يعد فان جوخ واحدًا من أشهر الرسامين العالميين قاطبة، طبقت شهرته الآفاق وذاع صيته في العالم أجمع، وامتد أثره وأثر فنونه ولوحاته في عصره لما تلاه من عصور وتخطت أعماله العظيمة حدود المكان والزمان لتعبر العالم بأسره خلال سنين وعقود وقرون طويلة لاحقة، وقد أثرى جوخ بفنه المتفرد ولوحاته الرائعة القيمة الحضارة الإنسانية كلها وأسهم إسهامات جلية في تطوير فن الرسم والفن التشكيلي بوجه عام، مما جعل أعماله أيقونة متفردة في تاريخ الفن، واعتبرت لوحاته المهمة والملهمة في آنٍ بمثابة نبراس يهتدي ويقتدي به الفنانون من كل بقاع العالم وكأنها إلهام متجدد ونبع متفجر ينهل منه الرسامون والفنانون ومحبو الرسم والفن على حد سواء، إذ يعد رائدًا من رواد المدرسة الانطباعية التي انتمى إليها، نشير فيما يلي إلى نشأة الفنان وأبرز مراحل حياته ونستعرض أهم وأشهر أعماله ونوضح الحقيقة خلف حادثة قطع أذنه الشهيرة ونكشف أسرار مرضه ووفاته.
فان جوخ الفنان الذي انتحر في ظروف غامضة
ميلاده ونشأته
اسمه الكامل فينسينت فيليام فان جوخ في اليوم الثلاثين من شهر آذار/مارس للعام 1853، بمدينة تدعى جروت زندرت في هولندا لأبوين هما ثيودوروس فان جوخ (1822 – 1885) وآنا كورنيليا كاربينتوس (1819 – 1907)، جاء فان إلى الدنيا عقب عام واحد فقط من ولادة أمه لطفل ميت كان يدعى فينسينت أيضًا، وسمي المولود الجديد فينسينت كذلك على اسم أخيه المتوفى سابقًا. نشأ جوخ نشأة دينية نظرًا لكون والده هو القس ثيودوروس، قس الكنيسة الإصلاحية في هولندا، وعلى الرغم من ذلك إلا أن عائلته ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بالفن، حيث كان عمه كورنيليس الذي عرف بالعم كور، وكذلك معه أيضًا عمه فينسينت الذي عرف بالعم سنت، يعملان في مجال الفن كتجار ووسطاء فنيين، ومن هنا كانت بداية انطلاقة جوخ إلى عالم الفن السحري المثير، إذ وفر له مجال عمل أعمامه بيئة خصبة للاطلاع على مختلف أشكال الفنون، وضمنت له أسفار أعمامه المتكررة إلى شتى أنحاء أوروبا مناخًا صالحًا مهيأ لتشرب واستيعاب كافة الثقافات الفنية المختلفة على اتساعها وتعدد مذاهبها ومدارسها. كما أن أخاه الأصغر ثيو، ورث عن أعمامه امتهانهم العمل بالفن، وعمل مثلهم كتاجر ووسيط فني، مما كان له أبلغ الأثر على مسار حياة جوخ بوجه عام، وعلى مسيرته الفنية بوجه خاص لاحقًا.
الحياة العلمية والعملية لفان جوخ
على النقيض مما سبق، لم يكن فان موفقًا إلى حد كبير في الدراسة، إذ أنه هجر دراسته الأكاديمية حين كان في سن الخامسة عشر من عمره، بعد أن أمضى عامين كاملين كطالب في مدرسة الملك ويليام الثاني الثانوية في تيلبيرج، سبقتهما سنتان أخريتان التحق فيهما بمدرسة داخلية في زيفينبيرجين، وبذلك كان انقطاعه نهائيًا عن التعليم الأكاديمي في العام 1868. تضافرت الظروف، جهة من ناحية انقطاعه عن دراسته وتعليمه الأكاديمي، وجهة من ناحية اشتغال أعمامه وأخيه الأصغر في مجال الفن كتجار ووسطاء فنيين، فما كان من أعمامه وأخيه إلا أن كثفوا جهودهم مستغلين في ذلك ارتباطهم الوثيق بعالم الفن وبتجارة الفن، وبوكالات ومؤسسات وشركات عالمية تدير شئون الفن وتجارته في العالم أجمع، وألحقوه في العام 1869 بوظيفة في وكالة فنية مرموقة تدعي جووبيل وسي تعنى بشئون الفن وتختص بأمور العاملين في تجارة الفن، ومقرها في لاهاي.
