تسعة
الرئيسية » اعرف اكثر » منوعات » كيف نفهم الفلسفة البراجماتية الأمريكية وتأثيرها علينا؟

كيف نفهم الفلسفة البراجماتية الأمريكية وتأثيرها علينا؟

يقدم المقال جولة سريعة حول الفلسفة البراجماتية ، وهي واحدة من أهم الفلسفات في القرن العشرين. فقد احتلت مكانة كبرى في الفكر المعاصر؛ إلى الحد الذي هيمنت فيه على المناخ الثقافي الأمريكي كله، لذا تأتي أهمية فهم ملامحها الأساسية.

الفلسفة البراجماتية

تشهد الفلسفة البراجماتية على طبيعة التطور الذي حدث في الفكر الأمريكي في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. فعلى عكس الفكر الغربي في أوروبا، فقد اتجهت الحياة الفكرية في أمريكا وجهة أخرى تتفق مع اتجاهات الناس في هذا العالم الجديد وهي تلك الاتجاهات العملية التي يتميز بها بصفة خاصة رجال الأعمال الذين يهمهم في المحل الأول تحقيق النجاح في الحياة. وانطلاقًا من ذلك فقد ظهر في أمريكا مفهوم جديد للتجربة هو التجربة أو الخبرة البراجماتية. وفيه أصبحت التجربة أو الخبرة مقترنة بالفعل أو بتأدية سلوك معين، وقيمة الخبرة تقاس بنجاح الخطوات التي يتخذها الإنسان لتحقيق المعنى في دنيا الواقع العملي. فالخبرة هنا نوعًا من الفعل. لذلك سوف يطوف المقال في جولة سريعة حول تلك الفلسفة البراجماتية ، وهي فلسفة مهمة، حيث كان لها أكبر الأثر في تطور الفكر الفلسفي عمومًا والفكر الأمريكي على وجه التحديد، بل إنها تمتد لتصل إلى عالمنا العربي؛ فكثيرًا من المفكرين والمناخ الثقافي لدينا قد تأثروا بهذا النوع من الفكر.

الفلسفة البراجماتية أصولها ومبادئها

الفلسفة البراجماتية الفلسفة البراجماتية أصولها ومبادئها

نشأة وتطور البراجماتية

تشير الفلسفة البراجماتية إلى تيار فلسفي قام بتأسيسه ثلاثة من الفلاسفة الأمريكيين، هم تشارلز بيرس (1839 – 1914)، وليم جيمس (1842 – 1910)، وجون ديوي (1859 – 1952). ويطلق مصطلح البراجماتية على مجموعة من الفلسفات المختلفة فيما بينها، ولكنها مع هذا الاختلاف تشترك في مبدأ عام يعرف باسم القاعدة البراجماتية، ومؤداها أن معنى المفهوم أو الفكرة هو النتائج التجريبية أو العملية المترتبة على تطبيقه. ومن المؤكد أن البراجماتية لم تكن جديدة كل الجدة في معناها وأصولها وإنما هي اسم جديد لأسلوب قديم في التفكير كما يرى وليم جيمس. وهذا هو بيرس نفسه يقتفي أثرها في تاريخ الفلسفة ويلتمس أصولها لدى مفكرين مختلفين قدماء ومحدثين من أمثال سقراط وأرسطو ولوك، وحتى السيد المسيح عليه السلام كان براجماتيًا في رأي بيرس، وذلك في قوله: من ثمارهم تعرفونهم. وبالتالي فإن الفلسفة البراجماتية اتجاه جديد وقديم في نفس الوقت.

مبدأ البراجماتية

إن الفلسفة البراجماتية لا ترى أن هناك شيئاً اسمه الحقيقة المطلقة بوصفها كيانًا له وجود مستقل مكتف بذاته. وإنما هي على الأصح شئ نصنعه. وكان “بيرس” أول من صاغ هذا المعيار، كما كان أول من استخدم لفظ البراجماتية. ففي المقال الذي نشره بيرس بعنوان (كيف نجعل أفكارنا واضحة)، نجده يحدد فيه معالم هذا المعيار على صورة مبدأ عام، وهو المبدأ الذي أطلق عليه “وليم جيمس” اسم (مبدأ بيرس) أو (مبدأ البراجماتية). ويقول هذا المبدأ، أننا لكي نقرر معنى تصور عقلي ينبغي أن ننظر إلى النتائج العملية التي نتصور أنها تترتب بالضرورة على صدق ذلك التصور، وستشكل مجموع هذه النتائج للمعني الكلي للتصور.

