تحفى نظرية التطور بخلافات عميقة وأخرى سطحية بين المتخصصين وغير المتخصصين بدرجة تجعلها من أكثر النظريات العلمية مثارًا للجدل، وهذا يرجع بشكل أساسي إلى النتائج التي تحملها النظرية والتي تتعلق بأصل الإنسان والحياة على كوكب الأرض مما يجعلها لا تحظى بالقبول لدى فريق كبير من الناس، فالبعض يعتقد بأن النظرية مخالفة تمامًا لأصول الدين وينظر آخرون إليها باعتبارها تعطي نظرة احتقار للإنسان، وهناك ممن يؤمنون بأن هذه النظرية هي مجرد مؤامرة غربية لقتل ثوابت الدين في المجتمعات وينظر البعض إليها باعتبارها مليئة بالأخطاء العلمية والمنطقية، ونجد فريق آخر يؤمن بأن النظرية هي دقيقة تمامًا وهي التفسير العلمي الوحيد الدقيق لنشأة الحياة، لكن في النهاية ومع كافة تلك الآراء المختلفة فإنه لابد أن نقنع بمسلمات أرساها العلم، ولذا فإننا في هذا الموضوع سنذكر أهم الدلائل العلمية المباشرة التي تثبت صحة النظرية وفي نفس الوقت سنعرض حجج المعارضين وكذلك سنذكر أخطاء شائعة متداولة بكثرة عن آليات النظرية وسنحاول أن نقدم نظرة شاملة للموضوع من كافة الجوانب مع عرض لتأثير نظرية التطور في العلوم الأخرى مثل علم الاجتماع، وكل هذا يمكنك في النهاية من معرفة كل ما يلزم لتقرر رأيك الخاص في كل شيء.
نظرية التطور باختصار
بسبب كثرة المصطلحات الموجودة في النظرية الداروينية والتعديلات التي تمت عليها فإن البعض لا يستطيعون فهم النظرية بشكل كامل، وقبل أي شيء فإنه علينا أن نخبرك ببضعة نقاط هامة كي لا تختلط عليك المسائل. أولاً فإن النظرية الداروينية لا تتعلق بظهور الحياة على كوكب الأرض أو الكون نفسه. ثانيًا علينا أن نعلم جميعًا أن حدوث تطور الأجيال لا يكون على صعيد الأفراد بل يكون على صعيد التجمعات من خلال تعقيدات كثيرة وطفرات وانحدارات وصراعات مع البيئة. ثالثًا فإن التطور لا يعني بالضرورة خلق جيل أفضل أو أن هناك إضافات جديدة مختلفة بالرغم من أن هذا قد يحدث في أوقات كثيرة، والتطور لا يعني أن يصغر أو يكبر حجم الكائن الحي أو أن تختفي أطرافه أو أن تظهر أطراف جديدة فقط، فكل شيء يحدث هو خاضع لقوانين الطبيعة ومن ثم فإن التغيرات التي تحدث هي بمثابة تفاعل بين الكائن والطبيعة على مدار ملايين السنين. باختصار فإن الهدف الأساسي من النظرية هو تفسير التنوعات البيولوجية التي نجدها في كوكبنا من خلال الآليات التي تحددها النظرية. التطور يعني التغير أي أن هناك صفات معينة في الكائن الحي تتغير من جيل لآخر، وهذا يعني أن الكائنات الحية ليست مجرد أنواع مستقلة بذاتها بل هي مترابطة وقابلة للتغيرات التي تؤدي إلى التطور عبر الزمن.
