دعونا نقفز بشكل مباشر إلى الحقيقة الصادمة عن السنوريات. ربما تكون من محبي القطط أو لا. ولكن هذا لن يشكل فرقًا أمام الحقيقة العلمية التي تشير إلى أن أعداد القطط حول العالم وتزايدها تمثل كارثة بيئية خطيرة. فالقطط وحدها تتجمع لتشكل مساهمًا أساسيًا في الانقراض الجماعي السادس الذي لا زال يتشكل وتتضح ملامحه عبر السنوات والقرون الماضية. ففي أحد الأبحاث العلمية الذي نشر هذا العام؛ تعد القطط مسئولة عن دفعها لـ 63 نوع من الثدييات، الطيور، الزواحف إلى حافة الانقراض عبر الـ 500 عام الماضية. كيف أصبحت القطط أحد أهم الغزاة في العالم؟ ولم أصبح التنوع البيولوجي والتوازن البيئي في خطر مع تزايد أعداد القطط عبر القرون الماضية؟
محتويات
انحدار القطط
يؤكد الباحثون أن جميع أنواع القطط المستأنسة حول العالم، تنحدر من نوع واحد من القطط البرية يرجع تاريخها لما يقارب 10000 عام في بعض مناطق الشرق الأدنى (جنوب تركيا في الوقت الحالي). وتزامن استئناس هذا النوع من السنوريات مع حاجة المزارعين لحفظ الحبوب وحمايتها من القوارض. كما انتشر هذا النوع من القطط في مصر القديمة أيضًا ويظهر ذلك بشكل جلي لدى علماء الآثار الذين يؤكدون تواجد السنوريات واستئناسها في مصر القديمة ويبدو ذلك من خلال مومياوات القطط المكتشفة، والرسومات على جدران المعابد والمقابر التي تظهر فيها تلك السنوريات بشكل كبير. ومن هذا النوع من القطط البرية المستأنسة خرج إلى العالم هذه الألوان المتعددة والمختلفة من القطط المستأنسة حول العالم. فكيف انحدر هذا السيل الجارف من أعداد القطط إلى العالم وتسيد نظامه البيئي؟
كيف غزت القطط العالم؟
للأسف لن نجد إجابة عن هذا السؤال في علم البيولوجيا والجينات فقط. عندما يكون الحديث عن أعداد القطط حول العالم وكيفية انتشارها؛ يلزمنا بالقيام برحلة في علم الآركيولوجيا أيضًا. وذلك لأن القطط جينيًا متشابهة بشكل كبير، ويصعب تتبع الجينات كأثر واضح للتعرف على كيفية انتشار القطط. والفضل في ذلك يعود للتهجين المتزايد عن ذي قبل وارتباط القطط بالإنسان خلال أسفاره وترحله، ما جعل القطط المستأنسة في أستراليا مشابهة لتلك المستأنسة في أمريكا. وحسب آخر دراسة أجريت في هذا الصدد وقام بها علماء وباحثون بيولوجيون، وخبراء آثار. تم تتبع المعلومات الجينية لمجموع ضخم من أعداد القطط حول العالم خلال 9000 سنة. وتم كشف تلك الصداقة التي نشأت بين البشر والقطط وكيف أنها أخذت شكلين، أو مرحلتين في تاريخ تسيد القطط.
السجل الجيني
بتواصل فريق البحث مع علماء من كافة أنحاء العالم؛ أصبح في جعبتهم العديد من عظام وجماجم وأسنان سنوريات خلال رحلة 9000 سنة. تجمع لديهم ما يقارب 200 من جماجم وعظام القطط، وقارنوها بمجموعة معاصرة من أعداد القطط المنتشرة حول العالم. كان تاريخ وأدلة التطور التي دونوها عبر تلك المقارنة، مذهلة.
الآركيولوجيا، مفتاح اللغز
بدمج المعلومات الجينية التي تم الحصول عليها في بحثهم مع المعلومات الأثرية وسجل تاريخ الإنسان واستئناسه للقطط، أصبح اللغز على وشك الحل. فكانت البداية لتلك الصداقة منشأها الزراعة، واكتشاف البشر حاجتهم لـ أعداد القطط من حولهم؛ لتقيهم من شرور القوارض. فنشأت السنوريات المستأنسة وارتبطت بحركة الزراعة وتطورت معها. وفي حادثة أخاذة تم كشف آثار قط مدفون في قبور للبشر في قبرص، منذ 9500 عام. برغم أنه لم يكن موطن القطط الأصلي هناك. وفي هذا دليل على تطور تلك الصداقة وانتقال القطط مع ترحال البشر. وبعد العصر الحجري الحديث ومع انتشار الزراعة، تطورت الصداقة بين السنوريات والإنسان وكما اتجهت الزراعة شمالًا وغربًا، انتقلت أعداد القطط المستأنسة مع الإنسان تجاه بلغاريا ورومانيا. وتبدأ الموجة الثانية من غزو القطط للعالم، في مصر القديمة، وكما تخبرنا الآركيولوجيا، فذلك يقع تقريبًا في القرن الرابع قبل الميلاد. فاستأنس المصري القديم السنوريات وعاشت معه. ويأتي دور علم الجينات ليوضح أن هناك اختلاف جيني وتمايز حدث لتلك السنوريات، وكان هذا في العصر الروماني؛ فتمددت أعداد القطط لتعبر حدود مصر إلي المتوسط وتختلط جينيًا مع قطط الشرق الأدنى، ومنها إلى البلطيق. وما بين القرن الخامس والثالث عشر اجتاحت تلك السنوريات أوروبا وجنوب شرق آسيا.
