طبعًا لا يخفى على أحد أن ذكر الصحابي خالد بن الوليد شيء كفيل جدًا بإثارة الرهبة في النفوس، فهو الرجل الذي يُمثل سيف الله المسلول والشخصية الأكثر قوة في التاريخ الإسلامي، وربما الشيء الأكثر إبهارًا في حياتها أنه قد قضاها في القتال والحرب، بينما الشيء الأكثر إبهارًا في مماته أنه قد قضى نحبه وهو على فراشه دون الموت في المعركة مثلما هو طبيعي في حالته، كان رضي الله عنه شديدًا في الإسلام وقبل الإسلام وكانت له العديد من المواقف الفارقة في التاريخ بأكمله وليس فقط التاريخ الإسلامي، والواقع أن خالد لم يُضع كثيرًا من الوقت بعد دخول الإسلام في قلبه، إذ أنه في اليوم التالي لإعلان إسلامه خاض الحروب وكتب الله بفضله ثم فضل خالد ورفاقه النصر للمسلمين، وهذا ربما غيض من فيض ما يجعلنا أمام شخصية تاريخية عظيمة تستحق الأجيال القادمة فعلًا أن تعرف بها وتتعلم منها، فهي بنا نُبحر في رحاب سيرة خالد.
من هو خالد بن الوليد ؟
بداية حديثنا عن خالد بن الوليد ستكون بتعريفه لكم، فهو خالد بن الوليد بن المغيرة، يلتقي خالد في نسبه مع النبي في جده مرة بن كعب، وقد ولد خالد في السنة الثلاثين قبل الهجرة، أي عام 592، وذلك في شبه الجزيرة العربية لعائلة المغيرة الشهيرة، ومثلما هو معتاد في هذه المرحلة فقد تم إرسال خالد مع أحد المرضعات وهو في سن صغيرة ليتربى في الصحراء ويُسقى من منبع الرجولة الحقيقي، وقد ظل خالد في الصحراء حتى سن السادسة ثم عاد بعد ذلك إلى والديه، وربما كانت تلك الفترة هي التي شهدت وجود حياة خالد على المحك بسبب إصابته بمرض الجدري اللعين، حيث أنه كان قريبًا من الموت الذي نجى منه في اللحظات الأخيرة، بيد أن المرض قد ترك له بعد الندبات الصغيرة في خده الأيسر، وبشكل عام فإن خالد كان بائن الطول يميل إلى البيض بشكل يُشبه كثيرًا الفاروق عمر بن الخطاب، للدرجة التي جعلت البعض يخلطون بين الرجلين.
تعلم خالد بن الوليد القتال وهو في سن صغيرة، فمنذ نعومة أظافره وهو يتمتع بالقوة المفرطة ويحظى باحترام الجميع حوله، فكان لا يدخل في صراع أو نزاع إلا ويُسجل انتصاره فيه، كان لا يُهزم، وكان يُجيد الكر والفر والقتال بكل أنواعه، كان أكثر من مجرد رجل، بل كان جبل حقيقي إن جاز التعبير، وربما لمثل هذا السبب كان لخالد أشد المواقف على المسلمين قبل إسلامه، كان بلاءً عليهم بلا أدنى مبالغة.
مواقفه قبل الإسلام
إذا أردتم أن تعرفوا حقًا ما كان عليه خالد بن الوليد قبل الإسلام فإن كل ما تريدونه هو الاستماع إلى موقفه في غزوة أحد على وجه التحديد، فبعد هزيمة المشركين في بدر تجهزوا مرة أخرى وعادوا في غزوة أحد، لكن هذه المرة عادوا ومعهم رجل بألف، وهو خالد بن الوليد ، حيث أنه كان يقود جزء من جيش المشركين وقبل أن تنقلب المعركة لصالح المسلمين، وهو ما كانت كل الدلائل تُشير إليه، استغل خالد القائد المُحنك نقطة الضعف الوحيدة التي ظهرت في جيش المسلمين بذلك التوقيت، وكانت نقطة الضعف هذه هي ترك الرماة لمواقعهم أعلى الجبل ونزولهم من أجل تجميع الغنائم، فما كان من خالد إلا أن أخذ سرية من جيشه وغار على المسلمين من الخلف قالبًا بذلك المعادلة ومعرضًا النبي صلى الله عليه وسلم للموت، بل وخرجت الإشاعات بالفعل التي تُشير إلى مقتل النبي وجمع كبير من الصحابة، كل هذا حدث بسبب ذكاء خالد بن الوليد .