الأدلة المباشرة على نظرية التطور لتشارلز داروين
يخبرنا العلماء التطوريون بأن هناك الكثير من الأدلة المباشرة التي نستطيع التأكد من خلالها من أن نظرية التطور ذات آليات دقيقة وأنها التفسير العلمي الأكثر دقة لوجود الحياة على كوكبنا، مع الأخذ في الاعتبار أن هناك ردود مضادة لتلك الأدلة وفي النهاية يظل الموضوع مثارًا للجدل حتى يومنا هذا، الدليل الأكثر مباشرةً هو التشابهات الشكلية بين الكائنات الحية والتوزيع الجغرافي لها عبر تسلسل هرمي متداخل، ومن خلال دراسة مختلف أنواع الكائنات الحية سنجد أن هناك تشابهات كثيرة بين الحيوانات وأسلافها الأقرباء، وإذا ابتعدنا في الزمن سنجد أن الاختلافات بدأت بالظهور أكثر وأكثر وأن الكائنات الحية تتكيف وتتطور تبعًا لطبيعة جسمها وتستقر في المناطق المثالية لها، فمثلاً نجد البطاريق في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية حصرًا، والكنغر وأغلب حيوانات الطويئفة الجرابية تعيش في أستراليا، ومع مختلف الأمثلة سنجد أن هناك اتساق وتناسب في التوزيع، وإذا نظرنا إلى الحيوانات القديمة سنجد أن صفاتها وأشكالها مختلفة بشدة عن الحيوانات التي تعيش في عصرنا الحالي، فمثلاً لا نجد اليوم ديناصورات أو كسلان عملاق أو حتى الماموث، بل نجد الحيوانات التي استطاعت النجاة من الانقراض وتكيفت مع الظروف وظهرت فيها الطفرات أي التغيرات في التسلسل الخاص بالحمض النووي سواء كانت طفرات نقطية أو طفرات في الانحراف الحادث للكروموسومات.
يلعب الزمن دور كبير في حدوث هذه الطفرات التي قد تكون طفيفة لكنها حساسة مثلما في سم الأفاعي والثعابين، ومن خلال دراسة آليات الاصطفاء الطبيعي سنجد أن الثعابين تميل إلى تطوير إنزيمات ذات صفات عدوانية بدرجة أكبر ولكن عبر طرق عشوائية ولهذا نجد هذا الاختلاف الكبير من السموم في الأنواع المختلفة منهم، هذا الدليل المباشر هو من أكثر الأدلة وضوحًا كما يخبرنا العلماء ومن خلاله سنستطيع أن نفهم بوضوح طريقة حدوث التطور عبر آلاف الأجيال، لنبين أكثر فإننا إذا نظرنا إلى الأسلاف القدامى للأنواع المختلفة من الثعابين سنجد أن بعضهم استطاعوا تطوير السموم التي تهاجم الأعصاب في الكائنات الحية وهذه الأنواع تشمل الكوبرا وبعض الثعابين المرجانية والبحرية، لكن مثلاً في حالة الأفعى ذات الجرس فإن أسلافها تمكنوا من تطوير السم المهاجم لنظام الدورة الدموية (أي الأوعية الدموية ونظام القلب)، والطفرات الحادثة في الكثير من الكائنات الحية تكون عبر تراكمات تدريجية لما يسمى بالطفرات النقطية وفي حالات أخرى تحدث العملية بوتيرة أسرع عبر ازدواج أزواج الكروموسومات، وفي الواقع فإن هناك الكثير من الأمثلة الواضحة في هذا الصدد، فمثلاً هناك نوعان من حيوان ضفدع الشجر الأوروبي وهما النوع الرمادي والآخر المبرقش، والنوع الثاني هو نتاج الفشل الذي تسبب فيه النوع الأول عند حدوث ما يسمى بالانقسام الاختزالي، أي أن النوعين هما متشابهان في لونهما وحجمهما وشكلهما لكن هناك فرق في عدد الكروموسومات.
مصطلحات هامة في نظرية التطور
- النمط الظاهري: يدور المصطلح حول تحديد التشكيلات الظاهرية الفيزيائية للكائنات الحية، أي السمات المكونة للكائن من النظرة الخارجية مثل النمو أو الشكل والخصائص الكيميائية والجسدية وحتى الظواهر والسلوكيات والأشياء التي نراها بسبب أنها ناتجة عن سلوكه وأفعاله، أي أن المصطلح يعني بكل الصفات الظاهرية بمختلف أنواعها، والنمط الظاهري للكائنات الحية ينتج عن طريق الجينات إلا أنها ليست العامل الوحيد فقط لأن البيئة عامل حاسم، وهناك مصطلح آخر يدعى بالنمط الجيني وهو الذي يعني بالصفات الظاهرية التي تسببت في تكوينها الجينات، أما النمط الظاهري فهو نتاج التكوينات الوراثية بالإضافة إلى تفاعلات الإنسان مع البيئة، وأول من أرسى الفرق بين المصطلحين هو العالم الدنماركي فيلهيلم جوهانسن الخبير في علم الجينات والنباتات وذلك في العقد الثاني من القرن الفائت.
