قبل أن نتكلّم عن عبقرية محمد نوضّح صورًا من المجتمع العربي الجاهلي قبل مجيء سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، وتشرّفُنا به في هذه الدنيا، فتظهر كيف كانت عبقرية محمد وكيف أنه كان عظيمًا كرجلٍ وكرسولٍ وكزوجٍ وكأبٍ..، فكانت شبه الجزيرة العربية آنذاك مليئة بالأحداث، فظهر ذلك في الحياة الاجتماعية فانقسم المجتمع الجاهلي إلى طبقة الأشراف وطبقات أخرى مختلطة وغريبة، فكانت طبقة الأشراف على درجة كبيرة من الرُقيّ والتقدُّم، مثل علاقة الرجل مع أهله ومع زوجته، فكانت الزوجة مصونة ومحترمة من قبل زوجها، وكانت تملك قدرًا من الحُريّة كونها صاحبة شخصية وكلمة مسموعة.
غير ذلك من شيوع عادات وتقاليد جاهلية كوأد البنات، وحرمان المرأة من الميراث، وعبد الجاهليون الأوثان، وشربوا الخمر، ولعبوا القمار، وكانوا يعددون الزوجات إلى عدد ليس معروف كما كانوا يجمعون بين الأختين، وعمومًا بين المحارم، وكان الرجل يتزوّج زوجة أبيه بعد وفاته للاستحواذ على ما تملكه من بعده. كل هذا كان عبارة عن مقدّمات لابد منها لاستقبال رجلًا عبقريًا يُغيّر العالم، ويُخرج هؤلاء الضالّين من ظلمات الجهل إلى نور الهدى والخير والسلام. فعبقرية محمد لا تمُسّ المجتمع الجاهلي فقط بل تمُسّ العالم بأسره.
استكشف هذه المقالة
عبقرية محمد صاحب الرسالة والدعوة
إنسان عبقري مثل محمد لابد من توافر عدة صفات فيه، ولكن هذه الصفات غير عاديّة بل ومن النادر جدًا أن تجتمع جميعها في شخص واحدٍ، ولا شك في ذلك فهو صفوة الباري والمختار بين سائر الخلق أجمع، فعبقرية محمد هي الصادق الأمين، صاحب الخُلُق العظيم، صاحب القلب الرقيق الرحيم، له لسان الفصحاء وبلاغة ليس كمثلها بلاغة، وله وسامة وجماله نصف الجمال، القريشيّ ذو النسب الشريف من أول جدّ له إلى آخر جدّ، وهو رسول الله ورسول الأمّة خاتم الأنبياء والمرسلين. وعبقرية محمد الداعي كانت منذ أن كلّفه الله بالرسالة وهي أن يخرج الناس من الظلمات إلى النور، ومن عبادة الأوثان إلى عبادة الله وحده، فكانت مهمته صعبة وتحتاج إلى إيمان قوي وثبات على الحق من أوّل الطريق، فبدأت دعوته إلى الله سرًّا ولم يؤمن به إلا قليل من الناس، من أهل بيته ومن الصحابة الذين كان لهم السبق والشرف بصحبته -صلى الله عليه وسلم-، فبدأ دعوته سرًّا وحيدًا ولكن بالرغم من ذلك لم ييأس ولم يقل هذا ليس بفائدة، بل بعظمته وإيمانه القوي ظلّ يحارب ويقاوم ما يتلقّاه من أذى.
تحديات وصعوبات كثيرة كانت بداية العظماء
وواجه تحديّاتٍ كثيرة وصعوبات كانت من الممكن أن توقِفه وتقوم بتثبيطه عن التقدُّم إلى الأمام، فهناك من كان يؤأزره مثل جدّه عبد المطلّب فتركه في أول طريقه، ثم جاء عمه أبو طالب الحنون فكان يدافع عنه بكل ما يملكه من قوة ومال، لكن تركه هو الآخر في منتصف طريقه، وزوجته خديجة المرأة الشجاعة والتي وقفت بجانبه في أصعب أوقاته، وهو يهرول إليها حزينًا فتهوّن عليه وتقول له “والله لا يخزيك الله أبدًا”، فتركته هي أيضًا ورحلت عن الدنيا، وعاش عام الحزن وحيدًا، لكن عبقرية محمد لم تقتصر على ذلك فقط، بل تطوّرت إلى الدعوة الجهريّة والتي ذاق فيها شتّى أنواع الأذى النفسي والأذى الحسي، حاربه قومه وأخرجوه من بلده مكة، واتّهموه بالسحر والكذب بالرغم من معرفته فيهم بالصادق الأمين، وآخرون اتّهموه بالجنون، هل وقف ضعيفًا؟ هل تزعزع ورجع إلى الوراء؟ ؛ لا، لم يحدث ذلك أبدًا لأنه بفضل عظمته وثباته وإيمانه نحن مسلمون، وانتشر الحق في كل العالم، وانتصر الضعفاء وساد الأمن والاستقرار.
