تُعتبر المآسي البيئية أحد أهم الصفعات التي يتلقاها البشر من الطبيعة، فمن المعروف أن الكون منذ قديم الأزل وهو يُحدث بعض التفاعلات الذاتية التي تُسفر غالبًا عن كوارث مدوية، فمرة تتحول الأمطار إلى حمضية، ومرة تتحول الزلازل إلى تسونامي، ومرة تتحول البراكين إلى حمم بركانية لا طاقة لأحد بها، هذا هو العالم منذ بدايته، وتُعساء الحظ فقط هم من يحظون بشرف المُعاناة من المآسي الكثيرة التي حدثت على امتداد تاريخ الكون، بل والأكثر سوءًا من ذلك أن ثمة بعض المآسي التي لا يذكرها التاريخ ولا يعرف عنها شيء، وهذا ببساطة لأنها لم تُسجل في سجلاته، أي أن هناك من راحوا غدرًا نتيجة مأساة ولم يعرفهم أحد، وهناك ما تم ذكره وأصبح خالدًا في سجلات التاريخ، وهذا الفصيل الثاني بالطبع هو ما يُمكننا التحدث عنه في السطور القليلة المُقبلة، حيث أسوأ المآسي البيئية وتاريخها مع الدول التي تعرضت لها.
محتويات
ما المقصود بـ المآسي البيئية ؟
لكي نضع النقاط على الحروف فإنه من الواجب علينا أولًا تعريف المآسي البيئية وما يُقصد بها، فالمآسي بشكل عام وصف لما يحدث ويستوجب جلب السوء معه، إنها فعل التفضيل من السوء نفسه، يُقال شيء سيء، ثم أسوأ، ثم مأساة، وغالبًا ما تكون المأساة هي الذروة في ذلك السوء، حتى أفعال مثل المصيبة أو الكارثة أو المُشكلة لا تفوق المأساة في الوصف، والحقيقة أن العالم بات يعرف المأساة منذ يومه الأول، فنزول أدم إلى الأرض بعد الاستماع إلى الشيطان مأساة للبشرية، واقتتال ابني آدم وموت أحدهما مأساة أخرى، ثم بعد ذلك اشتعل فتيل المآسي وأصبحت تتهاوى على رؤوس البشر يومًا بعد آخر، لكن، هل هذا ما نريد التحدث عنه في هذه السطور؟ بالتأكيد لا.
موضوعنا سيتركز فقط على المآسي البيئية ، والتي تحدث عندما تتكالب الطبيعة على البشر وتُصيبهم في أعز ما يملكون على الإطلاق، حياتهم، تلك التي يبذلون كل شيء من أجل الحفاظ عليها، فما هي يا تُرى أسوأ أخطاء الطبيعة والمآسي التي ارتكبتها في حق البشر؟ هذا ما سنبدأ الآن في معرفته، ولتكن البداية مثلًا مع إنفلونزا القرن العشرين.
إنفلونزا القرن العشرين، كارثة المئة مليون شخص
مما لا شك فيه أن الأمراض الخطيرة يُمكن أن تُصنف بسهولة ضمن المآسي البيئية ، فهذه الأمراض تحدث في الأساس بسبب تفاعل مع بعض الأمور الخاصة في البيئة، تلك الأمراض تحدث، وستظل تحدث للأبد مهما تطور العلم والعلماء، لكن عندما يتعلق الأمر بإنفلونزا القرن العشرين فإننا لا نتحدث أبدًا عن وباء أو مرض، وإنما كارثة حقيقية لا زالت تُعتبر حتى الآن أعظم كارثة في تاريخ البشرية، كيف لا وقد قامت بقتل ما يزيد عن مئة مليون شخص، تخيلوا أن العالم قد فقد كل هذا القدر في عامٍ واحد فقط؟ أجل فقد كانت الكارثة واقعة في عام 1918، كما أنها قد حظيت بجزء من عام 1919.
الأمر لم يكن هينًا بالمرة، ولم يكن يتوقع أحد أن الوضع سيصل إلى كل هذا السوء، لكن هذا ما حدث بين عشية وضحاها، ففجأة بدأ المرض يتناقل في الهواء مع المُسافرين والمُشتغلين بأعمال الملاحة الذين أبحروا إلى الهند وأمريكا، واللذان يُعتبران أكثر دولتين تأثرًا في التاريخ بإنفلونزا القرن العشرين، حيث مات منهما ما يربو عن العشرة ملايين شخص، في حين أن بقية العالم قد ظفر بما تبقى من خسائر، لكن الأمر المُحير حقًا أن تلك المأساة قد جاءت وقتلت الملايين فجأة ثم رحلت فجأة أيضًا دون أي تدخل من البشر، وقد قيل أنها كانت سببًا رئيسيًا من أسباب نهاية الحرب العالمية الأولى، فأي كارثة أصلًا يُمكن أن تأتي بعد مقتل مئة مليون شخص؟ حتى ولو كانت تلك الكارثة هي حرب عالمية.
