم تُحدث الحادثة تغيرات جسدية ملحوظة، فلم تكسر قدمًا أو يد، بل إنها قد ضربت أكثر مكان يجب الابتعاد عنه في أي إنسان، وهو الرأس، وفيما بعد ستعرفون سبب تمنينا عدم نجاة أليكساندر من تلك الحادثة، لكن الآن دعونا نتطرق إلى حياته التي أكملها وكأنها حياة طبيعية قبل أن تبدأ الأعراض الغريبة في الظهور عليه وتقوده إلى المصير الذي انتهى إليه.
أليكساندر بيشوشكين اللاعب المُخضرم
قلنا من قبل أن أليكساندر لم يكن مجرد طفل ذكي، بل كان كذلك يلعب ألعاب عديدة عبقرية على رأسها الشطرنج، والحقيقة أنه عندما أنهى دراسته الجامعية قرر احتراف تلك اللعبة وجعلها شغفه الأول والوحيد، لذلك كان يذهب إلى النوادي والأماكن المخصصة لتلك اللعبة ويقوم بمباراة الأشخاص المخضرمين بها، وطبعًا كان يهزمهم الهزيمة تلو الأخرى، حتى علا شأنه وأصبح يتمتع بشهرة كبيرة بين الجميع داخل النوادي والأماكن العامة، كما أنه في نفس الوقت كان قد كسب حب واحترام الفقراء والمشردين الذين كانوا يجلسون أمام الحدائق والنوادي التي كان يتردد عليها، ببساطة، يُمكننا القول أن أليكساندر قد استطاع بسهولة كسب ثقة وحب الجميع، لكن، في يوم من الأيام القابعة في عام 1992 قرر الشاب المجنون أن يفعل شيئًا أكثر متعة من مجرد لعب الشطرنج، هذا الشيء قد يكون القتل مثلًا!
أليكساندر بيشوشكين السفاح
في عام 1992 تحولت دفة أليكساندر من لاعب شطرنج إلى سفاح مجنون، كان يقتاد الضحايا إلى أماكن خاوية وهادئة في الحدائق ثم يقوم بقتلهن والتمثيل بجثثهن، الأغرب أنه كان يفعل ذلك الأمر في وضح النهار ودون أي خوف من السقوط، وهذا في الحقيقة يرجع إلى جنونه وعدم مبالاته، وفي نفس الوقت ثقته الكبيرة في نفسه وقدرته على التخطيط لأدق التفاصيل، ذلك التخطيط الذي كان يجعله كذلك قادر على اصطياد ضحاياه واختيارهم اختيارًا أمثل.
ضحايا أليكساندر كانوا غالبًا من أولئك الذين قد تمكن من كسب ودهم من قبل، وهم المتشردين الذين كانوا يجلسون أمام النوادي والحدائق أو كبار السن الذين كان يغلبهم خلال لعب الشطرنج، فهؤلاء أولًا كانوا يثقون به وثانيًا لن يتمكنوا من مقاومته خلال القتل، وطبعًا حين تقع الجرائم لم يكن أحد يجرؤ على مجرد الشك في أليكساندر لأنه كان يمتلك قدرة هائلة على التمثيل والتصنع، لكن، هل أمهله القدر حتى يصل إلى هدفه؟ بالتأكيد لا، فهدفه هذا لم يكن أن يصبح طبيبًا أو مهندسًا، بل أن يقتل أكبر عدد ممكن من الناس، فكيف يتركه القدر ليفعل ذلك!
سقوط أليكساندر بيشوشكين
في الحقيقة استمر سفاح رقعة الشطرنج في القتل حتى بلغ ضحاياه الستين، أما بالنسبة لعداد الوقت فقد بدأ ارتكاب الجرائم في عام 1992، وجاء سقوطه عام 2006، أي نحن نتحدث في حوالي أربعة عشر عامًا، وهو وقت مجنون جدًا لشخص لا يفعل شيء سوى القتل أو التفكير في القتل، وطبعًا الشيء الغريب الذي تحدثنا عنه أن أليكساندر كان يفلت من جرائمه بسهولة، لكن على كلٍ لم يكن ليستمر على ذلك المنوال للأبد، خاصةً وأنه قد أخطأ ذات مرة وقام بقتل شخص قريب جدًا من دائرته، فكان من الطبيعي اتهامه والتحري عنه حتى إثبات التهمة.