كان هذا الموقف هو الأصعب والأبرز لهذا الرجل قبل دخوله في الإسلام، لكنه في نفس الوقت لم يكن الوحيد، إذ أنه ثمة أيضًا مواقف أخرى كان خالد بطلها وكان المسلمين هم من يُعانون فيها، فقد كان قبل إسلامه من أشد الناس عداوة للإسلام، بل وكان يُسهم في إرجاع البعض عن إسلامهم، وربما لهذا السبب لم يكن أحد يتخيل مجرد التخيل أنه في يوم من الأيام سوف يتحول خالد إلى الإسلام، بل ويُصبح بعد ذلك من أشهر قادته التاريخيين، وهنا تأتي أهمية ذكر سيرته وتناقلها.
إسلام خالد بن الوليد
بدأ الأمر في السنة السابعة من الهجرة، ففي تلك السنة أخبر النبي صلى الله عليه وسلم الوليد بن الوليد شقيق خالد بأن رجل مثل خالد لا يُمكنه أن يجهل الإسلام، كان يُشفق على خالد ويُريده في صفوف المسلمين، وبالفعل عندما عاد الوليد إلى يثرب أخبر خالد بالأمر فوقع في قلبه وشعر بأنه قريب من الإسلام أكثر من أي وقت مضى، فاستشار بعض أصحابه ومنهم عكرمة بن أبي جهل كي يخرج معه ويُعلن إسلامه، لكنه رفض، بينما وافق عثمان بن طلحة وانطلقا تجاه المدينة المنورة، وفي الطريق التقيا عمرو بن العاص الذي كان ذاهبًا هو الآخر لإعلان إسلامه.
وصل ثلاثتهم إلى المدينة وأعلنوا إسلامهم في شهر صفر القابع بالسنة الثامنة من الهجرة، وهناك أخبر خالد بن الوليد أبي بكر الصديق بحلم كان يراه بشكل متكرر عن خروجه من أرض ضيقة مجدبة إلى أرض واسعة خضراء، فأخبره الصديق بأن هذه كانت الرؤيا التي تُبشر بدخوله إلى الإسلام، وهذا ما تحقق بالفعل.
خالد بن الوليد والجهاد
في الحقيقة لا يُمكن بأية حال من الأحوال الحديث عن جهاد خالد بن الوليد في مقال مثل هذا، فالمعارك التي خاضها هذا الرجل تصلح بلا مبالغة للكتابة في مجلدات كبيرة، بل وربما الأفلام والمسلسلات الطويلة التي خرجت عن خالد بن الوليد لم تمنحه المكانة والقدر الذي يستحقه، لكننا سنحاول جاهدين المرور سريعًا بما خاضه خالد من معارك وحروب في التاريخ الإسلامي، وما يُمكن اعتباره طبعًا جهاد، فقد بدأ الأمر بفترة قصيرة جدًا قبل وفاة النبي، حيث أرسله في عدة سرايا إلى بعض القبائل، بعد ذلك، ومع وفاة النبي، تولى خالد راية الجهاد تحت لواء أبو بكر الصديق في الكثير من الغزوات والفتوحات، وربما أولها وأهمها بكل تأكيد حروب الردة الشهيرة.
لا تُذكر المعارك التي أُقيمت مع المرتدين عقب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إلا ويذكر خلفها خالد بن الوليد الذي كان له دور كبير جدًا في هذه الحروب، فقد قضى على جيوش الكثير من المرتدين والمدعين للنبوة، وعلى رأسهم مسيلمة الكذاب، بعد ذلك دخل في حروب مع الفرس والروم أعظم قوتين على الأرض، وعقب وفاة الصديق أكمل سيف الله المسلول جهاده حتى راية أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وهو الأمر الذي لم يسلم للأسف من بعض الخلافات.
