كثيرًا ما نرى أن معظم الكلمات يمكننا أن نشتق منها أكثر من كلمة، كما نكتشف أنها ذات أصل واحد، ولها معنى تشترك فيه، وهنا تأتي وظيفة الاشتقاق في اللغة ، حيث أنه بواسطته نتعرّف على الثروة اللغوية القيمة، وما أبدعته وتركته لنا على مر العصور، فاللغة العربية في نمو مطرّد، وثروتها في زيادة مستمرة، وسبب ذلك ما امتلأت به، كالاشتقاق والذي يزيد لغتنا قيمة، ويساعد في توليد ألفاظ جديدة، فلولا الحاجة الملحّة إليه، لمَا تطرّق إليه علماؤنا في اللغة، وما أفردوا له مؤلفات كثيرة خاصة به. ومن أشهر علماء اللغة في هذا المجال: “ابن جني”، و”السكاكي”، “والخليل بن أحمد الفراهيدي”، وغيرهم من العلماء. وفي هذا المقال سوف نتعرّف على أهمية الاشتقاق في اللغة ، وكيف يحدث، وما فوائده وثماره المتعددة.
استكشف هذه المقالة
تعريف المشتقات لغة واصطلاحًا
الاشتقاق لغة: مأخوذ من “شَقَّ” أي: أخذٌ شِق الشيء، أو أخذ الكلمة من الكلمة، فهو في اللغة بمعنى الأخذٌ من الشيء. وتعريفه في الاصطلاح: يختلف عند كلٍ من: النحويين، واللغويين، والصرفيين، فالمشتق عند النحويين: ما أُخِذ من المصدر ليدل على حدث وصاحبه، فالمشتقات عند النحويين أربعة: اسم الفاعل، واسم المفعول، والصفة المشبّهة، واسم التفضيل، أما (أسماء الزمان والمكان والآلة) فهي جامدة وليست لها اشتقاق عندهم، ونشير إلى أنّ هذا التعريف لمذهب البصريين، حيث أنّهم يجعلون “المصدر” أصلًا للمشتقات. والمشتق عند الصرفيين: ما أُخِذ من غيره، ليدل على ذات وحدث، هذا الحدث له ارتباط بتلك الذات، وبذلك فالمشتقات عندهم تشمل: (اسم الفاعل، واسم المفعول، والصفة المشبّهة، واسم التفضيل، بالإضافة إلى أسماء الزمان والمكان والآلة). أمّا تعريف المشتق عند اللغويين: “توليد بعض الألفاظ من بعض، والرجوع بها إلى أصلٍ واحدٍ يبين مادتها، ويوحي بمعناها المشترك الأصيل، كما يوحي بمعناها الخاص الجديد”، وهذا أول تعريف لهم، وقال آخر في تعريف: “أخذ شيء من غيره مطلقًا سواء دل على ذات وحدث معًا أو لا”.
الاشتقاق في اللغة العربية
هنا سوف نشرح أولًا التعريفات السابقة ووجاهتها، فاختلف علماء اللغة العربية حول معنى المشتقات، وهذا الاختلاف سوف يبين بعد ذلك أنواع الاشتقاق عند كلٍ منهم، فالتعريف الأول عند النحويين، اقتصر فقط على تلك الأنواع الأربعة، ومثال ذلك: المصدر “العلم”، فيأخذون منه: (عالم، ومعلوم، وأعلَم..)، بينما في التعريف الثاني (عالم، ومعلوم، وأعلم، ومعلم..)، ونلاحظ أنّ اللغويين توسعوا في التعريف، فيمكن أن نأخذ من مادة “ضَرَبَ”: الضرب، وضارب، ومضروب، وتضارب، ومضرَب..، كما يمكن إحداث ما يسمى “القلب”، “كقَسَوَ” نأخذ منها “قوس، وسق، سوق..”، وسوف يتم توضيح كل ذلك، ويتبين أنّ التعريفات الأقرب إلى الصواب للغويين. فإن الاشتقاق في اللغة عبارة عن توليد بعض الألفاظ من بعض، كما أخذ كلمة من أخرى، أو هو: إنتاج أكثر من كلمة من أصل واحد، وتشترك في خصائص معينة، ولها معنى واحد ترجع إليه. فسوف تلاحظ إمكانية إنتاج كلمات جديدة، من أصل واحد، وتُحدِث معنى جديد، وليس شرطًا التناسب بينهم في المعنى فقط، بل هناك ما يسمى “بالتناسب الصوتي”.