في بداية عام 2006 كانت صديقة أليكساندر المقربة هي ضحيته الستين، ولأنه كان يُشاهد معها كثيرًا لم يتشكك أحد ولو دقيقه في ضلوع أليكساندر بهذه الجريمة، والأمر الذي أدانه أكثر أنه قد نفى علاقته بتلك السيدة المقتولة بالرغم من صداقتهما التي كانت معروفة للجميع، وعلى ما يبدو أن تلك الواقعة كانت القشة التي قصمت ظهر البعير، حيث أن جهات التحقيق لم تقتنع أبدًا بأقوال أليكساندر وقامت بإلقاء القبض عليه بتهمة قتل صديقته، وخلال التحقيقات ظهرت الحقائق تباعًا ليُصعق الجميع بما يقوله ذلك الرجل وما اعترف به وبدا أقرب إلى الخيال.
الاعترافات تُزلزل المحاكمة
بعد القبض عليه كان الجميع يتوقع أن يجري الأمر تمامًا مثلما يجري مع الآخرين، بمعنى أن المتهم سيقف في القفص ويستمع للتهم الموجهة إليه ثم يقوم على الفور بإنكار جميع التهم، لكن هذا لم يحدث، فقد انفرط عقد الاعترافات للدرجة التي تمنع من السيطرة عليه وبدأ أليكساندر يصف كافة جرائمه والكيفية التي ارتكبها من خلالها، هذا بالإضافة إلى الإرشاد عن أماكن الجثث، تلك الجرائم التي لم تكن في الأصل موجهة إليه، لكن قرر أن يجعل من هذه المحاكمة جلسة رسمية لتسجيل كافة الأعمال المُدهشة التي قام بها، وكأنه مثلًا كان يتحدث عن آخر أعماله الفنية.
كان أليكساندر بيشوشكين يتحدث بفخرٍ غريب لا يليق أبدًا مع الموضوع الذي يتحدث عنه، فالقاتل الذي يرتكب جرائم القتل من المعروف عنه أنه في هذه اللحظات يشعر بالكثير من الخجل والندم، وربما يبكي أيضًا خلال لحظات الاعتراف تلك، لكن أليكساندر لم يكن يفعل أي شيء من ذلك، بل بدا واثقًا وفخورًا بما يقوله، وقد قال مقولة شهيرة في هذه المحكمة مفادها أنه لا يشعر بالحياة إلا عندما يقتل، وأنه عندما يفعل ذلك لا يقوم بظلم من يقتلهم وإنما يفتح لهم باب الحياة الأخرى حسبما يظن، وهذا ما جعل المحكمة تلجأ للحصول على تفسير مناسب لهذا الجنون من أشخاص يُمكن الثقة بهم.
لماذا يحدث هذا مع بيشوشكين؟
تم توجيه هذا السؤال إلى شخصين مهمين جدًا في رحلة أليكساندر قبل الحكم، الشخص الأول والدته، والتي عاشت معه فترة طويلة من الزمن وتعرف جيدًا ما الذي مر به، وقد قالت والدته أن طفلها قد تغير تمامًا منذ يوم الحادثة وأصبح أكثر عدائية وارتكابًا للحوادث التي لم تكن تتوقع أبدًا أنه سيرتكبها في يومٍ من الأيام، أما الشخص الآخر الذي تم استشارته فيما يحدث من قِبل بطلنا المجنون فهو الطبيب النفسي له، والذي قال بأن القشرة الدماغية التي تحجب الشخص عن ارتكاب الجرائم والعنف بشكل عام قد تعرضت للتلف خلال الحادثة، مما أدى إلى كل هذا العنف والقتل.
حكم غير عادل بالمرة
تخيلوا يا سادة أن ذلك الشخص الذي تجاوزت أعداد ضحاياه الستين ضحية وظل يقتل لأعوام مديدة لم يحصل في النهاية على العقاب الذي يستحقه؟ فلو جئتم بأي طفلٍ في الشعر وأخبرتموه بتفاصيل القضية ثم طلبتم منه حكمًا عادلًا فبلا أي تردد لن يُخبركم سوى بحكم واحد، وهو الإعدام بأسوأ طريقة مُمكنة في الوجود، لكن هذا لم يحدث، وإنما تمت إدانة أليكساندر بيشوشكين وسجنه لمدى الحياة، أجل كما سمعتم تمامًا، لا يزال ذلك الرجل يعيش حتى الآن في هذا العالم، وحتى ولو كان ذلك في السجن فإن ما نرمي إليه يتلخص في أن شخص مثله كان من الواجب أن تُنهى حياته في اليوم التالي للقبض عليه، لكنه لا يزال حيًا ويأكل مما نأكل منه ويشرب مما نشرب منه، وربما يمتلك في سجنه تلفاز ومُكيف ولاب توب بشبكة إنترنت يتصفح عليها آخر أخبار لعبة الشطرنج التي طالما عشقها حتى أصبح مجرمًا مهووسًا بها.
أضف تعليق