الجامعة الإسلامية فكرة جديدة ومجددة للدماء العربية في الدولة العثمانية بعدما كانت الأوضاع سيئة للغاية بين العنصرين التركي والعربي، فقد بدأ الدخول الأول للعثمانيين إلى بلاد العرب في عام 1516، وذلك بعد انتصار السلطان العثماني سليم الأول على السلطان المملوكي قانصوه الغوري، وبعد المعركة مباشرة دخل العثمانيون مصر وبعض من الأراضي السورية ومع مرور الوقت وصل العثمانيون إلى أغلب الأراضي العربية إن لم تكن كلها، فالعرب كانوا في البداية ينظرون للدولة العثمانية نظرة جيدة فهي الدولة الإسلامية القوية وتحكم بكتاب الله وتدافع عن دين الله، مما سهل على العثمانيون دخول البلاد العربية، ولكن للأسف سرعان ما تدهورت العلاقة بين الطرفين نظرًا للتعامل السيئ الذي بدا من جانب العثمانيون تجاه العرب، وفي محاولة لكسب العرب ثانية قام السلطان عبد الحميد الثاني بإخراج فكرة الجامعة الإسلامية إلى العلن، كانت لها بعض المبادئ والأهداف التي ستجمع الشمل الإسلامي بأكمله مرة أخرى تحت ظل الخلافة العثمانية، فكيف قام السلطان العثماني بتنفيذ تلك الفكرة، وهل كانت لها نتائج مثمرة فعلًا أم لا!
استكشف هذه المقالة
من أول من فكر في الجامعة الإسلامية ؟
يظن الكثير من الناس أن السلطان العثماني عبد الحميد الثاني هو صاحب فكرة الجامعة الإسلامية وأول من دعا المسلمين إليها، ولكن في الحقيقة تعود فكرة الجامعة إلى المفكر الإسلامي جمال الدين الأفغاني، بداية ولد الأفغاني في العام الثامن والثلاثين من القرن التاسع عشر بمدينة أسد آباد أو سعد آباد كما تسمى في دولة أفغانستان، نشأ جمال نشأة إسلامية حيث درس كل ما يتعلق بالدين من فقه وحكمة وتصوف وأدب، بعدها درس اللغة العربية ثم سافر إلى الهند لدراسة الرياضيات والعلوم الحديثة، وعندما دخل الأفغاني في عقده الثالث اشتغل بالسياسة وصار ضليعًا بها حتى حاز مناصب ومهام عليا في دولته، وهنا كشف الكثير من الحقائق التي عليها العالم الإسلامي في الوقت الحالي فقد كان الغرب يسيطر على المشرق الإسلامي بشكل شبه كامل.
وهذا ما لمسه الأفغاني خلال رحلاته التي جابت أرجاء البلاد فرأى الخطر بعينيه وأحس بمعاناة الشعوب الإسلامية، وبعد تفكير عميق في تلك الأمور توصل الأفغاني إلى أن أسباب الداء في البلاد هو الاستبداد السياسي والاستعمار الأوروبي، ولذلك عمل على رفع المستوى الفكري والثقافي لدى الشعوب الإسلامية وهذا بالطبع لن يتم إلا عن طريق نشر الثقافة الإسلامية الأساسية، فكان يجتهد ويحكم عقله ويحيي العلوم الإسلامية ويسعى للقضاء على ظلم الاستعمار، ومع مرور الوقت توصل الأفغاني إلى الحل الأمثل من وجهة نظر في تلك المسألة وهو إنشاء جامعة تلم شمل الشعوب الإسلامية وتوحدها تحت راية واحدة.
الأوضاع بعد تولي عبد الحميد الثاني
تولى السلطان عبد الحميد الثاني حكم الدولة العثمانية عام 1876 وذلك خلفًا لأخيه مراد الخامس الذي تم خلعه، وبعدما تولى عبد الحميد سعى إلى إرضاء الأحرار الترك الذين كانوا السبب في وصوله إلى العرش، ولذلك شهدت البلاد حياة دستورية حديثة فسكن الثوار وهدأت البلاد بشكل كامل، ولكن هذا لم يكن الهدف الوحيد من إقامة السلطان للحياة الدستورية فقد كان هدف أخر ألا وهو نسف المؤتمر الأوروبي الذي تم عقده في الآستانة لإصلاح الدولة العثمانية، وبالفعل تم له ما أراد وخرج المؤتمر من دون أي نتيجة أو تغيير، وبعدما هدأت الأوضاع وأطمأن السلطان على عرشه قام بهجمة شرسة قضت على الحياة الدستورية في البلاد.