أصل الاشتقاق في اللغة العربية
لكل شيء أصل، لكن السؤال هنا: ما أصل الاشتقاق في اللغة ؟ قبل الإجابة عن هذا السؤال، نوضّح ما معنى “الأصل”؟، فالأصل هو: ما وُضِع من الحروف، لتبيّن المعنى الأولي الوضعي للكلمة، أمّا الفرع: هو اللفظ الموجود في تلك الحروف، لكن يعطي معنى جديد وتغيير معين للكلمة. فما أصل المشتقات؟، اختلف العلماء أيضًا في هذه المسألة، فالبصريون يرون أنّ المصدر أصل المشتقات، لكن الكوفيون يرون أن الفعل هو أصلها، وهذه أشهر الآراء، فمثلًا عند البصريين يأخذون من “الأكل” الاشتقاق، بينما يأخذ الكوفيون من “أكَلَ” الاشتقاق. أمّا رأي اللغويين، فذهبوا مذهبًا مغايرًا للبصريين والكوفيين، فاعتبروا أن المحسوسات هي الأساس الذي نشتق منه، فهذا يعني أنّ أسماء الأعيان هي أصل المشتقات، ونوضّح ذلك بالمثال “الإبل”، نأخذ منها “تأبّل” أي اتخذ إبلًا، فبالضرورة أن كلمة الإبل وهي اسم عين وُضِعت قبل تأبّل، وهذا الرأي الأقرب للصواب، ومقبول لأنه يبين بعد ذلك طريقة الاشتقاق من خلاله، فوجاهة هذا الرأي في أن المحسوس من الأسماء، يدل على مسميات طبيعية للشيء نفسه، وأيضًا لأن طبيعته تدل على أقدمية اسمه والذي صار معروفًا به، فالمصدر مشتق من الجوهر.
الاشتقاق في الصرف
ونطرح هنا سؤالًا وهو: ما العلاقة بين الاشتقاق والتصريف؟؛ فالاشتقاق عند علماء اللغة، مغايرًا للاشتقاق عند الصرفيين، ولكن في النهاية بينهما علاقة معينة، فالاشتقاق في الصرف: “ميزان اللغة العربية، وبه نعرف أصول كلام العرب، والزائد والداخل عليها، ولا يمكن الوصول إلى اشتقاق اللغة إلا به”، والعلاقة بينهما وثيقة، لأن التصريف يجذب اللغة، فهو عامل وواسطة بين النحو واللغة، فكما أنّ الاشتقاق في اللغة يحدد الكلمة ومادتها الأساسية، ومعناها الأصلي، ففي الصرف يحدد شكلها، ويشرح بنية الكلمة نفسها، ويتناول ما حدث فيها من تغيير، فمادة “قال” عند تناولها صرفيًا، نأتي بالأصل “قوَلَ”، فأصل الألف واو.. وهكذا، أما في اشتقاق اللغة “قال، وقولًا، وقائل، ومقول..”، فالعلاقة بين الاشتقاق في الصرف، والاشتقاق في اللغة تقوم على العموم والخصوص، فالاشتقاق في الصرف “أعم” وفي اللغة “أخص”، فلا يمكن معرفة وزن كلمة بدون الصرف، كما لا يمكن معرفة معناها الأصلي بدون الاشتقاق اللغوي، ومثال ذلك، كلمة “مجاعة” نأتي بوزنها “فعالة”، ونعرف أنها من مادة “جاع”، فالاشتقاق أصبح هنا طريقًا لمعرفة وزن الكلمة، لأننا عرفنا أصلها منه.
أنواع الاشتقاق في اللغة العربية
ينقسم الاشتقاق في اللغة إلى: اشتقاق صغير، وكبير، وأكبر، وكبّار أو النحت، وأشهر الأنواع وأكثرها استخدامًا في اللغة: “الصغير أو الأصغر”، بل وكثير من العلماء يرون أنه مقياس الاشتقاق، ونعرّفه بأنّه: “أخذ كلمة من أخرى تتفق معها في المادة، وبينهما تناسب في المعنى واللفظ وترتيب الحروف”، ومثال لذلك: ضرب نأخذ منها ضارب، ومضروب، وضرٌب، ومضرب، وضروب، كما في: ذهب، وذاهب، ومَذٌهب، وذِهاب. النوع الثاني من أنواع الاشتقاق: “الكبير أو القلب اللغوي أو المكاني”، وهذا ما اشتهر به ابن جني عن باقي العلماء، وتعريفه: “أن يحدث للفظ الواحد تقليبات ستة، يتحول إليها، ويقول ابن جني أن هذه الكلمات لها معنى يجمع بينها، ومثال لذلك في مادة “قَسَوَ”، عندما يتم تقليبها تتحول إلى: ( قَوٌس، وقس، وسق، سوق، سقو)، والجامع بينهم معنى الشدة، وهكذا ينفرد ابن جني بهذا النوع، ولا يُقاس عليه في كثير من الألفاظ، بل في ألفاظ معينة فقط، كما أنه يُطبّق على الكلمات ذات الأصول الثلاثية فقط.