- تكيفية النمط الظاهري: هي مقدرة الكائنات الحية على إنتاج تغييرات تؤثر في النمط الظاهري كرد فعل للتفاعلات مع البيئة.
- الاستقناء: هو مقدرة مجموعة الكائنات الحية على الوصول إلى الأنماط الظاهرية المتشابهة بغض النظر عن الاختلافات والتنوعات في البيئة التي تعيش فيها أو الأنماط الجينية المميزة لها، وقد تم صياغة المصطلح للمرة الأولى في سنة 1942 على يد العالم البريطاني كونراد هال وادينجتون.
- الانحراف الوراثي: هو عملية عشوائية أي أنه مختلف عن الاصطفاء الطبيعي ولكنه يحدث بالتوازي معه ومع الطفرات والهجرات، وببساطة فإن الانحراف الوراثي يخلف من وراءه مجموعة أفراد في جيل معين ليأتي من بعدهم أفراد ذوي أعداد أكبر من الآخرين مما يعني أن الموروثات ستكون أكثر.
ما هو الاصطفاء الطبيعي؟
الانتخاب الطبيعي أو الاصطفاء الطبيعي هو الآلية الأساسية لحدوث التطور وأحد أهم مفاهيم نظرية التطور ، وإذا أردنا توضيحه من خلال نقاط موجزة فعلينا أن نبين أولاً أنه لا يحدث بطريقة عشوائية، وثانيًا أنه يحدث فيما يسمى بالخلات الحيوية أي الكود الجيني للكائن الحي مثل شكل ولون شعر الرأس، وثالثًا وهي النقطة الأهم أن نتاج العملية يؤدي إلى زيادة فرص الصفات المفيدة للكائن الحي التي تعينه على التكيف في بيئته ومن ثم توريثها لأجياله التالية، ببساطة فإن هذه العملية هي نتاج تفاعل الكائن الحي مع البيئة والكائنات الموجودة فيها وهذا يتضمن تحديات كبيرة وصعبة بين الكائن الحي وكل هذه العوامل، وفي خضم هذا التحدي يحاول الكائن الحي الوصول إلى الطرق التي تعينه على البقاء على قيد الحياة لأطول فترة ممكنة وأن يحظى بالمسكن المثالي وأن يؤدي كافة العمليات الحيوية بأكبر كفاءة ممكنة.
ليكون الأمر أبسط سنعطيك مثال واضح، تخيل أن هناك تجمع من حشرات يغلب على جسمها لون أسود في حين أنها تعيش بين النباتات ذات اللون الأخضر وفي نفس المكان يوجد طائر يتغذى على الحشرات بشكل أساسي ويملك قدرة كبيرة على تمييز اللون الأسود أكثر من أي لون آخر، في هذه الحالة سنجد أن هناك احتمالات مختلفة لحدوث طفرة وراثية مثل أن تحدث طفرة تتسبب في ظهور حشرات خضراء اللون أو طفرة أخرى تتسبب في ظهور حشرات سوداء أو ألوان أخرى قد تكون مثالية بالنسبة للطيور أو ألوان أخرى تصعب عليهم العثور على الحشرات أو حتى أن نجد أنواع مختلفة من الطفرات غير المتعلقة بلون الحشرات بل بخصائص أخرى في الجسم، في النهاية سنجد أنه مع التعاقب الحادث في الأجيال هناك أنواع مختلفة من الحشرات ذات الألوان المختلفة والصفات الجسدية المختلفة، والأنواع التي تسهل على الطيور اقتناصها هي التي سينتهي بها الحال إلى فم الطائر وستنقرض مع مرور الوقت ولن يتبقى إلا الأنواع التي استطاعت الوصول إلى اللون المثالي الذي يبعدها عن الافتراس، أي أن الحشرات استطاعت انتقاء الجينات الأمثل لها للتكيف مع البيئة، وهذا هو معنى الانتخاب الطبيعي. مع العلم بأن الدراسة الدقيقة للكائنات الحية في مختلف البيئات تعطينا أدلة كثيرة على أن عملية الانتخاب هي ضرورة أساسية لبقاء الكائنات الحية على قيد الحياة في بيئتها التي استطاعت فرض سيطرتها فيها لأجيال كثيرة وأما إذا خرجت من بيئتها فإنها ستجد نفسها أمام تحديات جديدة ومختلفة كليًا عن التحديات التي صارعتها في السابق، ولذا فإنها أمام اختبار جديد يمكن أن تنجح فيه وتبقى على قيد الحياة أو تنقرض كما انقرض عدد مهول من أنواع الكائنات الحية.