معيار الصدق البراجماتي

الفلسفة البراجماتية بوصفها منهجًا تؤكد ببساطة أن معيار الصدق لأي فرض لابد أن يوجد في ملاحظة النتائج التي تترتب عليه إذا آثر المرء افتراض صدقه. وهذا الموقف هو صورة من المذهب التجريبي، الذي يعتمد أساسًا على الملاحظة، ولا يستخدم الاستنباط إلا بوصفه منهجًا مساعدًا لاستنباط مضامين فرض ما، وليس لتحديد صدقه. فالصدق ليس شيئًا جاهزًا موجودًا أمامنا، أي في العالم الخارجي؛ الصدق على العكس، شئ يحدثه الإنسان، هو توافق ناجح بين أغراضه وبين العالم. فعندما نتحدث عن الصحة، لا نشير إلى شئ ما مستقل أو إلى جوهر موجود في أجسامنا يجعل قلوبنا تنبض بانتظام، ويجعل دمنا يسير في دورته ومعدتنا تهضم الطعام، وهكذا. إن الصحة ليست سوى كلمة تعني أداء أعضاء الجسم المتعددة لوظائفها العادية. وعلى نحو مماثل، لا يكون الصدق سوى أداء الأفكار لوظيفتها العادية في حياتنا ككل.

يشير الصدق باستمرار إلى فعل يمكن أن يحدث في المستقبل، ولذلك تزعم الفلسفة البراجماتية أن الماضي يتغير. فكثير من الأمريكيين يفسرون الآن أسباب دخول الولايات المتحدة الحرب العالمية بطريقة تختلف أتم الاختلاف عما فعلوه عام 1917، أو حتى منذ عشر سنوات مضت، فالمؤرخون يفسرون الأسباب بطريقة مختلفة في عقد أو عقدين. إن الصدق هو ما يعمل في الزمان على ضوء الحاجات الملحة للموقف الراهن.

مفهوم الحقيقة بين البراجماتية والسياق الفلسفي العام

لقد احتل مفهوم الحقيقة في الفلسفة البراجماتية مكانة محورية في المعالجات التي قدمها البراجماتيون في فلسفاتهم. لذلك فإن فهم هذا المفهوم وتطوره في البراجماتية وفي الفلسفة بشكل عام، سوف يساهم كثيرًا في فهم الروح الأساسية التي تتبناها وجهة النظر البراجماتية. والواقع أننا إذا تتبعنا تناول هذا المفهوم ورؤية الفلاسفة المعاصرين لمفهوم الحقيقة داخل السياق الفلسفي بشكل عام، فسنجد أن تلك الرؤية تكاد تقترب من بعضها. يكفي أن ننظر للفلسفات التأويلية ونظرتها للحقيقة ومقارنتها بالبراجماتية لكي نتأكد من ذلك. هذا التقارب الذي أصبح يميل إلى وصف الحقيقة بالتعددية والنسبية في مقابل الأحادية والمطلق، وبالذاتية في مقابل الموضوعية.

الفهم التقليدي للحقيقة لدى المثالية والواقعية

فإذا نظرنا لوجهتي النظر التقليديتين، أي الفلسفات المثالية والواقعية، سنجد كلاهما يتفق على رد القضية الصادقة إلى أصول سابقة تكون أساسًا لتحقيق صدقها، أي الارتداد بالحقيقة إلى أصل سابق تتسق الفكرة أو تتطابق معه. فالمعرفة المثالية التي لا تعترف بوجود الموضوع إلا بوصفه فكرة قائمة في الذهن. أما الواقعيون فيرون الحقيقة في مطابقة القضية للموضوعات الخارجية التي تستقل بوجودها عن عقل الإنسان. فالحقيقة إذن في صورتها الكلاسيكية قد تعتبر تطابقًا، أي أن العبارة أو القضية تكون حقيقية إذا كانت تطابق واقعًا موضوعيًا. أو قد تعتبر ترابطًا، بحيث تكون العبارة أو القضية صحيحة إذا كانت تنسجم مع حقائق أخرى مقررة أو مع معرفتنا ككل.

