يُعتبر العالم البريطاني بول ديراك أحد أهم العلماء الذين مروا بسجلات التاريخ في يومٍ من الأيام، ذلك التاريخ الذي صنفه كأحد أهم عشرة علماء مروا به، وتحديدًا في مجالات الفيزياء والرياضيات التي يتشعب منها علم الميكانيكا، وعلم الميكانيكا بالذات كان لبول باع كبير به لدرجة أنه قد وضع له عدة مبادئ خاصة يُمكن اعتبارها المصباح الذي يسير به الناس في الوقت الحالي بهذا العلم، تلخيصًا، إذا كنا سنذكر يومًا أن ثمة أشخاص قد مروا بهذا الكوكب في وقت من الأوقات وأثروا به تأثيرًا كبيرًا فإننا يجب ألا نغفل وضع ديراك على رأس هذه القائمة، ولذلك، دعونا في السطور القادمة نتعرف سويًا على سيرة هذا الرجل وشغفه الكبير للعلوم المُستعصية مثل الفيزياء والرياضيات، وكيف وصل في النهاية إلى ما وصل إليه، فهل أنتم مستعدون لخوض تلك الرحلة مع ذلك العالم الكبير؟
من هو بول ديراك؟
اسمه الحقيقي بول موريس، وهناك من يقول إنه بول أدريان، لكن في النهاية الاسم الأخير والمشهور به هو بول ديراك، وقد ولد ذلك الرجل في مطلع القرن العشرين، وتحديدًا في الثامن من أغسطس القابع في عام 1902، أي يُمكن القول ببساطة أن هذا العالم كان الشيء الأول الذي افتتح به العالم القرن العشرين، وطبعًا كان هذا أفضل استفتاح يُمكن أن تستفتح به قرن تم تصنيفه كأسوأ قرن في القرون العشر الأخيرة نظرًا لكونه قد شهد حربين عالميتين كبيرتين.
بدأ ديراك حياته بخلاف كبير على جنسيته، فقد كان والده سويسري يعيش في بريطانيا، ولذلك كان يعتز جدًا بجنسيته الأصلية ويُريد أن يمنحها لأولاده، وهذا ما فعله بالضبط، حيثُ منح ديراك تلك الجنسية، ثم بعد ذلك، وعندما بلغ الفتى السابعة عشر من عمره، حصل والده على الجنسية البريطانية، وبالتالي حصل هو عليها فأصبحت العائلة كلها تحمل تلك الجنسية، وذلك لأن الأم في الأساس كانت بريطانية الأصل، لكن، ما الذي تُغني عنه الجنسية أمام الطفولة التي عاشها؟
طفولة بول ديراك
إذا أعرنا كامل اهتمامنا لتحدثنا عن عالم كبير مثل ديراك فبالتأكيد سوف نُعطي توقعات كبيرة جدًا للطفولة التي عاشها، سوف ندعي بالطبع أنها كانت طفولة مثالية بكل ما تعنيه الكلمة من معانٍ، لكن الحقيقة أن الطفولة كانت مُخالفة تمامًا لذلك، فقد نشأ ديراك وسط خلافات عائلية شديدة التأثير، لكم أن تتخيلوا مثلًا أن خلاف الوالدين كان يصل إلى الحديث، أي أنهما كان يختلفان في أبسط شيء، اللغة التي يستخدمانها للحديث، الأم مثلًا تتحدث البريطانية بينما الأب كان يتحدث الفرنسية عن عمد، وقد أدى هذا الأمر إلى نتيجة خطيرة، وهي أن الطفل كان يظن أن سنة الخلق أن يتحدث الذكور بلغة مُختلفة عن الإناث، والعكس صحيح.
الطفولة المؤلمة لم تتوقف عند ذلك الحد، فقد تحزب الوالدين وكل منهما أخذ أحد أولاده وقرر تناول الطعام معه على انفصال، ومن حظ ديراك أنه كان يتناول الطعام مع والده، والذي كان يُجبره على التحدث باللغة التي يتحدث بها هو، وإذا أخطأ فإنه عقابه كان البقاء طويلًا على مائدة طعام، مما تسبب في النهاية بالإصابة بالحموضة.