تقدم ملحوظ
أثبت فان جوخ جدارة في عمله الجديد، وحقق نجاحًا مرضيًا على مدار أربع سنين، قضاها كتاجر ووسيط فني في وكالة جووبيل وسي الفنية ذائعة الصيت وقتذاك، وأهلته تلك الجدارة ومكنه ذلك النجاح من الترقي والصعود، وكسب ثقة مدرائه والقائمين على شئون المؤسسة، فانتقل إلي فرع وكالة جووبيل وسي، الكائن بالعاصمة البريطانية لندن في العام 1873، واستمر في العمل لدى وكالة جووبيل وسي لثلاث سنوات أخرى لاحقة، ليبلغ مجموع ما قضاه في تلك المؤسسة سبع سنوات، لتصبح بذلك جووبيل وسي هي النافذة التي أطل منها جوخ على فنون العالم، وليكون عمله لدى تلك المؤسسة هو الذي فتح له الباب على مصراعيه ليدلف منه إلى عالم الفن، وهو الذي خلق له عالمًا متكاملًا من المفردات الفنية، وأحاطه بكل ما يخص الفن من كل جانب، وبذلك أتيح له المجال ليقترب أكثر فأكثر من عالم الفن الذي لطالما عشقه وافتتن به، وليحتك بذلك العالم السحري المثير المليء بالأسرار والألغاز والمتعة والإبداع بلا حدود على حد سواء، عن قرب ويتعامل معه على أرض الواقع لا الخيال فقط.
صراعات حياتية
بحلول العام 1875، كانت الصراعات قد نشبت بين فان جوخ وبين وكالة جووبيل وسي ودبت الخلافات بينهما على إثر نقل فان إلى فرع الشركة الكائن بالعاصمة الفرنسية باريس، وتزايدت حدة الصراع وتسارعت وتيرة الخلاف واتسعت الهوة بين فان من جهة، وبين شركة جووبيل وسي من جهة، وتصاعدت شدة الأزمة حتي بلغت ذروتها في العام 1876، فقرر فان على إثر ذلك كله أن يستقيل من عمله كتاجر ووسيط فني لدى الوكالة، وفضل أن يعود أدراجه للأراضي البريطانية، ناشدًا السلام والطمأنينة وبعضًا من الراحة والسعادة، حيث كان قد عقد في فترات إقامته السابقة هناك عدة صداقات قوية مع عدد من الكتاب المرموقين ومشاهير الشخصيات العامة مثل تشارليز ديكينز الكاتب الإنجليزي الشهير صاحب رائعة (الأوقات الصعبة)، ومثل الكاتب المعروف جورج إليوت.
