هناك العديد من طرق الكتابة التي تطورت عبر أجيال طويلة، ففي عصور البشرية القديمة وحتى قبل اكتشاف الكتابة البدائية كان للبشر طابع مغاير لطباعنا الآن، فقد كانوا يعيشون في قبائل صغيرة إما على صيد الحيوانات والطيور أو الأسماك وجمع الثمار وهذا ما قبل اكتشاف الزراعة بالطبع. حياة الإنسان كان لها طابع مليء بالحركة وقائم فقط على بعض المهارات تساعده في البقاء على قيد الحياة ولم يكن يحتاج للغة فعلية في هذا الوقت أو بالأحرى فإنه لم يكن في حياتهم متسع لاختراع اللغة، فكان الأمر في بداياته أشبه ببعض الإشارات البدائية التي نجدها لدى الحيوانات. فإذا أردنا فهم أوضح لماهية اللغة قلنا إنها مجموعة من الرموز تطابق لموجودات في الطبيعة والمعاني والانفعالات والمشاعر.
تعرف على أقدم طرق الكتابة قبل الميلاد
تطور المجتمعات البشرية
ظهرت الكتابة بعد اكتشاف الزراعة والتي أسست لمجتمع مستقر وزادت من متوسط عمر الإنسان ووقت فراغه. هذا وكانت الزراعة من أهم التحولات في تطور فكر الإنسان. وإنه لمن المستحيل قيام الفكر بدون اللغة، فمادة الفكر هي اللغة كما المواد الخام للصناعة. ولكن كيف ساعدت الزراعة في ظهور الكتابة البدائية؟
أسباب اختراع اللغة
لما كانت الزراعة واستئناس الحيوانات هي موارد القبيلة الجديد؛ اهتم البدائيون بالتجارة بينهم والتبادل وهو ما تطلب اختراع الأعداد البسيطة، فكانوا يبدلون بقرة بماعزين ولا يبدلون بقرتين بأربع. فلم يصلوا إلا للعدد 2 في ذلك الوقت. فإذا أرادوا إبدال أربعة بإثنين أجروا المبادلة على مرتين، وهكذا ظل الأمر حتى تم اكتشاف النظام العشري والإثني عشري. حتى أنهم قدسوا الأرقام وأحاطوها بغموض السحر. وإذا اتفقنا أن الحاجة أم الاختراع فقد لجأ البدائيون إلى اختراع اللغة نتيجة لازدياد تعقيد حياتهم والوقت لملاحظة العالم المحيط. لكن هناك اتجاه آخر يرى أن اللغة جاءت صدفة ودون الحاجة إليها. فقط ظهرت بشكل عشوائي تدريجي ثم طور الإنسان بعد ذلك استخدامها في تسجيل نصوصه الدينية وإنجازات المجتمع ونمط المعيشة وما إلى ذلك.
بدايات اللغة المؤدية إلى طرق الكتابة
هنا نجد ثلاثة مدارس رئيسية أو ثلاثة اتجاهات نوردها متتابعة، مع العلم بأن هناك عشرات النظريات التي تفسر نشأة اللغة، بل أن هناك بعض العلماء أخرجوا أكثر من نظرية واحدة في حياتهم مثل المستشرق الألماني ماكس مولر المختص باللغة السنسكريتية القديمة وصاحب كتاب “مدخل إلى علم اللغة” الذي يعتبر أساس علم اللغة الحديث.
نظريات ماكس مولر
في منتصف القرن التاسع عشر قام مولر بتصنيف عدد من النظريات التي تخص أصل اللغة وكذلك طرق الكتابة ، والمميز أنه أعطاها أسامي غريبة عن الواقع الأكاديمي، فأول نظرية هي نظرية “بوه-بوه” وهي التي تفسر الكلمات التي اخترعها البشر بسبب الشعور بالألم، وبالفعل فإننا نجد أغلب الكلمات في معظم لغات العالم القديمة هي معبرة لواقع الألم مثل “آه” في العربية و”Oh” في الإنجليزية، وهذا قديمًا وحديثًا، وصاغ أيضًا نظرية “تا-تا” التي تقول أن الإنسان استطاع الحصول على كافة الحركات والأصوات من أصوات الطبيعة من حوله، فعندما سمع زقزقة الطيور بدأ بتقليدها، وعندما سمع عواء الذئب بدأ بتقليده، ومع ذلك فإن تلك النظرية مثيرة للجدل إلى حد كبير، ومن نظرياته الأخرى “دينج-دونج” و”يو-هي-هو”.