التصور البراجماتي الجديد لمفهوم الحقيقة

لكننا نجد لدى المعاصرين تصورات مختلفة للحقيقة تختلف عن تلك الصورة التقليدية لتتناسب مع روح العصر، وتحديدًا في الفلسفة البراجماتية ، وكذا فلسفات التأويل المعاصرة. فلم تعد الحقيقة في نظر البراجماتي مودعة في الأشياء أو قابعة في الذهن، أو موجودة سلفًا هنالك وعلينا استخراجها واكتشافها؛ بل هي ما تسفر عنه نتائج أفكارنا في المستقبل. فأفكارنا واعتقاداتنا ينبغي أن ننظر إليها كفروض عملية يوجهها الاختيار الذي تبعث عليه عوامل إنسانية متعددة. وبذلك تغدو الحقيقة المطلقة اختلاقًا ليس له أدنى اعتبار في التجربة العملية، ومن ثم فإن أي فكرة أو اعتقاد هو بمثابة الدعوى.

والإنسان يصنع الواقع بصنعه للحقيقة، فالحقيقة ليست شيئًا معدًا من قبل لا يتطلب من الإنسان سوى التأمل، بل هي مصنوعة من وقائع قابلة للتشكل وفقاً لمطالبنا. لقد أصبح معيار الحقيقة الوحيد الذي له دلالة -على الأقل في السياق التاريخي والاجتماعي- هو معيار النجاح العملي، أي الثمار التي تحملها والنتائج التي تؤدي إليها. وهكذا تكون العبارة صحيحة في نظر الفلسفة البراجماتية إذا كانت تعبر عن واقع أو تصف موقفًا نستطيع أن نسلك على أساسه ونحقق النتائج المتوقعة. ولذلك يرى الفيلسوف الأمريكي “ريتشارد رورتي” أن الفكر الأوروبي برمته، تغيرت نظرته لمفهوم الحقيقة؛ إذ أصبح يعتبر الحقيقة إنجازًا وعملًا بدلًا من كونها اكتشافًا.

التلاقي بين الفلسفة البراجماتية والتيار التأويلي في فهم الحقيقة

ولعلنا إذا توجهنا للفلسفات التأويلية لنرى تصورها هي الأخرى للحقيقة ومن ثم نأخذ في الاعتبار وجهة النظر التي تعتبر (كل معرفة هي تأويل)؛ فإن ذلك يعني أن النتاج الفكري والرمزي والثقافي والعلمي، والحقائق الموصولة به على اختلافها، ذات جوهر تأويلي. ومن ثم لا قيمة لها في ذاتها، وإنما قيمتها فيما تخضع له من قراءات وتفسيرات وتأويلات. وعلى هذا الأساس يكون المنطلق أنه لا توجد حقائق وإنما هناك فقط تأويلات. يستتبع ذلك القول إن كل ادعاء بتقديم حقيقة شئ ما أو معنى ما لا يعدو أن يكون زيفًا باطلًا أو وهمًا كاذبًا. لقد أضحى الكلام عن أنموذج المعرفة المنبني على التأويل نمط معرفة لا يدعي اليقين المطلق، بل إنه يتأسس على معرفة احتمالية نسبية قابلة للتطور والتعديل والإضافة والحذف.

وهكذا فإننا نكتشف عالم جديد من التعددية واكتشاف الذات، فكما يرى الفيزيائي الشهير “هايزنبرج” خلال وصفه لما يسمى بالعالم الموضوعي؛ بأنه من صنع تدخلنا النشط وطرق مشاهداتنا المتطورة. وتجاربنا ليست كما يقول هي الطبيعة نفسها، وإنما هي الطبيعة بعد أن تغيرت وتبدلت اجتهادا في سير البحث. إننا نتعلم من براعة وتعقيد الطبيعة الرائعين أن الحقيقة لها وجوه عديدة، تعتمد على منظور الملاحِظ. كل حقيقة جديدة، حتى في العلم، جزئية غير مكتملة وبالمثل لها حدود ثقافية. إن الحقيقة النهائية ك على حد تعبير “كارل يونج” إن كانت توجد أصلًا، تتطلب سيمفونية من الأصوات العديدة. ومن هذا المنطلق سيتضح أمامنا مدى التلاقي والتوافق بين تصور الفلسفة البراجماتية للحقيقة وبين التصورات السائدة في تيارات الفلسفة المعاصرة بشأن الحقيقة.