التحول إلى الدراسة الدينية
عقب انتقال فان جوخ إلى الأراضي الإنجليزية مجددًا بدأ يراوده حلم جديد في أن يصبح رجل دين وكانت تلك هي المرة الأولى التي يراوده فيها مثل ذلك الحلم، بالرغم من أن نشأته يفترض فيها أنها كانت نشأة دينية على يد أبيه القس، ومن أجل ذلك الحلم قرر فان جوخ أن يلتحق بمدرسة القس ويليام ستوكس، في مدينة تدعى رامسجيت ليباشر الدراسة فيها ويستأنف حياته التعليمية التي كان قد اقتطعها منذ أن كان في الخامسة عشر من عمره، وبالفعل التحق بمدرسة القس ويليام ستوكس، وأصبح معلمًا ومسئولاً عن عدد يبلغ أربع وعشرون من الأطفال والمراهقين الذين تتراوح أعمارهم بين العاشرة والرابعة عشر، وعكف فان جوخ في مدرسة القس ويليام ستوكس إلى جانب مسئوليته عن تعليم الأطفال والمراهقين على دراسة التوراة والإنجيل، لتحقيق حلمه في أن يصبح رجل دين حقيقي، لا مجرد معلم لمجموعة من الأطفال والمراهقين. وفي سبيل تحقيقه لحلمه في أن يصبح رجل دين، كان لزامًا عليه أن يتحمل مزيدًا من المهام، ويثقل كاهله بمزيد من المسئوليات، فما كان من القائمين على الشئون الكنسية آنذاك إلا أن أعطوه فرصة ذهبية بأن يكون متحدثًا في اجتماعات الصلاة، تمهيدًا لترقيته إلى خطيب في أيام الآحاد والعظات، ولكن جوخ أخفق في ذلك إخفاقًا مريرًا، إذ كان متحدثًا فاشلاً يفتقر إلى أبسط أساليب الخطابة، ولا يفقه آليات التشويق ولا جذب الانتباه ولا التأثير على الآخرين، ولا يمتلك أيًا من المقومات المفترض تواجدها وتوافرها في الخطيب الكنسي.
العودة إلى هولندا
على إثر ذلك الفشل المزري، قرر فان جوخ العودة إلى موطنه الأصلي في هولندا، ولكن حلمه بأن يصبح رجل دين لم يبرحه ولم يزل يراوده، فاستجاب فان لإغراء وغواية الحلم مرة أخرى، وقاوم إحساسه بالفشل وبمرارة الإحباط، وتقدم في مستهل العام 1877 ليلتحق بالجامعة، طالبًا وراغبًا في دراسة علم اللاهوت حتى يتسنى له تحقيق حلمه في أن يصبح رجل دين، لا مجرد معلم أو حتى خطيب. وبالفعل بدأ فان جوخ مباشرة دروسه في الجامعة، وكان يتوجب عليه دراسة فروع أخرى من العلوم بجانب علم اللاهوت, فوجد نفسه مضطرًا إلى دراسة اللغات كاللغة اللاتينية واللغة اليونانية بالإضافة إلى دراسة الرياضيات، وكما هي العادة حينما يتعلق الأمر بالتعليم الأكاديمي لم يبل فان حسنًا وفشل بشكل كامل جعل الجامعة تحرمه من استكمال ومواصلة دراسته بها بعد خمسة عشر شهر فقط من بدء التحاقه بها.
المزيد من الفشل
لم تنته إخفاقات فان جوخ المتعاقبة عند ذلك الحد، بل تجاوزتها إلى مزيد من حلقات الفشل الجديدة، حيث أن فان أعقب فشله في المرات الثلاثة السابقة بفشل رابع جديد حين رفضته المدرسة التبشيرية الموجودة في لايكين، ولم يكن أمامه بد وقتذاك إلا أن يستجيب لأوامر الكنيسة، والتي من جانبها حاولت بشتى الطرق أن تسري عنه وتنسيه فشله المتكرر المتعاقب، فقررت في هذا الصدد أن ترسل فان جوخ إلى بلجيكا، وبالتحديد إلى بلدة هناك تدعى بوريناج حيث مناجم التنقيب عن الفحم، ومن ثم بالطبع حيث يحيا عمال مناجم التنقيب عن الفحم الذين يفترض أن يكونوا تحت وصاية فان، وذلك في شهر كانون الثاني/يناير من العام 1879. كانت لتلك البعثة أكبر الأثر على حياة جوخ وعلى تكوينه النفسي وإدراكه الروحاني وشعوره الإنساني، إذ عاش فان تحت ظروف بالغة السوء من الفقر المتناهي، شأنه كشأن كل عمال مناجم التنقيب عن الفحم وأسفرت تلك المرحلة عن تغير كبير في سلوك فان وأفكاره وتفجرت من داخله ينابيع التعاطف مع العمال ومع ما يقاسونه من فقر مدقع وظروف شديدة السوء، ومع ما يتعرضون له ويواجهونه من مخاطر، فجنح فان إلى الزهد المبالغ فيه وحاول بإخلاص أن يكون بمثابة أب روحي حقيقي لأولئك العمال المساكين وعائلاتهم، وجاهد كثيرًا في سبيل أن يكون مستحقًا لمكانة الزعيم والأب الروحي، وفي سبيل ذلك سعى فان للتخلص دائمًا وأول بأول من معظم متعلقاته الشخصية البسيطة كالملبس والمأكل والمشرب، وإرسالها إلي مستحقيها الحقيقيين من عمال المناجم الفقراء المعدمين، وتحمل هو بجلد أن يحيا في ضنك ويعيش على الكفاف. لكن للأسف، لم ترق سياسات فان جوخ المغرقة في الزهد والتقشف كثيرًا للكنيسة، فأمرت على الفور بإيقافه من العمل في شهر تموز/يوليو من العام 1879، نفس العام الذي أرسل فيه.