نظرية التوقيف
هي نظرية ترى أن اللغة ليست من صنع البشر ولا يد لهم فيها بل إن الخالق قد جعلنا نتحدث اللغة، فهو من وضعها ووضع أسسها وعلمنا النطق بها. أدلة هذه النظرية أدلة دينية بحتة تعتمد على نصوص من الكتب المقدسة المختلفة، والبعض لا يعتبرها من النظريات، فهي إيمان نصي يمكن أن يشكل قناعات أساسية لعلماء اللغة أنفسهم الذين يخرجون بنظريات أخرى.
نظرية الاصطلاح أو الاعتبارية
ترى أن اللغة إنما نشأت كما علامات المرور. فليس هناك معنى فعلي للأحمر والأخضر والأصفر وإنما اصطلح الناس على كون الأحمر يعني وقوف والأصفر انتظار والأخضر سير. فترى مثلاً أن اتفاق الناس على مدار سنين طويلة على كلمة “النار” أنها اسم يضم صفات النار، و”شجرة” اسم يدل على شكل الشجرة وألوانها وهكذا، وهكذا في كل اللغات بالطبع. لكن هذه النظرية أيضًا لا تملك أدلة وإنما هو توقع أو فرضية بمعنى أصح، وبالنسبة لعلماء اللغة في القرن العشرين فإنها ليست بنظرية، بل هي مجرد قول عابر يمكن أن يكون موجودًا في النظريات الأخرى، فبالفعل هناك كلمات يتم الاصطلاح عليها بالاتفاق بين البشر، لكن هل كل الكلمات ظهرت بتلك الطريقة؟ وهناك سؤال هام أيضًا تُهاجم به النظرية كثيرًا: كيف تم الاصطلاح على تلك الكلمات؟ ألا يعني هذا وجود لغة مسبقة؟ ولم الحاجة إلى الاصطلاح على الكلمات طالما أن اللغة موجودة؟ إلا أن المتشبثين بالنظرية (إذا اتفقنا تسميتها هكذا على مضض) يقولون أن الاتفاق تم عبر كلمات بسيطة أو ربما عبر لغة الإشارة أو غيرها من الطرق.
نظرية محاكاة الأصوات
هذه النظرية هي الأقوى بينهم لأن لها أدلة واضحة على عكس الفرضيات الأخرى. يمكننا أيضًا إلحاق فرضيتين أخرتين بها للتشابه الكبير بينهما، وتقول النظرية أن اللغة إنما نشأت من تقليد أصوات الحيوانات وحركات الأشياء في الطبيعة فتمت تسمية الأشياء حسب الصوت الذي تصدره ترددات الأحبال الصوتية. نجد هذا في ألفاظ مثل زئير وقهقهة وهمس وأنين كما في العربية، وكلمة “Whisper” كما في الإنجليزية، وكلمة “هايتشو” في البرازيلية القديمة التي تعني العطس، وتسمية القطة ماو في المصرية القديمة، وكل هذه أمثلة فقط وليست للحصر.
ما مدى صحة النظرية؟
لكن هذه النظرية لا يمكنها أيضًا تفسير كلمات أخرى كثيرة كالبطريق والشجرة والرأس. ربما تساعدنا في هذه الكلمات محاكاة أصوات عضلات الجسد القائلة بأن الإنسان سمى بعض الأشياء وفقًا لأصوات جسده في التفاعل معها فسمى مثلاً الشيء الثقيل بلفظة تتطلب صعوبة في القول. النظرية الأخيرة هي أن الإنسان أطلق أسماء على الأشياء وفقًا لمعاني غريزية تثيرها الكلمات في خاطره. كالحنان مثلاً والدفء والهدوء، ولكنها أيضًا تعجز عن تفسير كلمات مثل غبطة وغنج وغموض، فهي قريبة من بعضها الآخر في الوقع ومتباعدة في المعنى.
هذا وقد كان الإنسان في لغاته البدائية يطلق أسماء مختلفة على الأشياء المتشابهة ولا يملك اسمًا جامعًا لها أو اسم كلي كما نسميه الآن. فكان هناك كلمة لذيل الجاموس وكلمة لذيل الكلب وليس هناك كلمة تعني ذيل فقط. كذلك يطلق على كل نوع شجرة اسم ولا نجد كلمة مرادفة لكلمة شجرة كاسم جامع. فالأسماء الكلية لم تظهر إلا في اللغات المتأخرة. كما نرى هنا فإن نظرية واحدة لا يمكننا الاعتماد عليها ولكن هذه النظريات معًا يمكنها أن تمدنا بفهم قريب من الصحة عن نشأة اللغة.