هل الإنسان أصله قرد؟
هذه واحدة من المغالطات الشائعة عن نظرية التطور ، ولكن تاريخ التطور كما حاول العلماء جاهدين معرفته يخبرنا بأن الإنسان يجتمع مع سلف مشترك مع مجموعة حيوانات الغوريلا والشامبانزي وغيرهما من أنواع القردة العليا، وطبقًا للأحفوريات الموجودة والتقديرات العلمية فإن السلف كان يعيش على كوكب الأرض فيما بين سبعة أو ثمانية مليون سنة، ومن ثم بدأ التطور في اتجاهين والأول هو الحيوانات سابقة الذكر مثل الشامبانزي والذي تغير شكله وصفاته الوراثية بدرجة كبيرة والاتجاه الثاني هو الإنسان، لذلك فإنه طبقًا لما تقوله نظرية التطور فإننا لم نتطور من القرود ولا حتى من الشمبانزي، بل هناك سلف يجمعنا بتلك الحيوانات، وهذا القول ليس قول اعتباطي بل وصل إليه العلماء بعد بحث طويل وهذا ليس حصرًا بالإنسان فقط، فالعلماء يحاولون وضع مختلف أنواع الكائنات الحية في مكانها الصحيح فيما يعرف باسم شجرة التطور، ومن خلال دراسة خريطة الجينوم فإننا قد تأكدنا من وجود تشابه كبير بين كروموسومات الإنسان والشامبانزي، وتبين أن الإنسان يحمل 23 زوج من صبغيات الجسم في حين أن الشامبانزي وأنواع أخرى من القردة العليا تملك 24 زوج من الصبغيات، وفي الواقع فإن القراءة السريعة للاختلافات بين الإنسان والشامبانزي ستجعلنا نفكر بأن هناك تشابه كبير وفي نفس الوقت إذا قرأنا بدقة سنجد أن هناك الكثير من الاختلافات الدقيقة في كل من النوكليوتيدات والبروتينات والأحماض الأمينية، وكل هذا يرجع إلى آليات الانتخاب الطبيعي والطفرات الجينية المهولة التي حدثت خلال ملايين السنين.
الفروع العلمية المرتبطة بنظرية داروين
كما أشرنا سابقًا فإن هناك فروع مختلفة من العلوم التي تتعلق بشكل أو بآخر بالآليات الأساسية التي أرستها نظرية التطور وهذا لا يشمل أفكار تشارلز داروين فقط بل يتضمن الأفكار التطورية التي حملها من قبله مثل هربرت سبنسر ومن ثم التجديدات التي جاءت من بعده وحتى التدعيمات الحديثة التي استطعنا الوصول إليها عبر العلوم المتقدمة مثل علم الوراثة، ومن هذه العلوم:
- علم الأنثروبولوجيا التطورية: هو فرع يختص بدراسة تطور السلوك الإنساني والعلاقة بين الرئيسيات من القردة العليا والرئيسيات الأخرى، ويعتمد العلم على العلوم الطبيعية والاجتماعية المختلفة وهناك الكثير من الحقول التي يسعى إلى تغطيتها مثل دراسة الآليات التي مكنت الإنسان من شق طريقه عبر الانتخاب الطبيعي وحقول علم دراسة المستحاثات الخاصة بأسلاف البشر وعلم المتحجرات أو الأحياء القديمة ودراسة التطور الثقافي والاجتماعي للبيئات الجغرافية المختلفة ودراسة تطور خريطة الجينوم لدى البشر وغيرها من الحقول العلمية.
