الرغبة في التميز رغبة طبيعية للغاية، لا أحد يحب أن يكون عاديا، ولكن زادت تلك الرغبة عن حدها مؤخرا، أضحت حاجة رئيسية بالنسبة للأغلبية، حتى أن البعض صار يفتعل التميز والإبداع، ولم يعد يهم مجال التميز هذا ومدى أهميته ونفعه، وظهر التميز في الكثير من الأشياء السطحية عديمة القيمة، وصار أغلبنا يؤنب نفسه تأنيبا قاسيا إذا لم يرى نفسه مميزا، وهذا خطأ كبير، فلا يعقل أن تكون الرغبة في التميز هدفا في حد ذاتها، فالأصل أننا جميعا مميزون، نولد هكذا بلا صخب وبلا افتعال، ربما تجمعنا الكثير من الأمور والقواسم المشتركة كبشر، لكن يبقى لكل شخص مميزاته الخاصة، والحديث عن الرغبة في التميـز يؤدي لالتباس الفهم أحيانا، وسنتحدث في هذا المقال عن ماهية الرغبة في التميـز وأنواعها، وعن تحولها إلى عبء كبير ومصدر ضغط، وعن كيفية التخلص من هذا الهوس من أجل حياة صحية هادئة.
استكشف هذه المقالة
أرغب في أن أكون مميزا
الرغبة في التميز حلم مشروع للجميع، لا بأس في ذلك على الإطلاق، ولكن هل التميز بالشيء الذي نسعى إليه بالافتعال؟ بالطبع لا، فالتميز شيء فطري نولد به، وكل ما على الأشخاص هو اكتشاف ما يميزهم وتنميته وحسن إدارته واستغلاله، وهناك فارق كبير بين التميز كشيء فطري، وبين الرغبة في التميـز التي تسوقنا نحو الادعاء والاختلاف بهدف الاختلاف لا أكثر، فعندما نمعن النظر في أنفسنا ونتأمل مواهبنا وقدراتنا سندرك تميزنا حتما، وقد يأتي التميز في صور كثيرة، منها ما يأخذ شكل الموهبة ومنها ما ينعكس في السلوك، وهو باب واسع جدا، يسمح لنا جميعا بالتفرد، فلسنا نفس الشخص في النهاية، لكن البعض يقصد المثالية بالحديث عن الرغبة في التميـز والإبداع، فتجد من يرغب في أن يتميز في كل شيء، وهو أمر مثالي شديد السذاجة، فتلك مرتبة لن يبلغها أحد، ولا يجب أن نكون جميعا فنانين ومطربين وعلماء، وسيظل لدينا ما يميزنا بالرغم من ذلك.
لست مميزا في أي شيء.. أنا فاشل
تتحول الرغبة في التميز إلى نوع من الهوس المرضي لدى البعض، فلا يحيون حياة طبيعية هادئة، بل يفتشون في أنفسهم عن أي شيء يخرجهم من دائرة العادي والتقليدي، وكأن الأمر يمثل اتهاما لهم بالفشل أو إهانة، والحقيقة أنه لا يوجد شخص غير مميز على الإطلاق، الكل لديه ما يجعله فريدا ومختلفا عن سواه، ولكن هناك من يعرف ما يميزه، وهناك من يتأخر في اكتشاف هذا الأمر، وتكمن المشكلة في تركيز البعض على عناصر تميز محددة وتتسم بالضيق، فتجد من تسوقه الرغبة في التميـز نحو السعي خلف كل ما هو مثالي ويتسم بالمبالغة، فيتمنى كل شخص أن يكون الأول في منطقة تميزه، فيبحث عن أن يكون الكاتب الأفضل على الإطلاق أو المطرب الأكثر شهرة أو المهندس الأكثر تفوقا وهكذا، وعندما لا تسير الأمور بتلك الطريقة الساذجة نشعر بالإحباط، والسر يكمن في طريقة بحثك عما يميزك، ويمكنك الوصول إليه بالصبر والرضا، وستجد ذلك حتما.