طرق الكتابة الأولى
ننتقل الآن من اللغة الشفهية إلى تحولها لكتابة وحروف استخدمها الإنسان القديم في تدوين حياته ونقلها للأجيال اللاحقة له. نبدأ حديثنا بأسطورة فرعونية عن الكتابة وتحكي هذه الأسطورة عن أن الإله تحوت جاء للملك تحاموس ليكشف له عن الكتابة، فأبى الملك تعلمها لأنه رأى أن هذا الفن سيهدم المدنية بجعل الشباب يكسلون عن حفظ ما كان يجب حفظه ويكتفون بوجوده في الكتب. فنرى أن الكتابة واجهت أيضًا بعض المقاومة قبل أن تنتشر ويتخذها السحرة والكهنة حكرًا لهم لبعض الوقت ويحيطوها بكثير من الغموض شأنها شأن أي اختراع آخر. ولقد كان لها منزلة مقدسة فإن كلمة الهيروغليفية تعني النقش المقدس.
البدايات
أما عن بدايات طرق الكتابة كلغة تترجم معاني الأشياء فهو شيء يختلف حسب المكان والزمان، فعند شعوب الصين واليابان والمصريين مثلاً نجد أنها درب انبثق من الفن وقد كانت عبارة عن صور تعبر عن أسماء فقط. ربما أيضًا تفرعت الكتابة عن فن الخزف الذي كان منتشرًا في العصور القديمة. نظن أيضًا أنها بدأت كميثاق بين التجار ليثبتوا به الملكية، كعلامة تجارية مثلاً. ثم تطور كل هذا من صور ورسوم إلى رموز تدل على معانٍ محددة وتركيبة من هذه الرموز تعطي كلمة، وهكذا كان التطور حتى ظهرت وتشكلت لغاتنا الحديثة، ونتناول بعض لغات الكتابة البدائية وعصورها.
اللغة القوطية
تشير كلمة “قوطي” إلى العديد من الأشياء، ولعل المعنى الأكثر شيوعًا الآن هو الأعمال الفنية أو المباني ذات اللمحة الغريبة والمرعبة، وقد لحقت بأنواع بعض الأفلام والموسيقى والأدب، لكن المقصود بها هنا هو المعنى الأصلي لها، وهي لغة الشعب القوطي الذي يمكننا تقسيمه إلى شرقيين وغربيين، وهي لغة منحدرة من اللغات الجرمانية القديمة التي تعتبر ضمن اللغات الهندو-أوروبية، والآن هي من اللغات المنقرضة، وذلك بسبب فناء شعبها الأصلي، وآخر من تحدثوا بها كانوا مجموعة من القبائل التي عاشت في البرتغال وإسبانيا في القرن الثامن بعد الميلاد.
الترجمة القوطية للكتاب المقدس
رغم كون معظم الوثائق عن هذه اللغة مازالت موجودة إلا أن كثيرًا منها تم تحريفه في القرن الخامس الميلادي بفعل الكاهن الكاثوليكي سالفيان. حيث كان يرى أن هذه النصوص تعد كفر وفقًا لمعتقد الكاثوليكيين المتعصب في هذا الوقت. هذا لأن وولفيلا (أورفيلا كما يكتب في بعض الأحيان) الذي ترجم الكتاب كان آريًا أي تابعًا لمذهب المهرطق آريوس والذي تنظر إليه كافة الطوائف الأخرى باعتباره من أسوأ المبتدعين في المسيحية، وبالتالي شأنه شأن جميع القوطيين كان يرى أن أقنوم الابن (في عقيدة التثليث المسيحية والتي تتضمن ثلاثية أقانيم هي الآب والابن والروح القدس) لا يملك روح لاهوتية وأن المسيح هو ابن الإنسان كما ذكر في الإنجيل عدة مرات. وقد قرر وولفيلا في النهاية أنه من الأفضل للقوطيين دخول المسيحية لأن بها نظام حروف وهو ما لم يوجد في طرق الكتابة في القوطية. فقد كانت عبارة عن مجموعة قليلة من الكلمات التي تحمل رسالة موجزة، وقد ألف وولفيلا معظمها مستعينًا بحروف اليونانية القديمة.
الهيروغليفية
بالرغم من وجود كتابات هيروغليفية في أماكن كثيرة إلا أن أول جملة متعارف عليها قد وجدت في مقبرة الملك (سيث بر إيب سون) وهو أحد ملوك الأسرة الثانية وأول ملك يستخدم اسم سيث بدلاً من اسم حورس. وهناك نص يقودنا إلى أن الملك سيث بر ايب سون قد حكم كلاً من صعيد مصر والدلتا، وترجمة النص على مقبرته “متحكمًا في كل شيء في أومبوس (نقادة) قد وحد الأرضين من أجل ابنه. الملك حاكم الأرضين بر ايب سون.”
