المنازل المكتفية ذاتياً هي الصيحة الجديدة في عالم الاستدامة. فهل تخيلت يوماً ألاّ تدفع فاتورةً للكهرباء أوالماء ؟! وأن تستيقظ فتتجه إلى مزرعتك الموجودة بنفس المنزل، وتقطف بعضاً من الثمار والخضروات لتعدّه للغذاء. ونفايات منزلك ستقوم بإرسالها إلى الغرفة المخصصة لها أسفل منزلك لتُولد الغاز الطبيعي الذي ستستخدمه في عمليات طهوك. ليس هذا فحسب؛ فمنزلك سيحمى نفسه من عوامل الحرارة والرطوبة وستتكيف درجة حرارته تبعاً للظروف المناخية المتغيرة ليبقى ملائماً لدرجة حرارة جسدك. ولأن الطرق أصبحت مزدحمة والوصول إلى أماكن العمل قد يستغرق أوقاتاً طويلة فإن بعضاً من هذه المنازل المكتفية ذاتياً من الممكن أن تكون متنقلة وجاهزة لأماكن العمل البعيدة، فتوفر لك الوقت والجهد، وتستمع بما أنجزته دون الحاجة إلى القلق للوصول إلى منزلك أو الخوف من ارتفاع نفقات المعيشة المُطالب بها يومياً.
عالم المنازل المكتفية ذاتياً
كل هذه الأمور عن المنازل المكتفية ذاتياً ليست خيالاً بل صارت حقيقة، وسنتابع في هذا المقال كيفية إنشاء هذه المنازل، ومميزاتها وعيوبها، والتجارب الحقيقة التي نُفذت ويقطن بها الناس ويحيون حياة عادية بل حياة مُوفرة، مختلفة، و آمنه.
لم يأتِ التفكير بإنشاء المنازل المكتفية ذاتياً من أجل الرفاهية؛ بل لأن مصادر الطاقة صارت محدودة، وتكاليف الحياة لا تأبى إلا أن تزيد يومياً. من هنا تعاون المهندسون المعماريون، وعلماء البيئة المختصّون لإنشاء منازل متكاملة تخدم نفسها بأغلب شئون حياتها، وبالتالي إن تعرضت بلدة من البلدان لاضطرابات داخلية، ونُقص تبعاً لذلك موارد الطاقة المتاحة، فتلك المنازل ستكون ملاذا آمناً لتوفير الحاجات الأساسية للإنسان.
وغالباً ما تكون المنازل المكتفية ذاتيا تخدم عدة أفراد، بل قد تكون مثل مجمع أو محيط سكنى يضم مجموعات من المنازل الصغيرة، يتعين على كل منزل فيها إنتاج شيء من الضروريات الحياتية المُكملة، ثم يتعاونون فيما بينهم جميعاً لتكون المحصّلة النهائية هي الاكتفاء الذاتي، ولذا يعاني بعض الأشخاص ذو الطبيعة الانعزالية انزعاجاً من الضرورة المُشاركية لأغلب الأنشطة. وقد كُتبت تقارير اجتماعية عن تجربة هذه المنازل، و وُجد أن البعض قد سعد بتلك التجربة والبعض الآخر قد ملها وفضّل العودة للمنازل العادية.
تنتشر تجربة المنازل المكتفية ذاتياً بوضوح بشبه القارة الأسترالية، و دُول مثل: ألمانيا وسويسرا وفرنسا. و تتجه بعض الدول العربية كجمهورية مصر العربية والمغرب إلى هذه التجربة بقوة، نظراً لما لديها من موارد طبيعية تساعدها على إنشائها بسهولة، وهذا ما سنتابعه لاحقاً.
