مما لا شك فيه أن الأمهات المثاليات يُعتبرن من أفضل ما قدمه التاريخ لهذا العالم منذ بدايته وحتى الآن، فقد كانت تلك الأمهات بحق دعامة قوية وظهر يُمكن الاستناد عليه بكل ثقة، حتى أنهن قد قمن بدور يفوق بكثير دور الآباء، وبالرغم من أن التاريخ قد كرمهن بذكرهن وتخليدهن إلا أنهن بالتأكيد يستحقون أفضل من ذلك بكثير، حتى ولو كان ذلك على مستوى الحديث فقط، فأحيانًا قد يأخذ الناس حقوقهم في صورة كلام يُقال عنهم، وهذا ما سنحاول فعله سويًا مع الأمهات المثاليات اللاتي مررن بتاريخنا، لكن أولًا يجب التنويه على أن من سنقوم بذكرهن في السطور المُقبلة لا يُعتبرن كل الأمهات المثاليات في التاريخ، بل هناك من لن يُحالفه الحظ في الذكر وهناك من لم يُحالفه التاريخ ويذكره في سجلاته من الأساس، عمومًا، مع الحديث عن الأمهات فإننا لا نجد أنفسنا أمام نموذج أعظم من السيدة مريم عليها السلام لنبدأ بها موضوعنا هذا، فهل أنتم مستعدون الآن للبدء بالحديث عن أعظم امرأة في التاريخ؟
العذراء مريم، أعظم امرأة في التاريخ
طبعًا أمر لا خلافة عليه أن السيدة العذراء مريم تعتلي بجدارة قائمة الأمهات المثاليات في التاريخ، حتى أن النبي الكريم محمد عليه الصلاة والسلام قد قال عنها ما هو في معنى ذلك الوصف، والحقيقة أننا إذا ما استعرضنا ما مرت به السيدة مريم فسوف نجد يقينًا أنها تستحق هذه المكانة الكبيرة، فقصة حملها الشهيرة التي نعرفها جميعًا كانت سببًا في حديث الناس عنه بكل سوء، والمؤكد لدى الجميع أن أثمن شيء قد تحتفظ به المرأة وتقاتل من أجل عدم المساس به هو شرفها، لكن السيدة العذراء قد تحملت كل ذلك فقط لأنه كان أمر إلهي ينطوي على حِكمة عظيمة، ثم بعد ذلك جاءت مرحلة الولادة وما وجدته فيها من معاناة شديدة ذكرها القرآن، والأهم من كل ذلك لحظة المواجهة التي جاءت بعد الولادة وتقديم المولود للناس وخوضهم في شرفها مرة أخرى، إجمالًا، لقد عانت السيدة البتول أشد معاناة، واستحقت بحق مكاناتها، واستحقت كذلك نيل شرف التحدث مع جبريل عليه السلام وإيصال الرسائل السماوية إليها بأمرٍ مباشر من الله.
هاجر زوجة الخليل، المرأة الواثقة بالله
أم أخرى يُمكن أن تُضاف بجدارة ضمن قائمة الأمهات المثالية، وهي السيدة المبجلة هاجر، الزوجة الثانية لسيدنا إبراهيم عليه السلام، فهذا المرأة كذلك ابتلاها الله ببلاء شديد وهي أم في السنة الأولى لها، حيث أخذها زوجها النبي إبراهيم وتركها في صحراء جرداء لا زرع بها ولا ماء، ولا أي ملمح من ملامح الحياة، حتى البشر أنفسهم لم يكونوا متواجدين لكي يُشعروا السيدة هاجر بأنها لا تعيش على هذا الكوكب لوحدها، لكنها قامت بأروع ردة فعل فما موقفٍ كهذا، حيث انصاعت لرغبة زوجها وتشبثت بالثقة بالله، فكان لها في النهاية خير العطاء، حيث انفجرت الأعين بالماء من تحت أقدام ابنها النبي إسماعيل وعم الخير والرخاء، كما أنها قد خُلدت في سجلات التاريخ كأحد أعظم الأمهات اللاتي مررن به في يومٍ من الأيام، أم عرفت أن الله هو كل شيء لها فتوكلت عليه توكلًا تامًا لا تردد فيه ولا وجل.