هل تقتصر الرغبة في التميز على الإبداع الفني؟
عندما تأخذك الرغبة في التميـز نحو الإبداع فغالبا ما تفكر في الفن، هذا أمر شائع، حتى أن هناك من يقصرون الإبداع على إنتاج رواية أو قصيدة شعرية، فعندما نتذكر الإبداع تقوم عقولنا ببث متواصل لصور نجوم الفن والأدب، وكل هذه هي أفكار خاطئة بالية، إذ لا يقتصر الإبداع على التمثيل والغناء والتأليف، فتلك طريقة غير إبداعية في تعريف الإبداع، فالإبداع يقوم على أمور كثيرة لا ترتبط بمجال واحد فقط، فهي أسلوب حياة دائم، إذ يتمثل الإبداع في الربط غير التقليدي بين أشياء غير متصلة، ويتمثل في الحلول التي تقوم بابتكارها لمواجهة مشكلة ما، حتى أن إعداد وجبة طعام بطريقة جديدة هو عين الإبداع، ولكن عادة ما تقترن الرغبة في التميـز بأحلام الشهرة، لذا يحدث الخلط الخاطئ بين الإبداع وقصره على الفنون، الإبداع أكبر وأوسع من ذلك بكثير، يشمل الإبداع كل طرق التصرف الجديدة والمختلفة في شتى مجالات وتفاصيل الحياة.
لماذا الرغبة في التميز من الأصل؟
كثر الحديث مؤخرا عن الرغبة في التميز، حتى أنه لا يكاد يخلو أي حديث جاد من نصائح التميز والإبداع، ولكن هل الرغبة في التميز هي رغبة ضرورية للحياة؟ هل تستحق كل هذا الضجيج والصخب؟ ولقد تحدثنا عن تميز كل إنسان بشكل عام، ودواعي تكرار الحديث عن التميز كثيرة، فالحياة زادت صعوبة، والعمل لم يعد سهلا كما كان، وزادت صعوبة العلاقات كذلك بحكم الأعداد، وكل هذا جعل كل فكرة عادية تبدو باهتة وشاحبة وتكاد لا ترى، فعندما تتقدم لوظيفة أو لبدء علاقة مع فتاة تنافس الآلاف حولك، فيبحث الجميع عن مميزات إضافية لمجرد لفت الانتباه، فكل الأفكار تبدو قديمة وكل التصرفات سبقنا إليها آخرون، وهنا تصبح الرغبة في التميـز بالنسبة للبعض ضرورية، ولكنها غير ذلك على الإطلاق، فما حدث هو انتشار لمسوخ مشوهة تبالغ في ادعاء التميز والإبداع، فلا يجب أن تبحث طوال الوقت عن الأشياء الجديدة، فيكفيك أن تكون نفسك وستصبح مميزا.
الرغبة في التميز تهدر حياتك
يجب علينا التوقف عندما تدفعنا الرغبة في التميز نحو كل ما هو غريب، فمطاردة التميز والأبداع ألهتنا عن معرفة أنفسنا بصدق، فتجد من يترك مهنة أو دراسة يجيدها لمجرد أنه لا يراها مميزة، فيطارد سراب الرغبة في التميـز في مجال عجيب غير مثمر، فتجد من يترك الطب لكتابة المواقف الكوميدية وضمها في كتاب، حدث هذا بالفعل، ولا أقلل طبعا من قيمة الكتابة الكوميدية فهي المفضلة لي، كما لا أحصن الطب من الهجر، فقد هجرته نحو العلوم السياسية التي أحبها، ولكن لا يجب أن تسوقنا الرغبة في التميـز نحو أشياء عبثية لا نجيدها، ولا يجب أن تكون الرغبة في التميز محددة بمجال بعينه، فيمكنك أن تصبح مبدعا فيما لديك الآن، ولا وقت لكثرة التجارب، خاصة عندما تذهب خلف أشياء تحتاج لموهبة خاصة، عليك معرفة إن كنت موهوبا أم لا، فإن لم تكن كذلك يصبح سعيك مجرد مضيعة للوقت وإهدار للحياة.
الرغبة في التميز بطريقة سطحية
أحيانا تدفعنا الرغبة في التميز نحو السطحية، فمن لا يجد ما يميز به نفسه يختلق أمورا سطحية تافهة، فعندما يرغب في الإبداع الفني يحاكي طريقة حياة الفنانين وملابسهم فقط، وهو ما يخالف جوهر الإبداع ومضمونه، فلا يجب أن نأخذ من المبدعين هيئتهم فقط، ذلك شيء عديم القيمة والنفع، فالإبداع لا يرتبط بطريقة واحدة محددة للحياة، وسأذكر مثالا على ذلك، فلتتذكر معي الأديب الكبير نجيب محفوظ، وهو المبدع العربي الحائز على جائزة نوبل للآداب، كانت حياته طبيعية وعادية للغاية، حتى أنه قضى الكثير من الوقت موظفا بسيطا يلتزم بعمله في أوقات رسمية، كما أن هيئته وملابسه لم تكن غريبة أو مميزة، ورغم ذلك لا يستطيع أحد التشكيك في موهبته وإبداعه، وما أقصده هنا ألا تدفعك الرغبة في التميـز نحو الاكتفاء بالمظهر المدعي الرث الذي نتصوره عن المبدعين، فلا قيمة للتميز بلون الشعر يا عزيزي، اختر اللون الذي يعجبك، ولكن لإنه يعجبك فقط، فلا ينبغي التعامل مع الإبداع بسطحية.