- علم النفس التطوري: هو العلم الذي يدرس الخصائص المميزة للإنسان مثل الوعي والإدراك والتفكير المنظم والذاكرة من خلال الآليات التطورية بمساعدة الأبحاث التي خلصنا إليها من منطلق العلوم الطبيعية التطورية.
- علم اللغة التطوري: يسعى العلم إلى الإجابة عن الأسئلة الهامة التي طرحها علماء اللغة على مدار قرون طويلة مثل كيفية اكتساب الإنسان للغته وقدرته على التحكم بها والاختلاف بين اللغات تبعًا للمؤثرات المختلفة وكذلك أصول الأصوات والمحاكاة مع الطبيعة، وبدأت ملامح العلم بالظهور على يد عالم اللغة الألماني أوجست شيليشير في منتصف القرن التاسع عشر.
شرح نظرية التطور الاجتماعية
قد يعتقد البعض بالخطأ أن التطور هو مجرد نظرية بيولوجية حصرًا، إلا أن الحقيقة أن التطور هو مفهوم عام ونجده متداخلاً في الكثير من العلوم مثل علم الاجتماع، وأفكار تشارلز داروين كانت بمثابة إلهام خارق لعلماء الاجتماع في أواخر القرن التاسع عشر والعقود الأولى من القرن العشرين، وقبل تلك الفترة كان علم الاجتماع لا يزال في المهد ولم يحظ بالصقل الكافي وفي الغالب كان عبارة عن إسهامات فردية متقطعة، فمثلاً نجد إسهامات ابن خلدون في القرن الرابع عشر وأخرى لابن مسكويه مع الأعمال الغربية والتي غالبًا ما تداخلت بالأفكار الدينية واتجهت بشكل أساسي إلى الرغبة في تقويم المجتمع والبحث عن العلل والمشاكل النفسية من أجل تقوية الفرد وتدعيم السلطات السياسية والدينية ليصبح المجتمع متماسكًا وهذا يتنافى مع أصول المنهج العلمي الحديث، ولكن في القرن التاسع عشر بدأ علم الاجتماع يتحول إلى علم حقيقي عبر القواعد البنائية التي أنجزها العلماء الكبار مثل أوجست كونت وهربرت سبنسر ومن بعدهم إيميل دوركايم، وفي هذه الفترة التي شهدت زخم كبير وتفاعلات لأفكار مختلفة ظهرت نظرية التطور التي حملت جوانب متعددة في طياتها وبدأت تسيطر على علم الاجتماع الوليد في ذاك الوقت، ولم يكن هذا التأثير مجرد توارد أفكار بين داروين وعلماء الاجتماع أو حتى أفكار مترابطة مؤثرة بل كان بمثابة منهج كامل قادر على إضافة البنية الأساسية لعلم النفس لدرجة أن هناك مصطلح ظهر باسم “الداروينية الاجتماعية” وذلك على يد الدكتور أوسكار شميدت المدرس في جامعة ستراسبورج الفرنسية في سنة 1877 خلال مؤتمر علمي تم عقده في مدينة ميونخ ومن بعده نشر مقال باللغة الإنجليزية في مجلة بوبيولار ساينس الأمريكية والتي كانت قد تأسست حديثًا وقتذاك وكانت صاحبة أفكار ثورية في فروع مختلفة من العلوم، وأيضًا نجد المنظر السياسي الفرنسي إيميلي جوتيه استخدم المصطلح مرات عديدة واستخرج من أفكار تشارلز داروين نواة لأفكاره السياسية اليسارية المتطرفة حيث أنه كان من رواد الفلسفات اللاسلطوية الداعية إلى تقليص دور الحكومات بالحد الأقصى وتفعيل دور الفرد بكل قوة حتى ينال الفرد حريته الكاملة أو شبه الكاملة في المجتمع.