التفاصيل الخاصة بالمنازل المكتفية ذاتياً
بدأت أول تجربة لها في عام 1950م؛ عندما قام العالم “بكسمنستر فولر” بتقديم ثلاثة نماذج نظرية لتلك المنازل، تحوى العديد من التقنيات الحديثة للحد من استخدام الموارد البيئية الملوثة، وقد نجحت تجربة إحدى تلك النماذج فعلياً وقد أُقيمت بمدينة “ويتشيتا” بولاية كنساس الأمريكية، وهو موجود بمتحف “هنري فورد” الآن بعد إعادة ترميمه. والمنازل المكتفية ذاتياً لها أنظمة أساسية لا غنى عنها؛ لتحقيق ذلك الاكتفاء ومنها:
الماء
منه نوعين ماء الشرب وماء الصرف. مياه الشرب تحتاج للجمع والتخزين، وتختلف طرق الجمع والتخزين طبقاً لنوع الطبيعة الجغرافية المُنشأ بها المنزل، فنجد بالمناطق السهلة التي يكثر بها هطول الأمطار؛ أنظمة تجميع مياه وتميدات تكميلية لاستقبال المطر. و هذا النوع صالح للاستخدام من شرب وغيره؛ شريطية معالجته بعد تجميعه لما يحمله من كبريت ومعادن.
نأتي للمناطق الصحراوية؛ فنجد آبار المياه الجوفية النظيفة التي تعتبر مياه معقمّة وصالحة للاستخدام المباشر، وقد أصبحت هناك تقنيات سريعة جديدة لحفر تلك الآبار، إلا أنك ستواجه مشكلة جفافها فيما بعد؛ فيتوجب عليك حفر بئراً آخر جديد، والتخطيط لذلك قبل جفاف الأول بفترة. نجد بعض المنازل تجمع المياه بالخزانات المعدنية أو البلاستيكية، وتعتبر الخزانات أكثر الوسائل جلباً للبكتريا المسببة للأمراض؛ لذا يتوجب عليك وضع الفلاتر بالخزانات. وإذا كان منزلك قريباً من الساحل، فأنت لديك أكبر كمية من المياه الممكنة وسوف تقوم فقط بتحليتها وهي تعتبر عملية فيزيائية سهلة.
نأتي لمياه الصرف، فتُوضع أنظمة معالجة بيولوجية لها، تستخدم النباتات والبكتريا وأحواض الأسماك لامتصاص المواد البيولوجية الغير نظيفة، وإنتاج مياه نظيفة مرة أخرى، ووقوداً حيوياً يتم استخدامه للطهي أو الكهرباء. والمعالجة البيولوجية هو نظام حساس يحتاج للمتابعة الدورية للحفاظ على البكتريا أو النبات الذي سيقوم بعملية المعالجة.
النفايات
يتم تصنفيها وفرزها أولاً حسب نوعها، وأغلب الأنواع تسهُل عملية إعادة تدويرها، والباقي يتم حرقه بالمحارق المغلقة وينتج عنه رماداً يكون آمناً بيولوجياً، أما نفايات الصرف الصحي فقد ذكرناها آنفاً.
الكهرباء
يتم توليدها إما باستخدام الخلايا الشمسية التي باتت عاملاً جيداً ونظيفاً لتوليد الطاقة، أو طاقة الرياح (التوربينات). وتدوم الخلايا الشمسية فترات طويلة تصل لأربعين عاماً، و وُجد أن ساعة واحدة لملء تلك الخلايا يكفى منزلاً واحداً بجميع متطلبته من الكهرباء مدة يوم كامل. غير إن الخلايا الشمسية لها مشكلة واحدة؛ وهى ضرورة تنظيفها عدة مرات خلال السنة وذلك ليس بالعائق الكبير. أما طاقة الرياح فتعتمد بالشكل الأساسي على موقع منزلك، وإذا كان متاحاً ذلك أم لا، وهى أرخص كثيرا من الخلايا الشمسية. ليس هذا فحسب ،فمنزلك قد يستخدم طاقة كهربية أقل بيوم ما عن اليوم الذي يسبقه، ما عليك سوى أن تخزنها في بطاريات خاصة بذلك لاستخدامها فيما بعد، أو بيعها لمنازل أخرى أو حتى مدناً أخرى بعيدة عن طريق شبكات توصيل خاصة بذلك.
التدفئة والتبريد (العزل الحراري)
تتم التدفئة بالمجمع الشمسي الذي يستمد حرارته من الشمس مباشرة، ولأن هطول الأمطار وانخفاض الرطوبة قد تتسببان في فقد بعضاً من حرارته فيجب بنائه بمواد خاصة عازلة للحرارة.