الطابع الإنساني في الفلسفة البراجماتية

لقد أعطت البراجماتية أهمية مركزية للإنسانية، وعليه فإنها ترى أن القوانين الخلقية والدينية والعقائدية ليست مصدر الإلزام للإنسان، بل إن الإنسان هو صانع السلوك، لأن الأفكار الأخلاقية هي دعامات ووسائل الفعل، وفي ضوء نجاحها يمكن قياس قيمتها، وعليه تنكر البراجماتية أي معايير للسلوك، وترى أن المعيار الوحيد الذي يجب أن نأخذ به هو الذي يستمد من التجربة، وليس من مبدأ سابق على التجربة.

القيم والمعايير المرتبطة بالإنسان

إن الفلسفة البراجماتية بشكل عام تعترض على ثبات القيم والمعايير على مر الزمن، فلا تتغير مهما تغيرت الظروف والمواقف، بل تتغير كلما تغيرت الحياة لأنها تنظر إلى القيم على أنها وسائل يستخدمها الإنسان للتغلب على المشكلات التي تعترض سلوكه. وهذا ما أشار إليه الفيلسوف “جون ديوي”، حيث أن الأفكار الكلية إن هي إلا عادات سلوكية اعتادها الإنسان ليتصرف بها في المواقف العملية، فكأنما الفكرة الواحدة من هذه الأفكار الكلية هي بمثابة خطة تضبط السلوك وتوجهه. وقد اتفقت النظريات الأخلاقية السابقة على افتراض وجود خير أقصى مفرد ثابت، ولكن تصوره البعض في سلطة خارجية، والبعض الآخر في تحقيق الذات أو في القداسة أو في أكبر قدر ممكن من اللذة، ولكن الأخذ بنظرية الغايات الثابتة يؤدي بالفكر إلى التورط في المنازعات التي لا يمكن الفصل فيها برأي حاسم. ويرى ديوي أن التسليم بمبدأ الغايات الثابتة في ذاتها إنما هو مظهر لبحث الإنسان عن مثل أعلى لليقين، فوراء مفهوم الثابت في العلم أو الأخلاق يقع التمسك بالحقيقة اليقينية.

السمة التطورية للحقائق والمعايير

لا يعني إنكار المبدأ الثابت في الفلسفة البراجماتية ، الإقرار بالفوضى والركون إلى الأهواء الفردية. فبديل الثابت ليس المواقف الذرية المتكثرة، بل هو اتصال التطور والنمو. ويرى ديوي في مقال له بعنوان (ما أعتقد)، أنه لا ضرورة للوقوف عند اختيار عدم المعنى أصلًا، أو اختيار معنى واحد شامل، فهناك معانٍ وأغراض كثيرة في المواقف التي تواجهنا، وثمة معنى وهدف لكل موقف، ولكل منهما طريقته الخاصة في تحدي الفكر والعمل ولكل منهما قيمته الخاصة الذاتية. فالأخلاق ليست ثبتًا أو قائمة بالأفعال التي ينبغي فعلها، وليست قائمة بالقواعد التي لابد من تطبيقها مثلما تطبق الوصفات الطبية أو طرق الطهي. فحاجتنا إلي الأخلاق إنما هي حاجة إلى مناهج نوعية للبحث والاستنباط ، تلك المناهج التي تؤدي إلى تحديد مواطن الصعاب التي نواجهها والمساوئ والشرور التي تعترضنا، وهي طرق تيسر لنا وضع الخطط التي نستخدمها بادئ الأمر كنظريات أو فروض للعمل على معالجة هذه الصعاب وتلك المساوئ والشرور.

الطابع العلمي في الفلسفة البراجماتية

الفلسفة البراجماتية الطابع العلمي في الفلسفة البراجماتية

السمة البراجماتية للعلم

إن المصدر الرئيسي للبراجماتية هو مناهج البحث العلمي. ذلك لأن العلم من حيث نظرته إلى الحقيقة هو براجماتي بطبعه. فبعد أن يصوغ العالم فرضه لتفسير الوقائع المراد بحثها، يكون المعيار المألوف الذي يتخذه للتحقق من ذلك الفرض، هو تصميم تجربة نقدية تؤدي إلى نتيجة قاطعة تنتهي بنعم أو لا. وفي استطاعة الباحث أن يتنبأ بالنتائج التي يتوقع من التجربة أن تسفر عنها (إذا كان الفرض صحيحًا) على أساس معرفته بهذا الميدان العلمي ومبادئه المقررة. وهكذا فعندما تجرى التجربة، ويوجه الأسئلة إلي الطبيعة ويرغمها على الإجابة، تكون حقيقة الفرض متوقفة تماما على كونه مؤديًا إلي النتائج المتوقعة أو غير مؤد إليها. فالبناء الكامل للعلم يبنى على القدرة على النجاح العملي؛ فالفرض الذي ينجح أو يسفر عن نتائج هو الذي يتم قبوله بوصفه حقيقة.