نظرية التطور لتشارلز داروين
شعر داروين أن الغرائز الاجتماعية مثل التعاطف والمشاعر الأخلاقية تطورت عبر الانتقاء الطبيعي عبر مئات الأجيال، ومن تلك التفاعلات المختلفة والتي تحمل نواحي عديدة متوازية وغير متوازية نتج ما يطلق عليه الآن الكود الأخلاقي أو مجموعة القيم والتقاليد والأعراف التي تم الاتفاق عليها دون أن نعرف بالفعل في أغلب الحالات الطرق التي جعلت المجتمعات تصل إلى تلك القيم، فنحن هنا لسنا بصدد قوانين يتم إصدارها عبر المشرعين أو قرارات سيادية، بل هي تقاليد أخلاقية تظهر وتتطور وتتعرض إلى الصقل والتغير دون أن يملك شخص ما القدرة على إصدار نسخته الخاصة من الأخلاق. كل ما يحدث هو تفاعل اجتماعي بحت بين أطراف المجتمع وانبثاق لأفكار الفرد نحو فلسفة الأخلاق مع وضع اعتبارات هامة مثل الدين والطبيعة الجغرافية والسياسية وعوامل عديدة أخرى. في الواقع فإن هذه الناحية تحمل الكثير من الأفكار والنظريات المختلفة والتي تسعى إلى معرفة كافة العوامل التي أثرت على تشكيل التقاليد المجتمعية والتي قد تكون متطرفة في بعض الأحيان، فمثلاً يؤمن بعض العلماء بأن تأثير درجة الحرارة هو من أهم العوامل المؤثرة على طبيعة الفرد وبالتالي نجد التأثير على التكوينات الاجتماعية، وبالفعل إذا نظرنا من الناحية العلمية سنجد أن درجة الحرارة العالية تؤثر على عدد كبير ومهم من المحفزات البيولوجية الجزيئية والهرمونات في جسم الإنسان، ويؤمن فريق من العلماء بأن هذا التأثير البالغ على الهرمونات خلال آلاف السنين هو السبب في مستوى التطور الذي وصل إليه البشر منذ خمسين ألف سنة أي عندما بدأ البشر بتصنيع أدوات متطورة نسبيًا وظهر إنتاجه الفني الذي كان بدائيًا ولكنه على الأقل يعبر عن تطور الوعي البشري مثلما في رسومات الحيوانات التي تم اكتشافها في كهوف لاسكو في محافظة دوردونيي الفرنسية.
هرمون التستوستيرون والطفرة الحادة
طبقًا لدراسة أجرتها مجلة كارينت أنثربولوجي (الأنثروبولوجيا الحالية) والتي تم فيها دراسة حوالي ألف ونصف من الجماجم البشرية عبر حقبات زمنية مختلفة فإن الدراسة خلصت إلى الإنسان الحديث قد وصل إلى النقطة الهامة من التطور عندما انخفض مستوى هرمون التستوستيرون بدرجة حادة، ومن المعروف أن هذا الهرمون هو من أكثر الهرمونات الفعالة، وبالرغم من أن جسم الأنثى يحتوي على هرمون الإستروجين بالدرجة الأكبر إلا أن البويضات أيضًا تنتج هرمون التستوستيرون لكن بنسبة أقل، وطبقًا للدراسة فإن قبل هذا التغير في النسبة كان الإنسان أكثر همجية ووحشية بفرق هائل، وعلى الهيئة الظاهرية بدأت حواجب الإنسان الغليظة والمكثفة بالاختفاء تدريجيًا وحتى شكل الجمجمة نفسها بدأ يميل إلى الشكل الدائري أكثر، ومن منطلق نظرية التطور والدراسة العملية للحيوانات فإن هناك شبه إجماع بين العلماء على التأثيرات التي يسببها الهرمون وهذا ظاهر في الرئيسيات مثل الشامبانزي والبونوبو.