استمرار ومثابرة
إلا أن فان جوخ رفض بشدة وإصرار أن يترك العمال الفقراء ويرحل حيث جاء، إذ أن الرابطة الإنسانية القوية التي نشأت بينهم كانت رابطة عميقة وصادقة بحق ولم تكن لتسمح لفان بأن يدير ظهره لأولئك الفقراء ويعود هو إلى حياته الرغدة المرفهة بعد ما علمه عن ظروف عمال المناجم من أحوالهم، فما كان من جوخ حيال كل ذلك إلا أن أصر على البقاء وعدم الرحيل، فقط انتقل من بلدة واسميس القائمة بنشاطات التعدين والتي قضى فيها فان قرابة السبعة أشهر إلى بلدة أخرى تدعى كيوسميس، وبدأ هناك مرحلة أشد من الفقر، واختبر ظروفًا أقسى مما يعيشه عمال المناجم، وعانى كثيرًا فقط ليبقى على قيد الحياة وليستمر في دعمه للفقراء من عمال المناجم والفقراء عامةً. ولكن ظروف المعيشة بالغة السوء وشديدة الصعوبة كانت تضيق أكثر فأكثر لتصبح أكبر بكثير من قدرة فان جوخ على التحمل والتعايش، وهنا انبثقت لحظة سحرية تفتقت فيها قريحة جوخ عن رغبته وقراره في أن يصبح فنانًا.
شقيقه الأصغر
ارتبط فان جوخ بأخيه الأصغر ثيو ارتباطًا إنسانيًا وثيقًا، وكان فان يعد ثيو كأحد أقرب البشر إليه وإلى روحه وأحبهم إلى قلبه، وكنتيجة منطقية لذلك فقد أرسل جوخ إلى أخيه ثيو ما يربو عن السبعمائة رسالة على مدار حياته، كان يسرد فيها لأخيه تفاصيل حياته ويستشيره في أموره ويطلب منه المدد والعون أحيانًا أخرى، وتعد الرسالة التي أرسلها فان إلى أخيه ثيو قبيل انتحاره من أشهر تلك الرسائل ومن أشهر الرسائل الأدبية في التاريخ بشكل عام، والتي أفصحت بشكل كبير عن الطريقة التي كان يفكر بها فان وعن كيفية رؤيته للعالم من حوله ولنفسه ولجدوى حياته ومغزى وجوده.