المتاعب تتوالى
لابد أنكم مندهشون الآن من كوننا لم نبدأ بعد في إنجازات بول ديراك التي لا يزال التاريخ يتحدث عنها حتى الآن، لكن حياة ذلك الرجل الشخصية تستحق أكثر من ذلك بكل تأكيد، فنظرًا للأسلوب السابق الذي استخدمه والد بول معه كي يتكلم الفرنسية فإن الطفل عندما كبر لم يستطع أن ينسى ذلك الأمر أو حتى يتخلص منه، فقد أصابه بعقدة جعلته يتأزم كلما سمع أحد بجواره يتحدث الفرنسية، وطبعًا المُصطلح الطبي لتلك الحالة هو فوبيا اللغة.
لم تنتهي الأمور عند ذلك الحد، فعندما كان بول لا يزال فتىً في الثانية والعشرين من عمره شاهد شقيقه وهو ينتحر أمامه لعجزه عن مواكبة تصرفات والديه والمتاعب التي يُسببانها له، والحقيقة أن ضغوط مثل هذا كان من الممكن أن تأخذ بول لنفس الطريق الذي سلكه شقيقه، لكن بول كان أقوى من ذلك بكثير على الرغم من أن التاريخ لا زال يُخلد له تلك الجملة التي قالها بعد وفاة والدها مباشرةً، لقد قال أخيرًا أصبحتُ حرًا!
الحياة التعليمية لبول ديراك
بعيدًا عن الحياة الشخصية لبطلنا، والتي كانت كما هو واضحٌ مأساوية إلى حدٍ كبير، فإن بول لم يتأثر أبدًا بكل هذا العبث، أجل، كان ينظر له على أنه مجرد عبث مقارنةً بطموحه العلمي، وقد كانت مدرسة المطران أولى المحطات التي مر بها خلال رحلته التعليمية، بعد ذلك التحق بمدرسة فنية تُدعى ميرشانت، وهي بالمناسبة كانت المدرسة التي يعمل بها والده كمُدرس للغة، أي أن الجحيم لم يقبل أن يتركه حتى أثناء التعليم، لكنه مرة أخرى تمكن من التغلب على هذا الوضع.
بعد أن انتهى بول من المدرسة الفنية قاده تفوقه إلى دراسة الهندسة الكهربائية في واحدة من أعرق الجامعات التي كانت موجودة في هذا الوقت، وهي جامعة بريستول، وقد كان الدراسة في صورة منحة استطاع بول استغلالها الاستغلال الأمثل، حيث تخرج في المركز الأول لدفعته بالرغم من كونه الأصغر سنًا بين الجميع، وقد كان من المفترض في هذه الظروف أن يتم تعيينه كمدرس في الجامعة، لكن الظروف الاقتصادية حرمته من هذا الأمر واضطرته إلى استكمل الدراسة، لكن هذه المرة من أجل الحصول على الدكتوراه في الهندسة عام 1926.
معادلة ديراك السحرية
كانت معادلة ديراك السحرية هي من تمكنت من وضعها في تلك المكانة الكبيرة، حيث أنها كانت تُناقش الإلكترونيات وسلوكها، كما أنها، وفيما يتعلق بوجود المواد المضادة، قد تنبأت بحدوث ذلك حتى قبل حدوثه، ولكي نفهم أكثر، فإن المادة المضادة يُقصد بها مادة عادية حاملة لجسيمات عادية، لكنها في نفس الوقت تحمل شحنات مختلفة مضادة لها، وقد تمكن ديراك عن عمل قياس بتلك المعادلة على الكثير من الأشياء، فمثلًا البروتون، يُمكن القول أنها في الظروف العادية يحمل الشحنة السالبة مثل باقي المواد، لكنه، وبصفته أحد المواد المضادة، فهو كذلك يحمل الشحنة الموجبة، والعكس صحيح كذلك، إنها عملية معقدة بكل تأكيد، لكنها ليست كذلك بالنسبة لديراك.
معادلة ديراك لم تتوقف عند ذلك الحد، فقد أشار الرجل إلى شيء في غاية الأهمية، وهو أن الفراغ الذي نراه حولنا ليس فراغًا كما نظن، لا شيء في هذه الحياة يكون لا شيء، بل إن الفراغ يكون غالبًا ممتلئ بما يُعرف بالجسيمات، منها ما هو قصير العمر ومنها ما هو مُضاد، عمومًا، تم اعتبار تلك المعادلة نقلة حقيقية في العلم، ونحن هنا لا نتحدث أبدًا عن علم الفيزياء أو الميكانيكا أو حتى الرياضيات، وإنما العلم بشكل عام، فقد كان الرجل قادرًا على التغيير للدرجة التي جعلته يُغير من وجهة نظر العلم للكثير من الأمور التي ظلت ثابتة لفترةٍ طويلة، إنه وببساطة ديراك.