جفاف الصين، كارثة الصين الكبرى
طبعًا يُعتبر الجفاف أحد المآسي البيئية ، خاصةً وأنه معروف بقدرته على إتلاف كل مظهر من مظاهر العيش، وهذا بالفعل ما حدث في الصين بعام 1876، حيث شهد ذلك العام واحدة من الكوارث الكبرى التي نادرًا ما تحصل في بلد كبيرة مثل الصين، هذا على الرغم من أن تلك الكارثة لم تستمر سوى عامين فقط، إلا أنه خلال تلك المدة قد تمكنت من قتل أشياء هامة كثيرة أهمها الحياة البشرية، والتي قيل إن أعداد الضحايا منها قد تجاوزت العشر ملايين شخص، تخيلوا أن يموت هذا العدد في عامين فقط بمكانٍ واحد!
بدأ الجفاف بموجة حارة شديدة تبعها بوار الزرع وموت الحيوانات ثم في النهاية موت البشر، وقد قيل أن الصين قد استعانت بالعالم بأكمله لإنقاذها مما بدا له أنه نهاية دولة الصين الكبرى، فقد كان الوضع فعلًا مُخيف، ولو كان قد استمر مثلًا لعشر سنوات لكان من الممكن جدًا أن يحدث ما كانت تخشاه الصين، لكن الله كان رحيمًا بهم إلى أبعد حد، وبالمناسبة، كان هذا الجفاف سببًا في إسراف الناس في الولادة والإنجاب من أجل زيادة أعداد المواطنين الصينيين تحسبًا من نفادهم في كارثة كهذه إذا كانت أعدادهم قليلة، وطبعًا جميعنا يعرف الآن الأعداد المرعبة التي تشتمل عليها الصين.
زلزال 1201، زلزال الشرق الأوسط
هناك من يقول أن المآسي البيئية لها أرضها المعروفة، وعادةً ما تكون تلك الأراضي في شمال وجنوب أسيا أو قارات أمريكا الشمالية والجنوبية، عدا ذلك فإن بقية العالم المتمثل في قارتي أوروبا وأفريقيا وبعض مناطق أسيا يكونون بخير، لكن هذا ما تغير في زلزال الشرق الأوسط الذي وقع في السنة الأولى من القرن الثالث عشر، والذي يُطلق عليه البعض اسم زلزال سوريا ومصر نظرًا لكون هاتين الدولتين بالذات هم الأكثر تأثرًا بالزلزال، عمومًا، مات في هذه المأساة ما يزيد عن مليون شخص، وهو عدد ضخم جدًا في الوقت المبكر الذي نتحدث عنه، والذي كانت أعداد العالم بأكمله ربما لا تتجاوز المليار شخص، وإذا قلنا النصف مليار فسنكون مُنصفين أيضًا، وتخيلوا أنه لم يعرف أحد حتى الآن درجة ذلك الزلزال أو القوة الذي ضرب بها الشرق الأوسط! فما يعرفه التاريخ فقط أن ثمة زلزال كبير قد ضرب هذه المنطقة قديمًا.
إعصار بنغلاديش، إعصار بولا المُدمر
عام 1970 كان له نصيب كذلك من المآسي البيئية ، والتي جاءت هذه المرة في صورة إعصار ضرب بنغلاديش وباكستان وعُرف فيما بعد باسم إعصار بولا المُدمر، والحقيقة أنه إذا لم يُوصف ذلك الإعصار بالمدمر فإنه لا شيء آخر فعلًا يستحق ذلك الوصف، فقد قتل ذلك الإعصار ما يزيد عن النصف مليون الشخص، ويجب أن تنتبهوا جيدًا أننا نتحدث عن إعصار لم يدم لفترة طويلة وبدأ في شكل مجموعة من الرياح، وبالرغم من ذلك فقد أسقط عددًا كبيرًا من الضحايا يُقال إنه أكبر عدد ضحايا لإعصار في تاريخ البشرية بأكملها.