بول جوجان
بدأت علاقة الصداقة بين فان جوخ وبول جوجان حينما انتقل فان إلى بلدة تدعى آرل الواقعة في جنوب فرنسا، وذلك في أوائل العام 1888، عاش الصديقان سويًا أيامًا طويلة، كانا فيها على وفاق تام، وكانا يتجولان سويًا بالقاعات الفنية ويحضران اجتماعات الفنانين والرسامين ويدرسان الأساليب الفنية ويتعرفان إلى التقنيات الجديدة ويتباحثان بشأن ما يتنامى إلى علمهما من معرفة بخصوص الأمور الفنية جميعها، ثم لم تلبث الخلافات أن تنشأ بينهما، ودب بينهما الشقاق، وعرف الصراع حول الأمور الفنية طريقه إليهما، فكانا يختلفان بحدة ويتشاجران بعنف حول رؤى كل منهما الفنية والمختلفة جذريًا عن رؤى الآخر، وتصاعدت حدة الخلاف بينهما في إحدى شجاراتهم المعتادة لتصل بفان إلى قطع الجزء الأسفل من أذنه اليسرى بشفرة حلاقة، ونزف كثيرًا من الدماء ونقل إلى المشفى على إثر تلك الحادثة الشهيرة والأليمة، ولم يذهب بول جوجان آنذاك لزيارة فان في المشفى، فانقطعت العلاقة بين الصديقين إلا من بعض الرسائل المتفرقة في بعض المناسبات الخاصة، ولكنهما لم يلتقيا ببعضهما البعض بعد ذلك أبدًا.
أهم أصدقاءه
من بين أصدقاء فان جوخ نذكر لك أنتون فان رابارد الذي كان رسامًا بارزًا، شأنه في ذلك شأن فان، ونشأت بينهما صداقة قوية، ولكن صداقتهما انتهت نهائيًا بعد انتقاد أنتون لأولى أعمال فان وهي آكلو البطاطا، حيث أن فان كان حساسًا للغاية تجاه إبداء عدم الإعجاب بأعماله، ولم يكن ليتقبل النقد بصدر رحب أبدًا، فأنهى صداقته بأنتون لذلك السبب. ومن بين أصدقاءه أيضًا نذكر لك جولز بريتون وهو رسام وفنان فرنسي، كان يقطن ببلدة تدعى كوريير، وكان فان يعتز بصداقته كثيرًا وفي الكثير من الأوقات لجأ إليه خصوصًا في فترات إقامة فان في كيوسميس. ونذكر أوكتافي موس الذي أهدى إلى فان فرصة عمره الذهبية، وذلك حين سمح له بعرض ست لوحات في المعرض الذي أقامه أوكتافي في العاصمة البلجيكية بروكسل وذلك في العام 1889.
أهم صديقاته
من أهم صديقات جوخ أورسولا لوير، وقد تعرف فان إلى أورسولا وابنتها يوجيني خلال فترة إقامته في لندن، وعاش معهما ولم يثبت بالقطع إن كان فان جوخ قد ارتبط عاطفيًا بأورسولا نفسها أم بابنتها يوجيني. وكذلك صديقته مارجوت بيجيمان التي كانت جارته في مسقط رأسه، وقد عشقته بجنون لدرجة أنها حاولت الانتحار عن طريق تناول السم، ولكن فان لم يبادلها الحب أبدًا، إنما فقط تعاطف معها حين حاولت الانتحار من أجله. وكذلك كلاسينا ماريا هورنيك وقد تعرف فان جوخ إلى كلاسينا خلال فترة إقامته في لاهاي، وكانت كلاسينا وقتئذ تستعد لوضع طفلها الثاني ولكنها انتقلت للإقامة الكاملة مع فان وبقيت معه لمدة عام ونصف, وكان لإقامتها تلك بصحبة طفليها أبلغ الأثر على تطوير قدرات فان الفنية.
أشهر الأعمال
كان فان جوخ فنانًا ذاتيًا، أي أنه علم نفسه بنفسه، ولم تقتصر منجزاته الفنية على لوحاته العظيمة الشهيرة فقط، تلك التي نفذها بتقنية الرسم باستخدام ألوان الزيت، إنما تعددت أعماله لتشمل الرسم باستخدام الألوان المائية وتصوير الاسكتشات بل وأيضًا كتابة الرسائل واستخلاص الحكم والمأثورات، وتبلغ إسهامات فان جوخ في هذا المضمار نحو ما يقرب من 1000 رسمة و150 لوحة بتقنية الرسم بألوان الماء، وحوالي 900 لوحة، وأنجز فان ذلك كله على مدار فترات زمنية قصيرة. أما عن أشهر لوحاته والتي صنعت مجده الفني فنذكر منها: لوحة الليلة ذات النجوم – لوحة آكلي البطاطا – لوحة حجرة النوم – لوحة شجرة اللوز المتبرعمة – لوحة زهرة عباد الشمس.
