لم تكن الحرب العالمية الأولى كسابقتها من الحروب التي جرت على مدار التاريخ فلم يسبق أن دخلت مجموعة كبيرة من الدول مقسمين إلى معسكرين في حرب واحدة، ولم يسبق أن خسرت البشرية حوالي سبعة وثلاثين ونصف مليون شخص في حرب واحدة لم تتعدى الأربعة سنوات وربع، بكل تأكيد أنها حرب كبيرة جدًا لم يشهدها العالم من قبل حتى وقت حدوثها ولذلك أطلق عليه الحرب العالمية فقط، ولكن بعدما حدثت الحرب العالمية الثانية وراح ضحيتها حوالي ستين مليون شخص من كلا المعسكرين تم تغيير مسميات هاتين الحربين، فأصبحت حرب 1914 تسمى بالحرب العالمية الأولى وسميت حرب 1939 بالحرب العالمية الثانية، ومن الجدير بالذكر أن الحرب العالمية الأولى وما فرضه المنتصرون من شروط وما تم بعدها من معاهدات واتفاقيات، كان سبب أصيلًا في قيام الحرب العالمية الثانية ووفاة عشرات الملايين أيضًا، لذلك فالحرب العالمية الأولى قد أثرت على العالم لعقود عدة من ضمن تأثيرها حدوث الحرب العالمية الثانية، وإلى يومنا هذا لا تزال بعض الدول تعاني من آثار هاتين الحرب ولم يتمكن زعمائها من تخليص أنفسهم منها، إن كنت لا تعرف تلك الآثار جيدًا فيتوجب عليك أن تتابع مقالنا هذا حتى نهايته، لذا فلا تذهب بعيدًا.
استكشف هذه المقالة
أسباب الحرب العالمية الأولى
ترجع جذور الحرب العالمية الأولى إلى وقت الثورات الإيطالية والألمانية والحرب والاتحادات التي جرت في الدولتين عام 1870، ولكن هناك أسباب ودوافع واضحة قد حدثت مؤخرًا فأدت إلى نشوب أعظم حرب في العالم خلال تلك الفترة ألا وهي الحرب العالمية الأولى ، وأولى الأسباب التي أدت إلى قيام الحرب هو سباق التسلح الذي كان يخوضه عدة دول عظمى في وقت واحد، فقد سعت كل دولة من الدول العظمى إلى تسليح جيشها بأحدث الأسلحة التي ترجح كفتها في الحرب، وكان هذا تطور طبيعي نتيجة للثورة الصناعية الكبرى التي جرت في أوروبا، فكل دولة أوروبية استغلت هذه الثورة الصناعية في زيادة تقدمها وريادتها مع محاولة تصنيع أسلحة جديدة مفيدة لجيش البلاد، ثم رأينا بعدها ألمانيا بعد توحيدها عام 1871 تقوم بجانب تطورها وتقدمها الصناعي بتطوير البحرية الألمانية، وهذه البحرية الجديدة هدفها حماية البلاد ومنافسة البحرية البريطانية العظيمة.
وصارت أيضًا على إثرها دولة فرنسا وباقي دول أوروبا فكل واحدة منهما رأت انه يجب ألا تكون هناك دولة أكثر منها تسليحًا وعتادًا، فحدث ما يسمى بسباق التسلح وهو أحد أسباب ودوافع الحرب العالمية الأولى ، فعلى سبيل المثال أنفقت ألمانيا على جيشها قبيل الحرب حوالي ألف وأربعمائة وخمسة وسبعين مليون مارك ألماني، وأنفقت الإمبراطورية الروسية ألف وسبعمائة وخمسين مليون فرنك، وأنفقت بريطانيا العظمى ألف وخمسمائة وعشرين مليون فرنك ألماني، وأنفقت فرنسا ألف ومائة وثمانين مليون فرنك، وهذه تعد مبالغ كبيرة جدًا قد تم إنفاقها قبيل الحرب العالمية الأولى من أجل تسليح الجيوش فقط.
كثرة التحالفات العسكرية والسياسية
أيضًا من ضمن الأسباب التي أدت إلى قيام الحرب العالمية الأولى هي كثرة التحالفات العسكرية والسياسية التي جرت في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، حيث بدأتها ثلاثة دول وهم روسيا وبروسيا والنمسا بتحالف سمي بالتحالف المقدس، وقد تم ذلك التحالف في عام 1815 وبذلك يكون أول تحالف تصل يحافظ على توازن القوى في المنطقة، بعدها جاء بسمارك عام 1873 ودعا إلى تحالف الأباطرة الثلاثة والذي سيضم روسيا وألمانيا وإمبراطورية النمسا المجرية، ولكن هذا التحالف قد فشل نظرًا لبعض الخلافات التي بدت من جميع الأطراف الثلاثة، ولذلك عقد اتفاق وتحالف ثنائي مزدوج بين إمبراطورية ألمانيا وإمبراطورية النمسا المجرية في عام 1879 ليواجهوا به الأطماع الروسية في جزيرة البلقان، ولم يمض سوى ثلاثة أعوام فقط حتى انضمت إلى ذلك الحلف دولة إيطاليا ليصبح تحالف ثلاثي، وقد كان بسمارك الألماني يسعى لانضمام روسيا إلى ذلك الحلف أو أي حلف مع ألمانيا حتى لا يوزع جهده على جبهتين متباعدتين وهما روسيا وفرنسا.