وتوجد أيضاً سخانات بمضخات حرارية خاصة بالمنازل المنفردة الصغيرة كنوع من الاستقلال الذاتي، ويمكن للتسخين الشمسي أن يوفر من 50-75% من الغاز المستخدم . أما التبريد، فإنه أولاً يعتمد على تصميم المبنى، سواء موقعه أو المواد البنائية المستخدمة، أو حتى شكله والألوان المستخدمة لطلائه. أيضاً يتم استخدام (تبريد متعدد المراحل) القائم على الفيزياء، وهى طريقة اقتصادية، ويمكن أن تخفض درجة حرارة الهواء إلى 28 درجة مئوية، وتعتمد الطريقة بشكل مبسط على تمرير الهواء ورشه بمحلول ملحى لإزالة الرطوبة، ثم رشه بالماء لإعادة تبريده، ويجب تغير هذا المحلول ما بين الحين والآخر. الطريقة الأخيرة للتبريد؛ هي المبردات والمكيفات العادية، و سيكون من السهل استخدامها إذا توفر مزيداً من الطاقة الكهربائية اللازمة لتلك المبردات.
عيوب ومميزات المنازل المكتفية ذاتياً
يعتبر الاكتفاء الذاتي التام صعب تحقيقه بنسبة100%، وهو ما يتطلب تعاوناً وتكاملاً مع منازل أخرى تتبع طرق الاكتفاء الذاتي مثل: صعوبة زراعة جميع أنواع الخضروات. وكما ذكرنا سابقاً أن التكيف الشخصي والاجتماعي غالباً ما تكون بدايته صعبه، أو حتى يكون صعب تحقيقه نهائياً. من عيوبها أيضاً ضرورة معرفة واقتناء التقنيات الحديثة الخاصة بالمعاملات المختلفة للمياه أو توليد الكهرباء أو تأمين المأكل. إلا أن مميزات المنازل المكتفية ذاتياً لا يستطيع أحد إنكارها ولها إيجابيات واسعة ؛ فقد قلّ الاعتماد على المصادر الطبيعية البعيدة، وحاولت كل منطقة جغرافية استخلاص مواردها بنفسها وحسن استخدامها على أكمل وجه، مما ولد فرصاَ للعمل والعيش معاً بنفس المكان، وخُففت نفقات الحياة بدرجة كبيرة. و أهم ميزة هي؛ توليد الطاقة من مصادر نظيفة، مما يجعل تلك المنازل صديقة للبيئة دائماً.
منازل ذكية ومكتفية
المنازل الذكية هي تلك المنازل العملية الصغيرة التي تساهم في حل مشاكل الإسكان الناتجة عن الزيادة السكانية الهائلة. ويتولى تصميها معماريون ومهندسون مختصون بذلك؛ بحيث لا تشعر بضيق المساحة، ويتم ذلك عن طريق استخدام عناصر معينة ومواد جديدة بالبناء. أيضاً لفظة “المنازل الذكية” تُطلق على المنازل الجاهزة المتحركة، التي تستطيع التنقل إلى الأماكن المؤقتة التي تود البقاء بها فترات قصيرة، فيتم تجميع هيكل المنزل من قبل شركات متخصصة وإلحاق فريق عمل صغير لتركبيه بالمكان الذي تريده.
وأخيرا نعنى بالمنازل الذكية؛ المنازل التي تستخدم التكنولوجيا بجميع العمليات اليومية حتى بغسل الأواني والطبخ، و انتشرت العديد من تصاميم “الربوتات” التي تساعد ربات البيوت على إنجاز مهامهم اليومية. لك أن تتخيل الجمع بين الحُسنين؛ بين المنازل المكتفية ذاتيا والمنازل الذكية بتصاميمها العملية، فيعطى ذلك بالطبع راحة، و يزيل التوتر الخاص بالتفكير اليومي لتوفير المصادر الأساسية للطاقة.