كان إعصارًا مُدمرًا بحق، فبسرعة رياح وصلت إلى مئة وثمانين كيلو متر في الساعة تمكن إعصار بولا من تسوية العديد والعديد من القرى التي مر بها بالأرض، والتي كان مُعظمها في البنغال، كما أنه قد شوه الشواطئ وأهلك الماشية التي قابلته، ولحسن الحظ أنه قد توقف في نقطة معينة قبل أن يجتاح أسيا بأكملها، ولكم أن تتخيلوا أن إعصارًا مثل هذا كان يُهدد بمحو قارة كبيرة مثل أسيا من على الأرض!
مجاعة البطاطس، مجاعة الثلج الأبيض
لم تنجو قارة أوروبا العريقة من المآسي البيئية التي مر بها العالم، وهذه المرة كان النصيب الذي حازت عليها القارة العجوز هو مجاعة كبيرة تُعرف باسم مجاعة البطاطس، والتي ارتكزت بشكل رئيسي على البلد المسالمة بطبعها إيرلندا، وذلك في نهاية النصف الأول من القرن التاسع عشر، تحديدًا عام 1845، حيث استمرت الأحداث المأسوية لتلك المجاعة ثلاث سنين فقط كانت كفيلة بإسقاط ما يزيد عن مليون شخص، وطبعًا كان أغلبهم من الفقراء الكادحين.
المجاعة باختصار كانت له بطلة واحدة هي البطاطس كما هو متضح من اسم المجاعة نفسه، تلك الثمرة الجميلة غدرت بأهل إيرلندا وأفرزت لهم فطريات البطاطس التي قضت على كل المزروعات والثمار الموجودة في تلك البلد التي تعتمد في الأصل على الزراعة والتجارة، وهنا حل الكساد ومات الناس جوعًا بعد أن نفد الطعام، وقد وصل الأمر إلى الدرجة التي جعلت بعض القادرين يُسافرون إلى البلاد المجاورة بأنفسهم من أجل شراء الطعام لهم ولأولادهم!
بركان نيفادو، كارثة كولومبيا الأعظم
في عام 1985 كانت كولومبيا مجرد دول مُسالمة لا تعرف أي شيء عن أي شيء، بل لن نُبالغ إذا قلنا إن العالم لم يكن يشعر أصلًا بوجودها، اللهم إلا أنها كانت مقرًا لبعض العصابات الهاربة من المكسيك وبعض الدول المجاورة، لكن عدا ذلك كان كل شيء يسير بُخير، حتى جاء عام 1985 وحمل معه أكبر كارثة في القرن العشرين بعد الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية، تلك الكارثة هي كارثة آرميرو، أو بركان نيفادو كما يعرفها العالم، لكن مهما كانت المسميات فإن الحادثة تظل واحدة والمأساة تظل غير مسبوقة، مأساة يُقال أنها قد تسببت في خسائر أكبر من قنبلة هيروشيما التي ألقتها الولايات المتحدة الأمريكية على اليابان خلال الحرب العالمية الثانية.
البركان اندلع من هنا وتبعته الحمم والبراكين من هنا، كان كل شيء مُتلاحقًا بطريقة لم تجعل أهالي مدينة آرميرو الكولومبية يُدركوا ما يجري لهم، ولم ينتهي الأمر إلا وتلك المدينة مُمحاة من على وجه الأرض، ومن حسن الحظ أن إجراءات الإجلاء قد أنقذت أعداد كبيرة جدًا من السكان، لكن في النهاية مات ما يزيد عن خمسة وعشرين ألف شخص.
مأساة النهر الأصفر، الكارثة الأسوأ على الإطلاق
إذا كنا حقًا سنتحدث عن المآسي البيئية التي تعرض لها ذلك العالم فإنه من غير المقبول تمامًا أن نتغافل عن أحد أعظم تلك المآسي وأكثرها تأثيرًا في التاريخ، مأساة النهر الأصفر التي وقعت في الصين عام 1887 وتسبب في مقتل ما يزيد عن ثلاثة ملايين شخص وإغراق أكثر من أحد عشر قرية ومدينة، ونقول إغراق لأن الكارثة التي نتحدث عنها جاءت على شكل فيضان، والحقيقة أن مشكلة الفيضانات هذه لم تُحل في العالم بأكمله إلا بعد اختراع السدود، لكن قبل ذلك كان يُمكن وصفها بالتاريخ المُختصر للموت السريع لأكبر عدد ممكن من البشر.
أضف تعليق