الخلاف مع عمر
هناك الكثير من الأقاويل التي خرجت بشأن الخلافات التي حدثت بين عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد، فقد ظهرت تلك المواقف منذ خلافة أبي بكر الصديق، حيث كان عمر ينصحه دائمًا بعزل خالد كيلا يُفتتن الجند به، وهناك من برر ذلك بأن عمر لم ينسى لخالد ما قام به في غزوة أحد عندما كان لا يزال في جيش المشركين، فقد كان سببًا في قلب موازين المعركة وقتل عدد كبير من الصحابة، لكن بالتأكيد دخوله الإسلام جب تمامًا ما حدث قبل ذلك، وبالتالي ذهب البعض إلى سبب آخر تدعي أغلب الروايات أنه صحيح، وهو المرتبط بإعطاء خالد مبلغ كبير لشاعر امتدحه.
بعد نهاية أحد المعارك جاء أحد الشعراء وقال شعرًا يمتدح فيه خالد بن الوليد وبطولته، وقد كان خالد محبًا للشعر بدرجة كبيرة، ولذلك أغدق على ذلك الرجل ومنحه عشرة آلاف درهم، وعندما وصل الخبر إلى الفاروق غضب غضبًا شديدًا، فلو كان ذلك المال من بيت المسلمين فهو كارثة، وإن كان من مال خالد الخاص فهو أيضًا كارثة لأنه يدخل في حيز الإسراف الذي لا يُمكن أن يوصف به قائد لجيوش المسلمين، ولذلك جاء القرار بعزله من منصبه في قيادة الجيش، وهنا نأتي لردة فعل خالد التي اختلفت الروايات فيها، فثمة رواية تقول إنه قد امتثل مباشرةً للقرار وفي نفس الوقت ثمة روايات أخرى تُشير إلى كون خالد قد مانع وذهب إلى عمر يعترض على الأمر مما أدى إلى نهاية المسيرة العسكرية الناجحة له.
وفاة خالد بن الوليد
تتفق جميع الروايات على أن خالد بن الوليد قد مات في السنة الحادية والعشرين من الهجرة، لكن الخلاف هنا على المكان الذي قضى نحبه فيه، إذ أن هناك من يقول بموته في المدينة المنورة وهناك من يقول بموته في حمص ووجود قبره ومسجده هناك، على كلٍ مهما كان المكان فهو في النهاية قد تشرف بوجود جثمان خالد الطاهر، ومن الأمور التي تُذكر بكثرة أن خالد كان حزينًا للغاية لكونه لم يمت في حرب مثلما كان يتمنى وخصوصًا أنه قد خاض الكثير من المعارك وتلقى الكثير من الضربات لدرجة أنه قد شبه موته بموت العير، ومما يُذكر أيضًا في موت خالد أن الفاروق عمر بن الخطاب قد حضر جنازته وبكى عليه على الرغم من الخلافات التي كانت بينه وبين خالد وكانت معروفة للقاصي والداني.
خالد بن الوليد في الشاشات
لم يغفل صناع السينما والدراما تلك البطولات الكثير التي قام بها خالد وتلك الشخصية الرائعة التي أثرت كثيرًا التاريخ الإسلامي، كما أنه في الأساس يُعتبر من أعظم القادة الذين مروا بالتاريخ الإسلامي بشكل عام، ولهذا كانت هناك مجموعة من الأفلام والمسلسلات التي خرجت وكانت شخصية خالد بن الوليد جزء رئيسي منها كمسلسل خالد بن الوليد 2006 والذي قام ببطولته الممثل باسم ياخور أو مسلسل خالد بن الوليد الجزء الثاني عام 2007 وقام ببطولته النجم سامر المصري، هذا بخلاف مسلسل عمر الصادر في عام 2012 والذي شهد هو الآخر ظهورًا قويًا جدًا لشخصية خالد بن الوليد .
ختامًا عزيزي القارئ، استعراض سيرة خالد بن الوليد أمر في غاية الأهمية، والتعلم من هذه السيرة بالتأكيد أمر أشد أهمية من مجرد الاستعراض، فنحن نتحدث عن أحد أعظم القادة في التاريخ الإسلامي، لكن الأمر الأهم أن نعرف جيدًا بأن كل شخص يمتلك جانب جيد جدًا وجانب ليس على نفس القدر، لذلك يجب أن نضع حسابًا لكلاهما ولا نُقيم بناءً على جانب واحد فقط.
أضف تعليق