ومن أنواع الاشتقاق الاشتقاق الأكبر أو الإبدال اللغوي، وهو ما اتحدت فيه أكثر الحروف، مع وجود تناسب في الباقي، تناسبًا في الصوت، أو في المخرج، ومثال لذلك: (نهَقَ، ونعَقَ)، فالجامع الصوتي أن الأول صوت الحمار، والثاني صوت الغراب، أمّا التناسب في المخرج، فنجده في الكلمات (صهَلَ، زأَرَ، سعَلَ)، فكما أنها أصواتًا أيضًا للحصان، والأسد، والإنسان، نجد تناسب في مخارج الحروف، فالصاد والزاي والسين حروف صفير، والهاء والهمزة والعين حروف الحلق، كما تشترك اللام والراء واللام في الحروف المزحلقة، ونشير إلى أنّ هذا النوع مجاله ضيق، وقليل الاستعمال. وأخيرًا النوع الرابع “الكبّار أو النحت”، فطريقته بأخذ كلمة واحدة من كلمتين، وقد تكون أكثر من كلمة، مع التناسب بينهما، ومثال ذلك نجد في “بسم الله الرحمن الرحيم”، نأخذ منها “بسمل”، كما في “لا حول ولا قوة إلا بالله” ومنها “حوقل”.. وهكذا، بالإضافة إلى أنه يمكن النسب لعبد شمس ب “عبشميّ”، ولكل منها قاعدة معينة، لكن نشير إلى أنّ من علماء اللغة من يرى أنّ النحت ليس من أنواع الاشتقاق، وإنما هو بابًا مستقلًا.
شروط الاشتقاق في اللغة
لابد من توافر شروط معيّنة عند الاشتقاق، ومن هذه الشروط: إذا قمنا بالاشتقاق من المصدر على رأي البصريين، يكون أصله على ثلاثة أحرف، كما لو كان من الفعل على رأي الكوفيين، فيتم الاشتقاق من ثلاثة أحرف فقط، هذا أولها، ثانيًا: أن يكون هذا المشتق فرعًا، بمعنى أن يكون مأخوذًا من لفظ آخر، وأيضًا يجب أن يكون المشتق في تناسب مع المشتق منه، سواء كان تناسب معنوي، أو لفظي، أو صوتي، أو في المخرج، كما فيما سبق ذكره.
فوائد الاشتقاق وثماره
تتجلى فوائد الاشتقاق في اللغة في أنّه: يمد لغتنا العربية بنهر من الألفاظ، والتي من خلالها نقوم بأخذ ألفاظ جديدة، تعبّر بعد ذلك عن معنى جديد، مما يساعد على الاستحداث والتوليد في الألفاظ، بالإضافة إلى أنه وسيلة من وسائل التنويع في الألفاظ للدلالة على المعاني المختلفة، خاصة في الاشتقاق الصغير، والذي من خلاله نستطيع جلب الكلمات من اللفظ الواحد، كما نجد فائدة الاشتقاق في أنه وسيلة للكشف عن معاني الكلمات ذات غموض في المعنى، وقد ابتليت لغتنا العظيمة بالتحريف والتصحيف، فكان الاشتقاق عامل حماية مهم لها من ذلك الخطر، فهو يبين المعنى الصحيح، ويميز بين الألفاظ الدخيلة والعربية، كما أنه وسيلة هامة في معرفة الأصلي من الزائد في حروف الكلمة، ويكفي أنّه يزيد اللغة ثروة وغنى، ويجعلها في تزايد مستمر.
وهكذا يتبين فائدة الاشتقاق في اللغة، وأنه ميزة العرب، تميزوا به عن غيرهم، كما أنه أضاف إلى اللغة سيل من الألفاظ والكلمات، وأصبحت أهميته كبيرة خاصة في عصر التحريف والتصحيف، فهذه نعمة أنعم الله بها علينا، وهي أنّ لغتنا محمية على مر العصور السابقة، والحالية، والقادمة، كما يجب علينا جميعًا أن نسعى في حمايتها من كل دخيل ومستحدث، وذلك باستخدام ما امتلأت به من قواعد ثابتة وراسخة فيها، تمكنها من البقاء والخلود، خاصة وهي لغة القرآن الكريم.
الكاتب: آلاء لؤي
أضف تعليق