حقيقة أمراض فان جوخ
عانى فان عديدًا من الاضطرابات النفسية العنيفة والأمراض العصبية المزمنة، والتي حار فيها وفي تشخيصها وعلاجها أمهر أطباء عصره، وفيما يلي قائمة مقترحة بأبرز الأمراض والاضطرابات التى عانى منها فان جوخ ، وفي أول القائمة علينا أن نذكر صرع الفص الصدغي المؤقت: اعتقد الأطباء المعالجون لفان أنه ولد في الأصل بتقرحات في المخ، وازدادت تلك التقرحات نتيجة لعكوف فان مطولاً على معاقرة الخمر، مما أدى به إلى إصابته بصرع الفص الصدغي، وعالجه أطباؤه آنذاك بعقار يدعى ديجيتاليس وهو العقار الذي يؤدي بمن يتعاطاه إلى رؤية بقع صفراء أغلب الوقت وربما كان ذلك ما يفسر سيطرة اللون الأصفر على معظم لوحات وأعمال فان جوخ . أما المرض الثاني فهو الاكتئاب ثنائي القطب: استدل الأطباء على معاناة جوخ من مرض الاكتئاب ثنائي القطب كونه كان يظهر نشاطًا زائدًا وحماسًا مبالغًا فيه، وربما كان ذلك النشاط فيه لأفكار متناقضة، كميله في فترة من حياته إلى التدين والزهد والتقشف، ثم عدوله عن ذلك فجأة وجنوحه إلى الفن وإلى الاشتغال به، كما أن ذلك النشاط كان سرعان ما يختفي في أوقات غريبة، مسببًا له ذلك نوبات عنيفة وقاسية من الاكتئاب بل ومحاولات الانتحار. أما المرض الثالث فهو تسمم الرصاص: واظب فان على معالجة لوحاته المعتمدة في الأساس على الرسم باستخدام مادة الرصاص شديدة السمية، مستخدمًا أطراف أصابعه، مما أدى به في آخر الأمر إلى الإصابة بتسمم الرصاص، ويذكر أن فان حاول مرات عديدة أن يسم نفسه عن طريق ابتلاع لوحاته نظرًا لاحتوائها على كميات مهولة من مادة الرصاص السامة، أو عن طريق ابتلاع الكيروسين. ويعرف عن التسمم بالرصاص، أن من أشهر وأبرز أعراضه، أنه يؤدي بالشخص المصاب به إلى رؤية الضوء على هيئة حلقات وهالات حول الأشياء، وهو ما يظهر جليًا لدى فان جوخ في لوحة الليلة ذات النجوم على وجه التحديد.
أمراض أخرى محتملة
هنالك العديد من الأمراض الأخرى المحتملة والإصابات مثل ضربة الشمس: كانت تجتاح فان جوخ نوبات من القيء المتواصل والغثيان المستمر، تصاحبها آلام مبرحة في المعدة واضطرابات هضمية تسفر عن الإحساس بعدم الراحة. لازمت تلك الأعراض فان بعد فترة إقامته في بلدة آرل الواقعة في جنوب فرنسا، حيث أنه كان حريصًا على الالتزام بالواقعية في أعماله ولوحاته، فكان يصر على أن يرسم في الهواء الطلق حتى ينقل على لوحاته ما يراه حقًا بأم عينيه ويتحرى الواقعية التي عاهد نفسه عليها، مما جعله يضطر للمكوث في الشمس، والتعرض لأشعتها الضارة المؤذية فترات طويلة، حتى أصابته ضربة الشمس. بالإضافة إلى تضخم الكتابة أو الهايبرجرافيا: ذلك الاضطراب الذي يؤدي بمن يعاني منه إلى إدمان الكتابة، والشعور بالاحتياج الدائم للخط على الورق ولعل ذلك يقدم تفسيرًا منطقيًا لما يربو على الثمانمائة رسالة التي خلفها فان جوخ وكان قد كتبها طيلة حياته.