نظرية التطور والإسلام
هناك فريق يعتقد بأن نظرية داروين أو نظرية التطور الحديثة مخالفة تمامًا لأسس الدين الإسلامي والأديان السماوية بصفة عامة، ومن هذا المنطلق فإنهم يعتبرون النظرية خاطئة وأن النظرية الصحيحة لنشأة الكائنات الحية على كوكب الأرض هي نظرية الخلق، أي أن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلق الإنسان من طين وخلق بقية الكائنات دون أن تحدث الآليات التي تزعمها نظرية التطور مثل الانتخاب الطبيعي، والدليل أو الحجة الأهم بالنسبة للمؤمنين بنظرية الخلق هو عدم وجود الحلقة المفقودة بين الإنسان وسلفه الأكبر، مع العلم بأن التطوريين يقولون بأن الحلقة المفقودة موجودة بالفعل ويظل الخلاف دائرًا حتى يومنا هذا، والمسلمون الخلقيون يقولون بأن القرآن الكريم يحتوي على أدلة قاطعة تنفي الآليات الرئيسية التي نصت عليها نظرية التطور مثلما تخبرنا العديد من الآيات بأن الله قادر على خلق كل شيء كما في سورة الزمر وسور أخرى وفيما ما معناه في سورة القمر بأن الله خلق كل شيء بقدر، ويشدد بعض علماء المسلمين باعتبار أن الإنسان مهما تفوق في العلوم الطبيعية فإنه لن يستطيع اكتشاف أسرار الخلق كما تنص الآيات، ويخبرنا البعض بأن آية الخلق من الماء والتراب هي دليل قاطع يكفي لإنهاء النقاش بخصوص نظرية التطور وهذا بالإضافة إلى كم غير قليل من الأحاديث الشريفة التي تجعلنا متيقنين من أن الاصطفاء الطبيعي لم يحدث وأنه لا وجود للطفرات والتغيرات الوراثية، كما أن هناك عامل عدم القبول تجاه فكرة أن الإنسان يشترك مع الشامبانزي في نفس السلف المشترك أو كما يظن البعض بالخطأ أن الإنسان سليل القردة، ومن هنا ظهرت الكثير من الاتجاهات التي ترفض النظرية بشكل قاطع وتعتبرها ضمن الخطط الغربية الهادفة إلى تشويه الأديان والابتعاد عن الأخلاقيات، وبالرغم من أن هذا هو الفريق الأكبر عددًا في الوطن العربي إلا أن هناك فريق مضاد من المسلمين والمؤمنين بأديان أخرى.
المؤمنون الموافقون على نظرية التطور
يعتقد عدد لا بأس به من المؤمنين سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين أو معتنقي الديانات الأخرى بأن نظرية التطور لا تتعارض مع الثوابت الأساسية في الدين، وحجتهم على ذلك أن آليات التطور مثل الانتخاب الطبيعي والطفرات يمكن أن تتسق مع نظرية الخلق، وهناك أكثر من تفسير لذلك مثل أن يكون الخالق جل جلاله قد اختار آدم وحواء ليكونا السلالة الجديدة من البشر، أي أن هناك بشر أو أسلاف كانوا موجودين قبلهما لكن الله اصطفاهما ومكنهما من تطوير صفاتهم الوراثية لتبدأ مسيرة البشر أو الإنسان الحديث كما يخبرنا داروين، ويؤكد أنصار الفريق بأنه بإمكاننا التوفيق بين المبادئ الرئيسية للنظرية والنصوص الدينية سواء كانت من القرآن الكريم أو الكتب السماوية الأخرى وعلينا ألا ننظر إلى النصوص بطريقة حرفية لأن القرآن حمّال أوجه، فمثلاً نحن ننظر إلى الآية التي تقول بأن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام على أن هذا اليوم لا يعني اليوم المكون من أربع وعشرين ساعة بل هو فترة زمنية غير محددة، وهناك علماء كبار تبنوا هذا التوافق بين النظرية الداروينية والإسلام مثل الدكتور يوسف القرضاوي والمفكر عبد الصبور شاهين مؤلف كتاب “أبي آدم” الذي وضح فيه آراءه. وحتى بين عدد كبير من المسيحيين من العلماء نجد أنهم يوافقون على نظرية التطور ولا ينظرون إلى حرفية النصوص في الكتاب المقدس، وعلى سبيل المثال نذكر العالم فرانشيسكو خوزيه آيالا أستاذ الأحياء التطورية في جامعة كاليفورنيا (إرفاين) والذي كان في السابق قسيسًا في طائفة الرهبنة الدومينيكانية، فهو عالم مسيحي وفي نفس الوقت يدرس لطلابه مبادئ نظرية التطور وهناك الكثيرون غيره مثل عالم الجينات البريطاني والمسيحي روبرت جيمس بيري والقسيس الكاثوليكي وعالم الفلك في نفس الوقت جورج كوين وغيرهم.
أضف تعليق