تجارب المنازل المكتفية ذاتياً
أُنشئت أول تجربة كاملة للبيوت المكتفية ذاتياً بقرية “بروتون” بمدينة “كانتيوزيورن” بسويسرا ، ويبلغ سعر الشقة الواحدة المكونة من أربعة غرف ونصف ألفان وخمسمائة فرنك، وهذا سعر معقول بحسب المعايير السويسرية، فهو يشمل جميع مصادر الطاقة اللازمة من الكهرباء، ومكتفية ذاتياً من حيث الماء ومعالجته والزراعة وطرق حرق النفايات.
وتبعاً لتقرير “الجارديان البريطانية” فإن مدينة “وزازات” بالمغرب بها أكبر مشروع لتوليد الطاقة الشمسية التي ستجعل من المغرب قوة عظمى، وستنتهى من هذا المشروع بحلول عام 2020، وفي هذا الوقت ستكون قادرة على توفير احتياجاتها من الطاقة وتصدير المتبقي من الطاقة الشمسية النظيفة لدول أوربا.
وفي عام 2013 سُجل تقريراً لعائلة فرنسية بشرق فرنسا، قررت الاكتفاء الذاتي الغذائي من نبات وحيوان، وأوضحت إن الاكتفاء الذاتي الآن بات أمراَ ضرورياً وليس رفاهية، نتيجة للعوامل الاقتصادية المؤثرة على جميع الدول.
هناك نوعاً مختلفاً من المنازل المكتفية ذاتياً وهى منازل تحت الأرض، فإن المدن ستشهد ازدحاماً تاماً بحلول عام 2050م ولن نستطيع زيادة عدد المنازل بالمدن سواء أفقياً أو رأسياً، فتوجه البعض بفكره إلى إنشاء منازل تحت الأرض، و هذه التجربة حقيقة كتب عنها أحد الصحفيين بموقع ال BBC الإخباري، وضرب أمثلة من استراليا والصين. ففي استراليا يوجد منزل “روبرتس” بقرية “كوبر بيدي” تحت الأرض ويخبر “روبرتس” أنه عندما تصل درجة الحرارة فوق الأرض لأقل من أربعين درجة مئوية، فإنه قد تصل لأقل من خمسة وعشرين درجة بالمخابئ. وهذه ليست التجربة الأولى لتلك البيوت باستراليا. ومازال بناء فندق “شيماو وندرلاند إنترناشيونال” بجنوب شرق مدينة “ِشنغهاي” قائماً، وهو يُبنى بأحد المحاجر الصخرية وسيحتوى على ثلاثمائة غرفة .
وهناك أيضا “منازل صفر الكربون” التي أطلق فكرتها المهندس الأمريكي المناصر للبئية ” مايكل رينولدز”، وحارب من أجلها، وهى تعنى تخفيض الانبعاثات الغازية واستخدامات الطاقة بالمنازل – المسببة للاحتباس الحراري – لتصل إلى صفر، وذلك عن طريق استخدام المصادر المتجددة للطاقة وتحقيق الاكتفاء الذاتي كاملاً من ماء وكهرباء ومعالجة نفايات ونظم تدفئة وتبريد. وقد أسماها “سفن الأرض” وبدأ في تنفيذها بالدول النامية وحصل على تصاريح خاصة بذلك.
نأتي لنوع مميز من المنازل المكتفية ذاتياً وهى المنازل المبنية على سطح الماء، أو بعضاَ من أجزائها تحت الماء كالمنازل المُقرر إنشائها بمدينة “دبي” بالإمارات العربية المتحدة.
في النهاية يتوجه العالم بقوة في اتجاه بناء المنازل المكتفية ذاتياً توفيراً للمصادر الطاقة الغير متجددة، واستخداماً للطبيعة على أكمل وجه دون تلويثها أو مضايقتها. ومستقبل هذه المنازل بات لائحاً في الأفق، مما يوفر الكثير من فرص العمل للمعماريين والكميائيين والعلماء البيولوحيين وغيرهم، والدول النامية أشد احتياجاً للمنازل المكتفية ذاتياً في محاولة مساعدتها واستثمار مواردها وانتشالها من المستويات الاقتصادية المتدنية.
أضف تعليق