آخر أيامه
مع استقرار الأطباء المعالجين لفان جوخ على إصابته وتشخيصه بالأمراض والاضطرابات آنفة الذكر، كان لزامًا عليه أن يودع أحد المصحات النفسية حتى يسترد عافيته بشكل كامل، وبالفعل أودع فان بالمصحة النفسية في بلدة تدعى سان ريمي، وتقع في فرنسا وذلك في العام 1889، وهناك أنجز جوخ أروع أعماله على الإطلاق، ألا وهي الليلة ذات النجوم، حيث سمح له هناك بالرسم وبمباشرة لوحاته إلى أن بدأت حالته النفسية والعقلية والعصبية تفقد اتزانها، وكان على وشك ابتلاع لوحاته في إحدى نوبات الهياج، مما أسفر عن منعه عن الرسم وعن مباشرة لوحاته عقب تلك الحادثة، وكان فان في فترة إيداعه في ذلك المصح النفسي الكائن ببلدة سان ريمي حريصًا على التواصل مع أخيه الأصغر ثيو وعلى إطلاعه على حقيقة ومستجدات مرضه وما يطرأ عليه من تحولات، فما كان من ثيو إلا أن أقنع فان بضرورة سرعة مغادرة المصح النفسي بسان ريمي والانتقال مجددًا إلى باريس، وبالفعل استجاب جوخ لاقتراح أخيه وأنهى إقامته في سان ريمي وذلك في اليوم السادس عشر من شهر مايو للعام 1890، وبالرغم من ذلك فإن هنالك الكثير من المصادر التي تقول روايات مختلفة عن هذه الحادثة.
انتحار فان جوخ
انتقل فان إلى باريس وكان أخيه الأصغر ثيو في استقباله هناك بصحبة أسرته الصغيرة المكونة من زوجته جوانا وطفلهما الصغير فينسينت، إلا أن فان شعر بالضيق فور انتقاله إلى باريس ولم ترق له كثيرًا فكرة الإقامة بها، حيث افتقد شعوره بالراحة هناك، فقرر على إثر ذلك أن ينتقل إلى أوفير سور أوايز، ووجد هناك ضالته حيث الصفاء الذهني التام الذي لطالما نشده والشعور العميق بالارتياح المطلق ودعمته تلك الأحاسيس الإيجابية وساعدته على تكثيف إنجازاته في تلك الفترة، فخرج إنتاجه غزيرًا كثيفًا مثل لوحة الكنيسة في أوفيرس، ولوحة صورة الدكتور جاشي، ولكن لم تدم حالة الصفاء والاستقرار تلك كثيرًا، إذ سرعان ما انتكس جوخ، بعد علمه بمرض ابن أخيه فينسينت، فخرج في يوم السابع والعشرين من شهر تموز/يوليو من العام 1890 إلى أحد حقول القمح وأطلق على نفسه الرصاص، فاستقرت رصاصة بين ضلوع صدره، إلا أنه تمكن من العودة إلى منزله وسقط مغشيًا عليه فوق فراشه ولم يمت إلا بعد يومين كاملين، وفي حضور أخيه الأصغر ثيو الذي حضر خصيصًا من باريس بعد إبلاغه بالواقعة، وذلك في يوم التاسع والعشرين من شهر تموز/يوليو للعام 1890، ودفن في بلدة تدعى ميري، إذ وافقت كنيستها على دفنه على النقيض من كنيسة الكاثوليك في أوفيرس التي أبت أن تسمح بدفنه كونه مات قاتلاً نفسه.
أضف تعليق