خطة القطط المحكمة
تبعت القطط استراتيجية محكمة لاستغلال تلك الصداقة مع الإنسان لصالح تواجدها وتسيد نوعها حول العالم. ومع دخول حقبة الفايكنغ كانت السنوريات المصرية تندفع في أنحاء العالم؛ ربما لارتباط ذلك أيضًا بحركة التجارة والسفن، وتلازم الإبحار بالسفينة مع أعداد القطط الكبيرة لتحمي السفينة والطاقم من القوارض التي تتغذى على البضائع والمؤن. وبتلك التطورات والمراحل المختلفة التي عبرتها السنوريات، كان البشر دومًا هم المحطة الأساسية والجسر الذي سمح وسهل بانتقال تلك السنوريات من أماكنها في الشرق الأدنى ومصر، لتزداد أعدادها وتقتحم عوالم جديدة.
هل قام البشر حقًا باستئناس القطط؟
بالاستفهام عن الاستئناس، وهل قام البشر حقًا باستئناس القطط أم لا، يصبح الموضوع أكثر تشابكًا. فالاستئناس وما يحكمه محل خلاف بين العلماء. ولنحاول أن نتجاوز هذا الخلاف العلمي؛ فلنعتبر الاستئناس هو علاقة ذو تأثير متبادل بين البشر والحيوانات، يحقق منها الحيوان نفعًا ما من جراء تلك العلاقة. وبمتابعة أعداد القطط حول العالم وتتبع مسار تاريخها الجيني، سنجد أن هذا النفع أو التغير الذي حدث للقطط على يد الإنسان يعود لتاريخ حديث نسبيًا. كمثال، نجد أن القطط المرقطة، كثة الفراء لم تظهر إلا بعد عمليات الانتخاب الصناعي التي قام بها الإنسان. ومن المرجح أنها كانت من ضمن الصفات التي يفضلها البشر للتعرف على حيواناتهم وسط الجموع المختلفة. ويخبرنا العلماء أن تلك الصفات التي تميز ما يقارب من 80% من أعداد القطط المعاصرة اليوم، لم يبدأ في الظهور إلا في حدود القرن الرابع عشر. ويوافق هذا الرأي رأي علمي آخر يتحدث عن أن القطط هي من استأنست نفسها. فتلك الأنواع من القطط التي استوطنت الشرق الأدنى وجابت صحاري الشرق، كان من الأفضل لها بالتأكيد الاقتراب من تجمعات البشر حيث القوارض، والغذاء، ورعاية البشر. كل ذلك يغري بالبقاء جوار التجمعات البشرية عن بقائها وحيدة في الصحاري. وبينما بقيت بعض أعداد القطط المتوحشة في البرية، لجأ العدد الآخر من تلك المستأنسة إلى الاقتراب من الإنسان وتنقية عالمه من القوارض في مقابل رعاية البشر، والانتقال معهم لغزو العالم.
طبيعة القطط: هل تصلح القطط للاستئناس؟
كما تم التوضيح من قبل فهناك نسبة كبيرة من أعداد القطط تداخلت في معايش الإنسان وبيئته للحصول على رعاية وغذاء أفضل. وهناك أخرى تلك القطط المتوحشة التي أبقت على مسافة بينها وبين البشر واستمرت في العيش في البرية وحيدة. ولأن يقوم أحدنا باقتناء قطة من الشارع، أو أي قطة برية، فالأمر أشبه باقتنائك نمر أو فهد في منزلك. تلك الفصيلة من القطط البرية التي لم تتعايش مع الإنسان، تكون متوحشة ومزاجها مضطرب وقد تلحق أضرار جسيمة بالبشر الذين يراعوها. حتى في حالة تبني قطة واستئناسها من طفولتها، فما أن يقرر البشر بالتخلي عنها وتركها في الشارع، تعود تلك القطط لغريزتها الأصيلة عند أسلافها من القطط والسنوريات البرية وتعتاد الوحدة وإقامة مجتمعها بعيدًا عن الإنسان وتتوحش بمجرد أن تعود للبرية مرة أخرى. مما يلحق بالقطط تلك الوصمة عن نفعيتها من البشر وتوحشها في حالة غيابهم أو في حالة قررت العودة للبرية.