اللاتينية
إن أقدم نقش لاتيني لدينا مطبوع على دبوس ذهب زينة طوله أربعة إنشات وجد في مدينة بالسترينا (تبعد عشرين كيلومتر شرق روما)، وهي مدينة مأهولة حتى الآن. شك الناس في ١٩٠٥ أن الحفر على هذا الدبوس مزيف ولكن في عام ٢٠١١ قام مجموعة من العلماء باستخدام طريقة جديدة وأكدوا أنه أصلي. اعتمدت طريقتهم على بلورة جزيئات الذهب في النقش التي ظهر أنه لابد أن تكون قد حفرت منذ قرون لتكون بهذا الشكل. أي أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال تزييف واحدة مثلها في القرن التاسع عشر.
الميسينية اليونانية
ميسينيا هي مدينة يونانية قديمة، والآثار التي وجدت في تلك الحضارة (1600-1100 ق.م.) هي أقدم بكثير من آثار أثينا وطروادة، فهي تحتوي على التاريخ الأكثر قدمًا للإغريق وشهدت العديد من التغيرات التي تسببت فيما بعد في تطور الحياة السياسية والاجتماعية في بلاد اليونان. تسمى هذه اللغة أيضًا بالخطية باء. من ضمن طرق الكتابة البدائية تعد هذه اللغة أقدم لغة إغريقية معروفة ويتفق الأثريون أنها مشتقة من لغة أقدم تسمى الخطية ألف.
المينوسية
الحضارة المينوسية هي أيضًا من أقدم الحضارات الإغريقية، هذا لأنها وجدت في بقايا حضارة جزيرة كريت (أو أقريطش كما سماها العرب القدماء)، وهي تُنسب إلى الحاكم مينوس، ولعل أكثر الأشياء التي تميز الحضارة هو اعتماد السكان على المعادن واستخراجها وتحويلها إلى أدوات مختلفة، لذا فإن هذه المرحلة هي من أهم مراحل التطور البشري وتوجيه التفكير نحو الاستفادة من كافة مكونات الطبيعة، ولهذا فإن المينوسية لعبت دورًا كبيرًا في تطوير طرق الكتابة ، ولعل كثرة الزلازل والظواهر الطبيعية المدمرة لتلك المنطقة كان سببًا مؤسفًا نتج عنه تدمير كميات هائلة من الآثار والوثائق التي تمنعنا من معرفة المزيد عن تلك الفترة وبالتحديد ما يخص طرق الكتابة ، وما زالت لغة الحضارة المينوسية غير مترجمة إلى الآن. أما عن الميسينية فقد ترجمت إلى مائتي حرف متنوعين بين أرقام ورسومات لأجسام متنوعة موجودة على ألواح صخرية. ترجمت هذه الألواح بعد خمسين عام من اكتشافها وقد كانت تستخدم في تسجيل الإنفاق على البضائع.
الفارسية القديمة
يعد نقش البيهستان أهم ما تبقى من الفارسية القديمة، وهو يمثل حجر رشيد بالنسبة للهيروغليفية، وهو نقش موجود على جبل البيهستان في إيران. يصور هذا النقش موقف انتصاري وفخري أكثر منه تاريخي وحضاري. كتبه دارسوس العظيم بعد تتويجه ملكًا عام ٥٢٢ قبل الميلاد.
لغات أخرى
نجد العديد من طرق الكتابة البدائية أيضًا كالسومرية والعبرية والصينية القديمة والموابيتية (نسبة إلى مدينة موابيت الأردنية). نجد أن تطور الفكر الإنساني قد مر بالعديد من التطورات والاختراعات التي ما زلنا نكمل عليها مسيرة المدنية. فلما ازدهرت طرق الكتابة نشأ معها فكر أكثر عمقًا من ذي قبل، فكلما زادت المفاهيم لدى الإنسان عن واقعه المحيط أنشأ مفاهيم جديدة من العلاقات بين مفاهيمه القديمة، وبهذا استطاع الإنسان إنتاج المفاهيم المجردة كالعدل والجمال والسعادة. فقد مدته طرق الكتابة بطريقة جديدة في التواصل بين أفراد المجتمع الواحد وهو ما ساعد أيضًا في تعميق الفكر. ميزة أخرى للكتابة هي تناقل المعرفة بطريقة أقوى بين الأجيال المتتابعة وحفظها دون ضياع. ساعد هذا أيضًا في تراكمية الفكر إلى أن وصلنا للعلم التجريبي المنهجي ودراسة الظواهر بموضوعية والتخلي عن الخرافة.
أضف تعليق