وهنا اشتعلت البلاد وخرجت القوميات المتعددة ضد السلطان العثماني، ثم تبعها السياسيين الأحرار المحبين للدستور وعملوا على إسقاط السلطان، ومن جانب ثالث حاولت الدول الأوروبية التدخل طمعًا منها في اقتطاع أجزاء من أراضي الدولة العثمانية الكبيرة، ولم يكن السلطان عبد الحميد الثاني بالجاهل الذي لا يعرف ردود أفعال جميع الاتجاهات التي حوله، وكانت وسيلته الأولى في مواجهة كل هذه الأخطار هي إنشاء الجامعة الإسلامية ، وبالفعل عمد إلى الدعوة إلى فكرته أو الفكرة التي طرحها جمال الدين الأفغاني من قبل.
خلاف بعد وفاق تام
ما أن خرجت فكرة الجامعة الإسلامية للعلن مطروحة من قبل السلطان عبد الحميد الثاني حتى أيده السيد جمال الدين الأفغاني، فبالطبع هي فكرته القديمة التي يؤمن بكونها السبيل في نصرة الشعوب الإسلامية، ولذلك فقد كان تأييده للسلطان تأييدًا مطلقًا ولكن سرعان ما تغيرت الأمور وترك جمال السلطان في بداية الطريق ليسير بمفرده، حيث أن جمال قد وجد اختلافات ليست بالهينة في مبادئ الجامعة الإسلامية والأهداف التي تسعى إلى تحقيقها، فوقعت القطيعة والخلافات بين الطريفين حتى صار السلطان بمفرده ينفذ فكرته وفق المبادئ التي يريدها، ومن ضمن الخلافات التي وقعت بين جمال والسلطان هو ميل الأخير إلى الاستبداد وفكرة الرجل الأوحد في البلاد في حين أن الأفغاني يؤمن بالحكم الدستوري والأخذ بالشورى، أيضًا كان الأفغاني يسعى إلى استغلال السلطان ونفوذه في سبيل خدمة الدين الإسلامي ومعتنقيه، في حين كان عبد الحميد الثاني يسعى إلى استغلال الجامعة والأفغاني لتوطيد حكمه وتدعيم عرشه.
هذا بجانب أن الأفغاني كان يريد جعل اللغة العربية هي اللغة الأم في الدولة العثمانية وترك الأتراك للغتهم، فهي لغة القرآن وأغلب المسلمين يتحدثون بها، ولكن نظر عبد الحميد إلى هذا المقترح على أنه سيكون دافع إلى استقلال العرب فيما بعد، وأخيرًا تطلع الأفغاني إلى البقاء على جميع الدول الإسلامية محتفظة بذاتها وكيانها ولكنهم يظلون تابعين للدولة العثمانية، فهي ستكون مملكة الممالك لأنها الأكبر في العالم الإسلامي، ولكن لم تعجب هذه الفكرة السلطان عبد الحميد الثاني وأصر على جعل المسلمين جميعًا تابعين لدولته العثمانية، ونظرًا لكل هذه الخلافات فقد خرج الأفغاني عن تأييده للسلطان وبذلك استكمل الأخير فكرته من دون مساعدة من أحد.
إصباغ الخلافة والحج بالسمات الدينية
أولى الأركان التي سعى السلطان عبد الحميد الثاني إلى صبغها بالصبغة الدينية الإسلامية الكاملة هي الخلافة، ثم تبعها مباشرة الحج فكلًا منهما لم يقصر السلطان في جعل الإسلام هو اللباس الأساسي والدائم لهما، فأما الخلافة فقد قام السلطان بالتقرب إلى الله بشكل أكبر حيث ظهرت عليه علامات الورع والتقوى، وتخلى عن أغلب الأشياء التي تخالف الدين الإسلامي حتى لو كان هذا ظاهريًا كما يقول البعض، وأيضًا أنشأ العديد من المدارس الدينية في كافة أنحاء العالم الإسلامي وظهور القديمة منها وأنفق الكثير عليها، ثم خرج يدعو الناس إلى فكرة الجامعة الإسلامية وحثهم كذلك على الاصطفاف حوله وتأييده وإتباعه فهو الخليفة الذي يجب على المسلمين العمل تحت رايته، وبذلك استعاد عبد الحميد الثاني شيئًا من عظمة الخلافة وهيبتها التي كانت معروفة عن الدولة العثمانية من قبل.