إلى أي مدى يهدد تزايد أعداد القطط النظام البيئي؟
من الصعب الآن التنبؤ بتأثيرات محددة ومباشرة يعززها تزايد أعداد القطط حول العالم على التنوع البيولوجي والنظام البيئي. ويتوقف ذلك على الفرائس التي تلتهمها القطط، كما توافر المفترسين الذين يتغذون على القطط. ومع ثبات بعض المتغيرات، وحدوث هذا الافتراس على نطاقات مدروسة، بوسعنا أن نتنبأ ونحدد إلى أي مدى يهدد تزايد أعداد القطط التنوع البيولوجي والنظام البيئي. في دراسة علمية صدرت في عام 2013 عن حصيلة ضحايا القطط في الولايات المتحدة سنويًا، واتضح الآتي: ما بين 1.4 – 3.7 مليار طائر، وما بين 6.9 – 20.7 مليار من الثدييات البرية، هو حصيلة ضحايا تلك القطط الجامحة وذلك في الولايات المتحدة فقط. ويؤكد الكثير من علماء الحيوان أن تلك السنوريات هي جنس غازٍ له قدرة عجيبة في التمدد والانتشار الكث، وله من الآثار المدمرة على النظام البيئي في حالة ترك هكذا بلا مفترس أو جامح. وكما أسلفنا يصبح الكلام عن أي تهديد للنظام البيئي من جراء تزايد أعداد القطط رهن النوع نفسه الذي تتغذى عليه هذه القطط، وكونه مهدد بالانقراض أم لا، وما إذا كان يتوالد بشكل يغطي على خطر افتراسه من القطط المفترسة أم لا.
الطيور في كارثة
بالإضافة لتلك الأرقام التي ذكرناها في الأعلى، فتعد القطط السبب الأول لوفيات الطيور، والثدييات الصغيرة أيضًا. ففي الوقت الذي يفترس فيه القط المستأنس ما يقارب من 34 طائر في العام الواحد، يتفاقم الأمر مع القطط البرية ليصل العدد إلى 46 طائر في العام. على مدار السنين الماضية تسبب تزايد أعداد القطط وافتراسها للطيور، في انقراض 33 نوع من الطيور. من بينها تلك الأنواع التي كانت متواجدة فقط على جزيرة في نيوزيلندا وقامت القطط بالقضاء عليها جميعًا. فهل تواجه الطيور كارثة في هذه الأيام حقًا؟ في الحقيقة ليست في هذه الأيام فقط. فمنذ أكثر من قرن مضى، نبه عالم الحيوان “والتر روثشيلد” إلى خطورة القطط على التنوع البيولوجي في أحد كتبه. “يعد الإنسان، بأقماره الصناعية، قططه، كلابه، وخنازيره، من أسوأ العوامل، إن لم نقل أهمها أيضًا في القضاء على الطيور وتنوعها أينما توجه.” كانت تلك ملاحظة هامة في كتابه “الطيور المنقرضة” الذي نشره في عام 1905. مما يدل على أن مشكلة تزايد أعداد القطط حول العالم وتأثيرها على النظام البيئي والتنوع البيولوجي ليست جديدة، ولكنها بالتأكيد في تفاقم مستمر.
خطر تزايد أعداد القطط على الجزر الصغيرة
بعض الأنظمة البيئية تكون أضعف من الأخرى، وأكثر عرضة للانهيار. بالنسبة للجزر الصغيرة؛ بوسع القطط إلحاق آثار كارثية بها. في العديد من الجزر يندر وجود مفترسي الثدييات. لذا تنمو الطيور، الزواحف، صغار الثدييات بغير غطاء أعلى في سلسلة الغذاء يحميها من توحش وتزايد أعداد القطط التي تتغذى عليهم. لذا ففي حالة تواجد القطط المستأنسة على جزر كهذه، فبوسعها التهام سلالة حتى الانقراض. وبالفعل تم تسجيل أكثر من 18 جزيرة حول العالم كانوا عرضة لغزو القطط المستأنسة وتم مسح تلك الجزر كليًا من الأنواع التي عليها. كما أن تزايد أعداد القطط أصبح يهدد بالفعل 36 نوع بالانقراض. ومع أن الأمر يختلف عندما نتحدث عن قارات بأكملها. مما يعني دخول مفترسي الثدييات كالذئاب، والقيوط، والقطط البرية إلى المعادلة. فمع ذلك أيضًا لا يزال الخطر قائمًا. ولا يزال هناك في الولايات المتحدة وحدها أكثر من 84 مليون قط مستأنس بلا كابح، ومن 30 – 80 مليون قط بري. ولا زالت تلك النسبة تدعو لكثير من القلق.