عار الحياة العادية
ينظر البعض للحياة العادية كأنها العار الذي يجب تجنبه، وهو ما يجعل الرغبة في التميز بالنسبة لهم طوق نجاة، والحق أن الحياة العادية ليست بالضرورة رتيبة أو غير نافعة، بل أنها الحياة الأكثر استقرارا التي يعيشها أغلب البشر، ولا يعقل أن نصبح جميعا أوائل من يطرقون كل أبواب المجالات، يستحيل هذا صدقني، ولا تعني الحياة العادية انعدام الطموح أو الاستسلام، بل تعني المسار الطبيعي المتدرج لتحقيق الأهداف، فتلك الرغبة في التميـز أصبحت جنونية، كما أضفت شعورا بالمرارة على كل من يقوم بعمل بسيط يستمتع به، وكأنه لا يهم سعادتك بما تصنع فالأهم أن تصبح كاتب الأغنية الأشهر والروائي الفذ، والحقيقة أن الأهم هو استمتاعك، فإن كنت سعيدا بالصيد فلا حاجة لك للمضاربة في البورصة أو اختراع وسيلة مواصلات جديدة، لا حاجة لكل تلك الضوضاء، فالأصل هو الاستمتاع بما لدينا والعمل عليه لتطويره بمعدل معقول، أما الشهرة التي تجوب الآفاق في يوم وليلة فهي الاستثناء، وتزول سريعا.
تخلص من هوس الرغبة في التميز
تتحول الرغبة في التميـز إلى نوع من الهوس في كثير من الأحيان، وكي تتخلص منها يجب أولا ملاحظتها، وثانيا معرفة أضرارها وحجم الضغوط التي تصنعها، ويسهل ملاحظة هوس الرغبة في التميز من خلال عدة أمور، يأتي على رأسها عدم اهتمامك بما تقوم به مقارنة بانتظار العائد السطحي خلفه، كأن لا تهتم بالغناء بقدر ما تشغلك الشهرة وانتظار المعجبين وطلبات توقيعك، أو أن تكتب كتابا طويلا فقط لسعادتك برؤية اسمك مطبوعا، وهكذا مع كافة نتائج الرغبة في التميـز والإبداع، فالشخص المميز يفعل ما يحب ويستمتع به، ولا يفعل غيره بهدف التميز فحسب، فالتميز نتيجة وليس هدفا في ذاته، ومن علامات الهوس أيضا رفض النقد وعدم الاستماع إليه، فعندما تترك الهندسة من أجل افتتاح مطعم مأكولات بحرية يجب الاستماع لرأي الآخرين في وجباتك، وعندما لا تحصد على شيء سوى الذم والانتقاد يجب عليك التوقف، ويساعدك في هذا إدراك العواقب على الوقت والمال والعمر، فالأمر خطير للغاية.
في النهاية لا عيب في الرغبة في التميز نهائيا، لكنها لا يجب أن تسرق عمرنا وحياتنا وتضيع أموالنا، وهي تفعل ذلك عندما تتحول إلى هوس مرضي، فتدفعنا لترك ما نجيده خلف وهم يستنزفنا، وتدفعنا نحو الادعاء وزيادة صعوبة الحياة من أجل التميز في ذاته، ولا يجب أن تكون الرغبة في التميـز هي الهدف، فالحقيقة أننا جميعا مميزون بالفطرة، والشخص المميز بحق لا يسعى خلف التميز، بل يبزغ نجمه دون إرادة منه، فالشخص المميز يعرف نفسه بصدق، يعرف ما يعجبه وما لا يعجبه، وكل ما يقوم به هو الاستثمار فيما يجيد، فإن كان موهوبا في شيء يتدرب عليه، ويبحث عن الفرص السانحة ليقوم به ويشاركه مع العالم، لكن بشكل عام لا يجب علينا التميز بطريقة جنونية، لا ضرورة في ذلك، رفقا بنفسك عزيزي القارئ، فلا بأس أن تحيا حياة هادئة طالما تسعدك، ولا حاجة لك لتقليد الآخرين أملا في الشهرة، والحياة العادية ليست عارا نتخلص منه، بل هي الحياة الطبيعية للإنسان.
الكاتب: أحمد ياسر
أضف تعليق