نظرية البحث عند ديوي

وتأتي نظرية البحث عند ديوي باعتبارها فاعلية لا ينفرد بها صاحب المنطق أو رجل العلم، بل هي الإطار العام الذي يعمل وفقًا له كل إنسان يواجه مشكلاته اليومية، ومن ثم يسلمنا منطق ديوي إلى قلب الفلسفة البراجماتية للقيمة وصميمها. فالقيمة هي كل ما له سلطة في توجيه السلوك. والبحث يمثل عملية متصلة، ويستحيل الوقوف فيها عند مرحلة على أنها الحقيقة النهائية، فكل مرحلة تؤدي إلى ما بعدها حتى تنتهي في المشكلة الواحدة إلى حل أخير نسبيًا. ولكن هذا الحل الأخير نفسه قد يصبح بداية لبحث آخر يتضح منه ما يوجب تعديل ذلك الحل الأخير، ويعني الاتصال عند ديوي أن كل قضية مؤدية إلى قضية أخرى، وهكذا حتى ننتهي إلى حكم أخير يحل لنا الإشكال المطروح للبحث. على أن هذا الحكم الأخير نفسه سرعان ما يستخدم في بحث آخر جديد يكون بمثابة قضية تؤدي إلى ثانية فثالثة حتى نصل إلى حكم جديد في مشكلة جديدة، وهكذا تظل عملية البحث في اتصال دائم لأن تيار التجربة أو الخبرة متصل.

موقف الفلسفة البراجماتية من الأخلاق

التجربة الإنسانية بوصفها معيار للقيمة الأخلاقية

لقد رأينا كيف أنكر البراجماتيون إمكان وجود حقائق موضوعية وقيم مطلقة، واعتبروا الحقيقة اختراع شئ جديد وليس اكتشاف شئ موجود، ومقياسها يقوم في مدى نفعها في دنيا العمل. وفي هذا الجو صدر موقفهم من الأخلاق، فمقياس الخير والشر في مجال الأخلاق هو نفسه مقياس الحق والباطل في مجال المعرفة، هو منفعة الإنسان، وقد اتفق البراجماتيون مع السوفسطائية في رد القيم إلى الإنسان، ولكنهم خالفوا السوفسطائية ف جعل الإنسان – وليس الفرد معيار هذه القيم، فقصدوا بهذا التجربة الإنسانية – وهي تجربة تصطبغ في نهاية المطاف بطابع اجتماعي. فلا شئ يوصف بأنه حق إلا إذا كان دليلًا يهدي صاحبه إلى السلوك الصحيح، فصدق الفكرة يظهر في نتائجها وليس في ذاتها. وعليه فالأخلاق عند فيلسوف مثل ديوي هي التي تحقق للإنسان حريته، إذ لا معيار له في أخلاقه إلا حياته ومشكلاته وطريقته في حل المشكلات حلًا موفقًا ناجحًا.

المعايير المساعدة الأخرى بجانب النجاح العملي للفكرة

ومع إدراك الفلسفة البراجماتية أنه بينما النجاح العملي قد يكون أهم معيار للحقيقة، فمن الممكن الاستعانة بمعونة إضافية من مصادر أخرى. أول هذه العوامل المساعدة هو (الترابط)، فليس في وسعنا أن نحتفظ بحقائقنا ومعتقداتنا منعزلة وكأنها ذرات تنفصل كل منها عن الأخرى، بل لابد أن تنسجم في كل. والعامل المساعد الثاني هو عامل مميز لهذه المدرسة، فعندما نعجز عن الاختيار بين عبارتين على أساس الأدلة التجريبية أو الترابط أو القيمة النقدية للنتائج المباشرة، فعندئذ يكون لنا الحق في تحديد أي القضيتين صحيحة على أساس مقدار ما يمكن أن تسهم به كل منهم في القيم العليا أو قيم الحياة. فمعتقداتنا ولا سيما تلك التي تتعلق بتجربتنا ككل، تستطيع التأثير في موقفنا من الحياة والعالم الذي نعيش فيه.