ما الذي يحول دون السيطرة على أعداد القطط ؟
لنتكلم بملء فاهنا عن خطورة تزايد أعداد القطط في العالم على النظام البيئي، لا زالت تنقصنا بعض المعلومات الشاملة. كما جرت العادة عند الحديث عن إحصائيات الوفيات التي تتسبب بها المفترسات الكبرى كالقطط، يتم تجاوز الموضوع بالإشارة إلى الكوارث الأخرى التي يتسبب بها الإنسان وتنتج الكثير من الوفيات. باختصار لا يتم التعامل مع الأمر بشكل جدي عند الحديث عن القطط وخطورتها على التنوع البيولوجي. أكاديميًا ولنخلص بمعلومات وافية وحاسمة عن الموضوع لابد أن نوسع من أطراف المعادلة قليلًا. في البداية علينا تحديد السلالات والأنواع التي تتهددها القطط. كمثال: الأنواع الأصيلة في تلك المنطقة في مقابل تلك الأنواع المستوطنة الغازية، الأنواع التي تواجه خطر الانقراض، في مقابل تلك المتواجدة بشكل طبيعي. بالإضافة إلى تقدير النكبات التي تهدد البيئة جراء تزايد أعداد القطط بشكل كامل. كما من الهام أيضًا عند تقدير تلك الخسائر أن يشمل المسح تلك القطط المستأنسة، في مقابل البرية والقطط الهائمة. مع الأخذ في الاعتبار نسبة مفترسي تلك السنوريات وتواجدهم المختلف في المناطق التي تتواجد فيها القطط. كل تلك المعلومات الشاملة والمسح الدقيق لكثير من المناطق حول العالم، يستلزمه مجهود ضخم حتى نحصل على معلومات دقيقة وشاملة. عندها بوسعنا أن نحدد هل نحن على شفا كارثة بيئية من جراء تزايد أعداد القطط أم أن الأمر سيمر بسلام وحسب؟
تزايد أعداد القطط : هل من حلول؟
ينظر لمشكلة أعداد القطط المتزايدة بخاصة القطط المتوحشة إلى أنها مشكلة تسبب بها الإنسان بتصرفاته مع القطط. ولكن النظر للقطط المتوحشة على أنها آفة يجب استئصالها من الأساس، هي نظرة سطحية كذلك. يختلف التعامل مع قضية القطط المتوحشة وتأثيرها على البيئة وتتراوح ردود الفعل ما بين من يعتبرهم حيوانات قابلة للاستئناس، وأولئك الذين يعتبرونهم غزاة وجب استئصالهم. وحاول العديد من العاملين على البيئة والمنتمين لمنظمات الحفاظ عليها، السعي لنزع تلك القطط المتوحشة من جزر بعينها حفاظًا على تلك الجزر وحفظ بقاء الأنواع البيولوجية عليها، وعملًا على حماية ما يمكن الحفاظ عليه بعيدًا عن براثن تلك القطط المخربة. وبالفعل ومن خمسين جزيرة حول العالم تم استئصال أعداد كبيرة من تلك القطط المتوحشة حفاظًا على النظام البيئي بداخل تلك الجزر. وظهر بالفعل اقتراحات أخرى تنادي بعزل أعداد القطط المتوحشة وإقصائها من المناطق التي تنتشر فيها، ومنعها من التكاثر لتجنب خطرها. كما ظهرت دعاوى من أولئك الداعمين لتلك القطط تنادي باستئناسهم وتربيتهم ومن ثم تركهم لبيئاتهم من جديد. ولا يخفى سخف الاقتراح الأخير وتهميشه لغريزة وطبيعة تلك القطط التي تعتمد على الافتراس وتستوحش الإنسان من الأصل. وفي حال حدث ذلك ستعود تلك القطط لطبيعتها الأم من جديد.
يبدو موضوع تزايد أعداد القطط في العالم خصوصًا تلك المتوحشة منها، من المواضيع الشائكة. تلك التي تفترض اصطدامًا بين أولئك الداعمين للبيئة، والآخرين من أصحاب حقوق تلك الحيوانات. وكما أسلفنا فبالمزيد من المعلومات الأكاديمية التي تتم عبر نطاق واسع وشامل ستتحدد أطر المشكلة ومدى خطورتها. من هذا المنطلق بوسعنا فقط النقاش عن ما سنقدمه للبيئة لحمايتها من خطر تلك القطط، وحينها سيكتسب النقاش أرضًا أكاديمية بشكل أكبر بعيدًا عن غوغائية المتعصبين من الجانبين.
الكاتب: إسلام جابر
أضف تعليق