أم موسى، الأم العظيمة للنبي العظيم
أيضًا لا يسعنا التحدث عن الأمهات في كل زمانٍ ومكان دون أن نذكر أم عظيمة وخالدة في سجلات التاريخ، وهي أم النبي موسى، فهذه الأم في البداية أنجبت وليدها في ظل ظروف قاسية كانت تمر بها البلاد بهذا التوقيت، حيث كان فرعون يأمر بقتل كل مولود من الذكور، وقد كان من الممكن جدًا أن تُضحي هذه المرأة بطفلها من أجل سلامتها وأمنها، لكنها تشبثت به وحاربت من أجله حتى أتاها المدد الإلهي وساعدها في تربيته والمحافظة عليه، حتى ولو كان ذلك عن طريق دخوله منزل الشخص الذي يُريد قتله، والحقيقة أن الأمر الأكثر إدهاشًا في قصة هذه المرأة هو أنها قد وضعت طفلها في اليم وتركته في عرض البحر وهي تثق تمامًا أن ربه لن يُضيعه، وطبعًا هذا أمر يتشابه كثيرًا مع ما قامت به السيدة هاجر، لذلك فكلهن تقريبًا يوضعن في مكانة واحدة كأعظم أمهات التاريخ بأكمله.
توميريس، الابن قبل كل شيء
بعيدًا عن لأمهات اللاتي تشرفن بذكرهن بالقرآن فإن ثمة أمهات أخريات قد ناضلن نضالًا من نوعٍ آخر، فهناك مثلًا توميريس التي كانت ملكة لأحد الممالك في أسيا، وكان من المفترض أنها تُربي ولي العرش الذي سيتسلم حكم المملكة فيما بعد، لكن أحد ملوك الفرس لم يترك لها هذه الفرصة وقام بخطف وليدها وهدد بقتله، وطبعًا أي أم في هذه الظروف كان من الممكن أن تنهار كليًا، أو على الأقل تُفكر في طريقة يُمكن من خلالها استعطاف ذلك الملك من أجل الحصول على ابنها، لكن ما حدث كان مُدهشًا بحق، فقد طلبت الأم توميريس نزال الملك على حياة ابنها، وفعلًا تمكنت من هزيمته وعادت إلى مملكتها مع ولدها، لتكون بذلك أحد أعظم أمهات التاريخ وكذلك واحدة من الأمهات المثاليات.
الخاتون بنت بركة، لا تمس ولدي
الأمهات المثاليات اللاتي ذُكرن في التاريخ ليس بالضرورة ذُكرن بالأمور الجيدة، المهم أنهن في النهاية فد ذُكرن، ومن هذه النماذج مثلًا السيدة الشهيرة الخاتون بنت بركة، والتي مات زوجها وتولى ولدها الحكم، لكنه كان ضعيفًا لا يستطيع الدفاع على نفسه، ولذلك كانت تخشى عليه دائمًا أن يُغدر به ويُقتل أو يُسلب منه حكمه بأي طريقة من الطرق، وهذا ما حدث بالفعل عندما عرفت بأن الأمير بيلبك يُريد قتل ولدها، فما كان منها إلا أن دست السم في طعامه وقتلته وقتلت معه كذلك الفكرة التي كان يُفكر بها فيما يتعلق بإبعاد ولدها عن الحكم، وبالرغم من أنها كانت لا تهتم بأمور الحكم إلا أن كل ما كان يعنيها هو حماية ولدها من أي خطر مهما كان مصدره، وهذا ما نجحت في فعله بنهاية المطاف وثبتت حكم ولدها لأطول فترة ممكنة، لتدخل بذلك قائمة الأمهات المثاليات.
إيزابيل الليندي، أم حتى النفس الأخير
إذا ما ذكرنا الأمهات المثاليات ثم ذكرنا إيزابيل الليندي فقد يعتقد البعض أن الأمر قد اختلط علينا، فمن المعروف أن إيزابيل تُعرف كواحدة من أشهر كتاب الروايات في التاريخ، لكننا لسنا مخطئون، ففعلًا كانت إيزابيل أم مثالية بالإضافة إلى كونها كاتبة عبقرية، والأمر ببساطة أن طفلتها بولا قد مرضت مرضًا شديدًا في يومٍ من الأيام واستدعى الأمر أن يُجالسها أحدهم ولا ينفك عن خدمتها، وطبعًا لا أحد قد يقوم بهذا الدور العظيم أفضل من الأم، وفعلًا جلست إيزابيل ورافقة ابنتها حتى لفظت النفس الأخير لها على هذه الأرض، لكن هذا ليس كل شيء في قصة هذه الأم.