عبقرية محمد الزوج والأب
عبقرية محمد لا تقتصر على كونه رسول وداعي فقط، فهناك عبقرية محمد الزوج والأب، فتظهر عبقرية الزوج في معاونته لزوجاته، ومؤانسته لهن، والمبادرة في مساعدتهن كلما أمكن له ذلك، وكان يداعب زوجاته ويبتسم دائمًا في وجوههن، وتفوح رائحة عطرة وجميلة كلما دخل عليهن البيت، وكان يمازح زوجاته وفي معظم وقته موجودًا معهن. ولم يكن -صلى الله عليه وسلم- يعيب على طعام قط، وكان يعدل بين زوجاته، وكانت المشاورة من سماته معهن، وكان يحب السيدة عائشة حيث كانت المقرّبة إلى قلبه، فكان -صلّى الله عليه وسلم- نعم الزوج ونعم الرجل. والشفقة والرحمة والعطف من عبقرية محمد الأب، فكان يُقبّل الحسن بن علي أمام صحابي فاستهجن فعل الرسول هذا وقال له أنه لا يُقبّل أولاده أمام أحد، لكن رسولنا العظيم أظهر أمامه فعلًا يقتدي به، والحسن والحسين كانا يقفزان إلى ظهر رسولنا عند صلاته فما كان منه إلا وينزلهما عنه برفق، وكان ينهي عن القسوة للأطفال، وكانت السيدة فاطمة أقرب بناته إليه فكلما دخل عليها قبّلها وضحك في وجهها، فهذه عبقرية محمد الزوج الذي لو كل زوجٍ مثله لما عانت الزوجات، وهذا الأب الحنون الرحيم الذي أحسن معاملة أولاده وأحفاده. وبذلك فقد قدّم لنا محمد العبقري مثالًا يُحتذى به في المعاملات الشخصية والتي نقتدي بها على مر الزمن.
عبقرية محمد القائد
عبقرية محمد الداعي، الأب والزوج، القائد، لكي تكتمل الصورة وتكون واضحة أمامنا، يقدم لنا محمد عبقرية رائعة في جميع جوانب شخصيته، فهذا محمد القائد صاحب الريادة وصاحب الكلمة الأولى، ليس مسئولًا فقط عن أهل بيته أو اقتصرت مهمته على كونه رسول يبلغ رسالته، بل اتّسعت لتنتشر في جميع أركان دولته، فعبقرية محمد القيادية تمثّلت في الحزم في الأمور تارّة، فكان غير متذبذب وقوي الشخصية، قادرًا على اتخاذ القرار دون الرجوع فيه، واثقًا من نفسه حتى يصل إلى هدفه، وتارّة في التشاور مع أصحابه في الغزوات التي خاضوها، فيمثّل جانبًا سياسيًّا آخر من جوانبه، وهو في نفس الوقت ليّن الجانب وواسع الصدر، وشديد التسامح مع نفسه ومع أصحابه ومن حوله، وبين كل هذا كان قادرًا على فهم شخصيات من يقودهم، فمن سمات القائد الذكي أنه يلّم بأحوال من حوله، ويقف بجانبهم في نفس وقت إعطاء الأمر، وهذا يساعد في بناء الثقة اللازمة بينه وبينهم، وكان سياسيًّا بارعًا سواء كان في السياسة الداخلية أو السياسة الخارجية.
عبقرية القائد لم تقتصر فقط على أصحابه
فعبقرية محمد القائد توسّعت خارج حدود المدينة، وجالت الأرض لتتسع للقبائل الأخرى والوفود، فأتى من جميع جوانب الأرض أناسُ كثيرون يدخلون في دين الله أفواجًا، فكان جاهزًا لاستقبالهم، وكان يستقبل رسائل الروم والفرس ويبعث رسُلًا ويضع حدودًا، ويرسم خططًا للحرب، وهزم الكافرين وجعل أعزتهم أذلة، فنحن نراه في جميع الغزوات التي قادها ضد المشركين مثالًا للقائد الذي يخطط ويختار مكان القتال، ويعرف ضعيف الإيمان من المؤمن القوي، وحدد مقدار الجزية التي كان يقدمها أهل الكتاب نظير حمايتهم، ووضع نظامًا محكمًا في المدينة.
رجل غيّر العالم، وأصبح من بعده نورًا بعد ظلام، وأمنًا من بعد خوف، فهذه ما تسمى بالعبقرية الحقيقية، عبقرية الفكر والشخصية والإنسانيّة، لأن هناك أناس يتميزون في جوانب معينة لكن ليس بالضرورة تؤثّر هذه الجوانب على الآخرين، فهذا ما علينا تعلّمه في كل وقت من عبقرية محمد، أن نحاول دائمًا ولا نيأس لأن الرجوع إلى الوراء لا ينفع الإسلام ولا ينفع المسلمين، ولولا وجود شخصية عظيمة كمحمد لمَا كنا باقين على فطرة الإسلام. وهكذا أثّرت عبقرية محمد على الإسلام.
أضف تعليق