الحج
بعد ذلك يأتي ركن الحج فقد استغله السلطان أحسن استغلال من عدة جوانب مختلفة، حيث أرسل إلى شريف مكة يأمره بالدعوة بين الحجيج عن أهمية وعظمة الجامعة الإسلامية ومدى خدمتها للإسلام، وبالفعل دعا شريف مكة حجاج بيت الله الحرام إلى فكرة الجامعة وصاحب الفكرة وهو السلطان عبد الحميد، ومن جانب أخر أنشأ السلطان خط سكة حديد يربط مدينة دمشق السورية بالمدينة السعودية، وبذلك تصبح عملية انتقال الحجام من الشام إلى المدينة ومكة هي عملية سهلة ويسيرة على الحجاج، وبالفعل تم الانتهاء من إنشاء خط السكة الحديد في العام الثامن من القرن العشرين أي قبل سقوط السلطان عبد الحميد الثاني بعام واحد فقط، عامة حازت فكرة هذا الخط على إعجاب المسلمين كافة وألهب الحماس لديهم تجاه السلطان، مما دفعهم إلى جمع التبرعات لاستكمال عملية الإنشاء ولكنهم للأسف جهلوا الأهداف الأخرى التي أنشأ السلطان من أجلها الخط، وقد كانت الأهداف الأخرى هي التسهيل على القوات العثمانية في الوصول إلى اليمن حتى يتم القضاء على ثورات اليمن.
المعارضين والمؤيدين لفكرة الجامعة الإسلامية
كمثل أي فكرة كانت للجامعة الإسلامية معارضين ومؤيدين لها فهناك من أعجب بالفكرة كثيرًا وكان مع تنفيذها، وهناك من أعترض عليها وسعى لمنع المسلمين وخاصة العرب بشتى الطرق من تأييدها، فمثلًا من بين أشهر المعارضين لفكرة الجامعة الإسلامية المفكر السوري عبد الرحمن الكواكبي، وقد كان هذا الرجل من رواد النهضة الأكثر شهرة في القرن التاسع عشر، حيث نادى في كتابي أم القرى وطبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد بضرورة مقاومة الاستبداد والظلم التي كانت تفعله الدولة العثمانية مع العرب، ودعا أيضًا في تلك الكتب إلى عقد مؤتمر إسلامي بمدينة مكة المكرمة الغرض منه جمع المسلمين تحت خلافة عربية جديدة، وبذلك قد كان الكواكبي من أشد المعارضين لفكرة الجامعة الإسلامية وسعى لإبعاد المسلمين عن كل ما هو تركي.
أما عن المؤيدين لفكرة الجامعة الإسلامية فقد كانوا كُثر مثل محمد رشيد رضا، ومصطفى كامل المصري، والشيخ حسن الجسر، والشيخ طاهر الجزائري الذي كان متواجد في بلاد الشام، وأيضًا المفكر محمد كرد علي، وغيرهم من القادة والمفكرين ورواد النهضة في القرن التاسع عشر، فقد تبنى هؤلاء فكرة الجامعة الإسلامية وأيدوها بالرغم من تواجد فكرة العروبة في ذلك الوقت، وبالفعل قامت الجامعة الإسلامية وكان أكثر العرب مؤيدين لها، حتى بعدما تعرف الناس على أفكار وأهداف السلطان عبد الحميد الثاني الرجعية من وراء الجامعة الإسلامية ، فكما قلنا الفكرة الأصلية تعود للسيد جمال الدين الأفغاني بأهداف نبيلة ومبادئ جيدة، ولكن ما قام به السلطان عبد الحميد الثاني من جامعة كانت بها بعض التغييرات الرجعية والغير جيدة بالمرة، مما جعل العرب يتحولون ويتجهون بعض ذلك للتعاون مع جماعة الاتحاد والترقي حتى يسقطوا الخليفة العثماني، وهذا ما حدث بالفعل وسقطت المرحلة الأخيرة من عملية الخلط بين فكرة الجامعة الإسلامية والقومية العربية.
أضف تعليق