أثناء مجالسة إيزابيل لابنتها قامت بكتابة رواية كاملة تشرح فيها معاناة طفلتها والعائلة بأكملها، وقد أسمتها باسم طفلتها، بولا، ثم بعد ذلك قامت بنشرها لتخليد سيرة طفلتها أبد الدهر، وهو أمر لا يُمكن لأي أم فعله، وهذا بالضبط ما جعل إيزابيل مميزة وتسحق الذكر كأحد أبرز الأمهات المثاليات اللاتي مررن بالعالم.
ماري بونبارت، أم ملوك العالم وواحدة من أشهر الأمهات المثاليات
في فرنسا تمكنت أسرة بونابرت بعد الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر من حكم الكثير من البلاد، وقد كانت تلك الأسرة كلها من بيت واحد قامت بتربيته امرأة واحدة تُعتبر من أشهر الأمهات المثاليات في التاريخ، واللاتي بالطبع تمكنّ من تغيير مجرى التاريخ، فمن ضمن هؤلاء الحكام الذين ربتهم ماري مثلًا نابليون بونابرت، وطبعًا كلنا نعرف ذلك الرجل ونعرف أنه في فترة من الفترات تمكن من السيطرة على جزء كبير من العالم، عمومًا، ربت ماري الملوك والحكام على الرغم من أنها لم تكن في الأصل تنحدر من أسرة ملكية، بل كانت كذلك الشخص المجهول الذي يعمل في الظل كي يُخرج في النهاية أشخاصًا يعمرون الأرض بالنور، ومهما كانت درجة اختلافنا مع القرارات التي قام بها الأبناء الملوك فإن هذا لا يمنعنا من الاتفاق على أن هذه وبجدارة دخول قائمة الأمهات المثاليات.
سيلفيا بلاث، الشاعرة التي عشقت أبنائها
ربما الكثيرين منا قد سمعوا من قبل اسم الشاعرة الشهيرة سيلفيا بلاث، ربما عرفنا أشعارها وعشقناها، لكنني لم نعرف حتى الآن المناسبة التي كُتبت فيها هذه الأشعار وكيف كانت حياة كاتبتها، فقد كانت بلاث تعيش حياة مضنية وسط فقرٍ تام هي وزوجها، وكان من الممكن جدًا أن تتحمل أن تظل على هذه الحال للأبد، لكن الرياح لا تأتي دائمًا بما تشتهي السفن، فقد أنجبت طفلتين ومات زوجها وأصبحت هي العائل الوحيد لهما، وقد سبب هذا الأمر فراغًا كبيرًا وضغط شديد عليها اضطرها إلى وضع أبنائها في ملجأ لفترة طويلة ثم أخذتهم بعدها وقررت تحمل تربيتهم التي بدت منذ اللحظة الأولى عبئًا كبيرًا لا يُمكن تحمله، لكن هل انتهى الأمر عند هذا الحد؟
معاناة بلاث، والتي ستدخلها فيما بعد ضمن قائمة الأمهات المثاليات، اضطرتها إلى الانتحار في صباح لم تطلع فيه شمس الأمل، ومما يُذكر أنها قبل أن تنتحر بدقائق قامت بوضع الطعام لأطفالها كيلا يشعروا بالجوع عند غيابها، والذي قررت بلاث أن يكون أبديًا، عمومًا، كتبت بلاث خلال سنوات المعاناة هذه الكثيرة من الأشعار وخصصت أغلبها لأطفالها، لكن هل سيُغني ذلك في شيء؟ بالتأكيد لا، ففي النهاية لقد تركتهم في هذه الحياة الموحشة ورحلت.
الخنساء، أم الشهداء الأربعة
التاريخ لا يعرف الأمهات فقط من أجل الأشياء اللاتي قمن بها، وإنما كذلك من أجل ما قام به الأبناء ونُسب إلى الأمهات، وأفضل نموذج على ذلك الخنساء، أو تماضر بنت عمرو التي كانت في الجاهلية غير قادرة على احتمال فراق أخيها صبر، فكتبت فيه الكثير والكثير من الأشعار، حتى أسلمت وعرف النور قلبها وأدركت أن كل شيء بيد الله، وأن من يموتون ليسوا سيئين بالضرورة، وإنما من الممكن أن يذهبوا إلى مكان أفضل مما كانوا فيه، ولذلك وقفت خلف أطفالها الأربعة وربتهم على حب الشهادة حتى ماتوا جميعًا في يومٍ واحد بأحد الغزوات، لتدخل الخنساء بذلك قائمة أكثر الأمهات المثاليات تأثيرًا في التاريخ وصبرًا على فراق الأحباب بعد أن كانت على النقيض تمامًا قبل دخولها الإسلام.
أضف تعليق