ولكنه فشل للأسف واضطر للتقاعد عن العمل بعد تولي القيصر فيلهلم الثاني حكم البلاد، على الجانب الأخر وقعت فرنسا مع روسيا معاهدة تحالف ثنائية ضد التحالف الثلاثي، وبذلك ينتهي القرن التاسع عشر بتلك التحالفات ونفتتح القرن العشرين بتحالف ودي بين بريطانيا وفرنسا، ثم يليه تحالف أخر وهو حلف الأنجلو الروسي بين بريطانيا وروسيا الذي وقع عام 1907، كل هذه التحالفات جعلت هناك شحناء كبيرة بين أغلب الدول الأوروبية، وكل دولة تسعى للقضاء على الأخرى وكل تحالف يحاول الفتك بالتحالف المعادي، حتى وقعت الحرب العالمية الأولى التي راح ضحيتها أكثر من عشرة ملايين جندي في الجبهتين.
الصراعات التي جرت في البلقان
السببين اللذان ذكرناهما بالأعلى يعتبران من الأسباب الغير مباشرة لقيام الحرب العالمية الأولى أما عن الأسباب المباشرة فأولها هي الصراعات التي جرت في منطقة شبه جزيرة البلقان، وقد بدأت تلك الصراعات بضم الإمبراطورية النمساوية المجرية لدولة البوسنة والهرسك، بعدما كانت تلك الدولة تابعة للإمبراطورية العثمانية الكبيرة حتى عام 1908، وقد نتج عن ذلك غضب مملكة صربيا نظرًا لوجود أعداد كبيرة من جنسها في دولة البوسنة والهرسك، وقد كانت أيضًا تساند صربيا إمبراطورية روسيا نظرًا لكونهم جميعًا من جنس واحد، ولم تمض سوى بضعة أعوام حتى حدثت حرب البلقان الأولى عام 1912، بين الدولة العثمانية واتحاد البلقان، واستمرت تلك الحرب لمدة عام واحد انتهت بعقد معاهدة لندن، والتي أعلنت قيام دولة ألبانيا المستقلة وتوسع بعض الدول مثل اليونان وبلغاريا والجبل الأسود وصربيا.
ثم حدث بعدها صراع جديد بدأته بلغاريا بهجمات على اليونان وصربيا في بداية العام الثالث عشر من القرن العشرين، وهذا الصراع عرف بحرب البلقان الثانية، والذي بانتهائه لم تهدأ الأوضاع أبدًا فقد توترت المنطقة بشكل أكبر بعد التدخلات التي جرت من عدة دول أوروبية عظمى، مثل الإمبراطورية النمساوية المجرية التي تدخلت في عدة مناطق بلقانيه وفرضت سيطرتها عليها.
حادثة سراييفو
نأتي هنا للحديث عن السبب المباشر الثاني الذي كان بمثابة الشرارة التي أعلنت قيام الحرب العالمية الأولى ألا وهو حادث سراييفو، ففي الثامن والعشرين من يونيو عام 1914 جاء ولي العهد النمساوي الأرشيدوق فرانز فرديناند إلى دولة البوسنة والهرسك، وأثناء مرور موكبه من إحدى الشوارع الرئيسية في مدينة سراييفو عاصمة البوسنة والهرسك قام بالتجمع حوله ستة رجال من عصابة اليد السوداء، وقاموا بإلقاء قنبلة على سيارة ولي العهد ولكنه نجا منها وأصيب حوالي عشرين شخص من الموكب، فقاموا بإطلاق النار عليه ولكن السيارة مرت مسرعة ونجا الأرشيدوق مرة أخرى، بعدها ذهب المصابين للمستشفى ولحقهم ولي العهد للاطمئنان على المصابين وعندما انتهى من زيارته للمستشفى، خرج بسيارته سالكًا إحدى الشوارع الخاطئة وهناك كان يتواجد من قبيل الصدفة أحد أفراد عصابة اليد السوداء منفذي الهجوم، فقام بإطلاق رصاصتين عليه الأولى أودت بحياته والثانية أصابت بطن زوجته التي كانت معه، وهكذا مات الأرشيدوق وبموته قرعت طبول الحرب العالمية الأولى ، ولذلك تعد هذه الحادثة هي السبب المباشر لقيام الحرب أما الأسباب الأخرى فهي غير مباشرة.