وفاة بول ديراك
في العشرين من أكتوبر الواقع في عام 1984 توفي ديراك عن عمر يناهز الاثنين وثمانين عام، وهو عمر جيد بعض الشيء، تمكن فيه الرجل من إنجاز كافة الطموحات التي كان يحلم بها طوال حياته، كان يُريد أن يُصبح عالمًا بارزًا في الرياضيات والميكانيكا والفيزياء، وبكل بساطة تمكن من فعل ذلك عندما كبر، كما أنه كان نابغة بالرغم من الجو الأُسري الصعب الذي مر به، لقد كانت الحياة صعبة جدًا معه، وأي شخص في مكانه كان ليستغل تلك الصعوبة ليقفز من قارب الحياة، لكنه لم يفعل وإنما تشبث به حتى آخر قطرة، والواقع أن ذلك الأمل المصحوب بالسعي والمُثابر قد تمكنان في نهاية الأمر من كتابة أجمل نهاية يُمكن أن يحلم بها شخص في يومٍ من الأيام، وهي الموت كأحد أبرز الأشخاص المؤثرين في تاريخ البشرية، إنه بحق نهاية تستحق كل هذا العمل.
الشيء المُلفت كذلك في وفاة بول ديراك أنها جاءت في الولايات المتحدة الأمريكية، وكأنه قد أصبح من البديهي أن يقضي العالم آخر وقت من حياته في تلك البلاد، وإذا كنتم ستفكرون فيما يحدث فإن الأمر لا يستحق أبدًا التفكير، إنهم وببساطة شديدة يأخذون خلاصة جهد وعلم ذلك العالم ويقومون بتوريثه للأجيال القادمة في بلادهم من أجل أن يكون هناك ديراك آخر في يومٍ من الأيام.
أقوال وآراء ديراك الخالدة
طبعًا من النادر أن يتحدث عالم في الميكانيكا والفيزياء والرياضيات وتكون له أقوال خالدة، فقد اعتدنا أن مثل هذه الأقوال تكون على الأرجح من الفلاسفة والأدباء والكتاب، لكن في النهاية ديراك الاستثنائي ترك لنا بعض الأقوال الخالدة التي يُمكن القول إنها نصائح ذهبية لمن يُريد حقًا السير على نهجه والوصول إلى ما وصل إليه، وأهم تلك الأقوال هي تلك التي تتعلق بعشقه الشديد لعلم الرياضيات.
عشق الرياضيات العجيب
معظم أقوال ديكارت وخطبه كانت عن الرياضيات، فقد قال أكثر من مرة أنه إذا كان ثمة إله حقًا فإن ذلك الإله على الأرجح سوف يكون رياضي عظيم، كما قال إن الإله قد استخدم علم الرياضيات هذا عندما أراد أن يبني الكون، وطبعًا هذه المقولات تدل على اتجاه ديراك الحثيث لكون الرياضيات هي الأساس في كل شيء بهذا الكون، بل لن نُبالغ إذا قلنا إنه يرى الكون بأكمله مجرد مُعادلة رياضية.
الربط بين الشعر والعلم
بعض مقولات بول ديراك كانت ترمي تمامًا إلى العلاقة بين العلم والشعر، فقد قال في أكثر من مقولة أن الفارق بين العلم والشعر أن العالم يحاول أن يُوصل أصعب المعلومات بأبسط الطرق الممكنة، بينما في الشعر يكون الأمر على النقيض تمامًا، حيث أن الشاعر يُلقي بأبسط المعلومات لكن يُريد لها أن تصل بأصعب طريقة مُمكنة كي تدو صعبة المنال، ولا يعرف أحد حتى الآن هل كان الرجل يُسفه من الشعر ويرفع من قيمة العلم أم العكس هو ما كان يرمي إليه.
عشق الزهور والنباتات
طبعًا طبيعة العالم هي البحث والاطلاع والتأمل، والحقيقة أن بول ديراك كان يمتلك كل هذه المقومات بالإضافة كذلك إلى الحب الشديد للزهور والنباتات، فقد قال في مقولة من مقولاته الخالدة أن التقاط زهرة من الأرض أمر عظيم ومُشابه تمامًا لعظمة الصعود إلى الفضاء في رحلة استطلاع، وكأنه يقول إن متعة الأمرين واحدة، وأن كلاهما يستحقان التجريب.
أضف تعليق