نتائج الحرب العالمية الأولى
نتج عن الحرب العالمية الأولى مجموعة من الأشياء التي لا زلنا إلى الآن نعاني من بعضها وخاصة وعد بلفور، فقد أصدر نص وعد بلفور في عام 1917 وكان بمثابة صفارة الهجرة الكبيرة الرسمية لليهود إلى الأراضي الفلسطينية، أيضًا من نتائج الحرب توقيع اتفاقية سايكس بيكو وهي اتفاقية قد ظهرت في عام 1917 ولكنها قد حررت قبل ذلك بعدة أعوام، وظلت مختفية عن عيون العرب إلى أن حدثت الثورة البلشفية التي رأى أحد المسئولين عنها نص تلك الاتفاقية فنشرها في الصحف والإذاعة، فعرفها العرب وحاولوا الرجوع سريعًا للدولة العثمانية ومساندتها ولكن سرعان ما تحدثت بريطانيا مع الشريف حسين وأقنعته بأن يظل حليفها وأن ما ظهر غير صحيح، وبالفعل أستجاب الشريف حسين لذلك وظلت الدول العربية تساند دول الحلفاء حتى نهاية الحرب.
وما أن انتهت الحرب العالمية الأولى حتى ظهرت تلك الاتفاقية للعلن وأصبح تنفيذها أمر حقيقي، فقسمت على إثرها بلاد الشام إلى قسمين بين فرنسا وبريطانيا العظمى، فأخذت فرنسا منطقة سوريا ولبنان مع أجزاء من العراق متمثلة في الموصل، وعلى الجانب الأخر أخذت بريطانيا العظمى الأردن وفلسطين وبعض من العراق مثل البصرة وبغداد، جميع هذه المناطق أصبحت تحت سيطرة هاتين الدولتين بعدما كانوا تابعين للدولة العثمانية.
خسائر الحرب العالمية الأولى
مات وتوفي في الحرب العالمية الأولى أكثر من ثمانية ملايين ونصف شخص تقريبًا، وأصيب وجرح حوالي واحد وعشرين مليون شخص، وأسر وفقد قرابة الثمانية مليون شخص، ليكون إجمالي خسائر الحرب كاملة سبعة وثلاثين مليون ونصف شخص، وهو الرقم الأكبر في تاريخ الحروب في تلك الفترة ولذلك سميت بالحرب العالمية، ولكن بعدما حدثت الحرب العالمية الثانية وحدثت بها خسائر أكبر تم إضافة كلمة الأولى لحرب 1914 وتسمية الحرب الثانية بالحرب العالمية الثانية، وإذا قمنا بالنظر إلى خسائر الحرب تفصيلًا سنجد أن الإمبراطورية الروسية هي الأكثر ضررًا الحرب، حيث قتل منها مليون وسبعمائة ألف، وجرح وأصيب خمسة ملايين شخص، والأسرى والمفقودين تجاوزوا المليونين والنصف ليكون إجمالي خسائرها هو تسعة ملايين ومائة وخمسين ألف شخص، تأتي بعدها الإمبراطورية الألمانية التي قتل منها مليون وسبعمائة وسبعين ألف شخص، وجرح وأصيب أربعة ملايين وربع تقريبًا، أما عن المفقودين والأسرى فقد تجاوزوا المليون ومائة ألف، ليكون مجموع خسائرها هو سبعة ملايين ومائة وأربعين ألف تقريبًا.
بعد ذلك تأتي إمبراطورية النمسا والمجر والتي فقد إجمالي سبعة ملايين شخص، منهم مليون وربع قتيل، وثلاثة ملايين ونصف جريح، ومليونين وربع أسير ومفقود، بعدها تأتي دولة فرنسا والتي فقدت ما هو إجمالي ستة ملايين ومائة وخمسين ألف شخص تقريبًا، منهم مليون وثلاثمائة وخمسين ألف قتيل، وأكبر من أربعة ملايين وربع جريح ومصاب، وحوالي خمسمائة ألف أسير ومفقود، ثم تأتي بريطانيا العظمى بعد ذلك وهي التي قتل منها قرابة المليون شخص، وجرح وأصيب مليونين تقريبًا، وأسر وفقد مائتي ألف فقط ليكون مجموع خسائرها هو ثلاثية ملايين شخص تقريبًا، وهناك بالطبع العديد من الدول التي كانت لها خسائر بشرية ومادية كبيرة في الحرب العالمية الأولى ، ولكنها ليست مثل الدول التي ذكرناها هنا.
أضف تعليق