الطابع المستقبلي للقيم الأخلاقية

لقد حرصت الفلسفة البراجماتية على الانصراف عن الماضي إلى المستقبل، فاهتمت بنتائج الفكرة لمعرفة صوابها أو خطئها وحرصت في الأخلاق على معرفة الآثار التي تترتب في سلوكنا على المبدأ الخلقي لمعرفة مدى صحته، فالآثار الطيبة تساعد صاحبها على حل مشكلاته وهذا عندها هو معيار الحقائق ومقياس القيم جميعًا. فليس من شأن الفلسفة الخلقية أن تقدم للناس المواعظ التي تصلح لكل إنسان. وبهذا يمتنع وجود مثل عليا عامة أو مبادئ خلقية مطلقة تصلح لكل إنسان في كل زمان ومكان، كما كان يقول أصحاب المثالية من الأخلاقيين، وإن لم يمنع هذا من القول بأن الفلسفة البراجماتية قد أقرت قاعدة لجميع الناس: هي معيار الحق ومقياس الخير وغيره من القيم، هذه هي القاعدة التي تقول إن الفكرة أو المبدأ حق متى تحول عند معتنقه إلى سلوك ناجح في حياته، وهكذا تم تسخير العقل في البراجماتية لتيسير أسباب الحياة وإشباع الرغبات، ولم يعد معنيًا بالبحث عن حقائق الأشياء ووضع المبادئ المطلقة والمثل العليا ونحوها مما قالت به الفلسفة المثالية.

الفلسفة البراغماتية عند جون ديوي

الفلسفة البراجماتية الفلسفة البراغماتية عند جون ديوي

مذهب الذرائع عند ديوي

لقد قدم جون ديوي صورة من الفلسفة البراجماتية عرفت باسم مذهب الذرائع أو الذرائعية. وكان ديوي متأثرًا في معظم كتاباته بفلسفة تشارلز دارون في التطور. فهو يرى أن حياة الإنسان ليست في جوهرها إلا محاولة متصلة من جانبه لتحقيق التوافق مع البيئة المحيطة. وسبيل الإنسان لتحقيق هذا التوافق هي أفكاره، فأفكار الإنسان ليست إلا الوسائل أو الذرائع التي يلتمس بها طريقه إلى تحقيق هذا التوافق. والأفكار التي يتحدث عنها ديوي ليست أفكارًا مجردة أو أحكامًا منطقية نظرية، بل هي بالأحرى تعبر عن أحكام تنبع من الواقع ويكون موضوعها ومحمولها معبرين عن موقف تجريبي معين.

لقد كان الإصلاح الذي قدمه ديوي في الفلسفة البراجماتية لعلم المنطق ولنظرية المعرفة قائمًا على أساس البدء بالذكاء لا من العقل أو الذهن أو الذات العارفة. إذ إن هذه البداية الأخيرة هي التي أغرقت المنطق ونظرية المعرفة في الميتافيزيقا وفي التوجهات المثالية التي أثقلت حركتها. ويعرف جون ديوي الفلسفة بأنها رؤية تهدف إلى تحرير العقول من الأهواء وتخفيف حدة التوتر في الحياة الاجتماعية السائد في عصرهم. ومعنى هذا أن ديوي يوسع من معنى البيئة، فيفهم منها كل ما يدور حول الإنسان من ظروف مادية ومعتقدات ومعايير وآراء أخلاقية.

الفلسفة البراجماتية للأخلاق عند ديوي

تحتل الأخلاق في فلسفة جون ديوي مكانة مركزية، وتتسم الأخلاق عنده بعدة سمات : فهي أولًا أخلاق إنسانية تنبع من صميم الحياة التي نعيشها على ظهر هذه الأرض، وليست أخلاقًا متعالية تفرض على الإنسان فرضًا. وهي ثانيًا أخلاق اجتماعية لا تحصر السيرة الفاضلة في داخل الفرد بينه وبين نفسه، ولا تنبع من الذات أو النفس أو الضمير أو العقل. وهي ثالثًا أخلاق يمكن بحثها علميًا كما تبحث سائر العلوم الطبيعية، ويمكن ضبطها وتوجيهها كما تضبط العلوم.

إن الفكرة عند ديوي هي اقتراح لحل إشكال، أو خطة للتغلب على صعوبة أو مشروع لتخلص من مأزق، فهي في كل الحالات أداة للعمل، وبمقدار نجاحها في توجيه سلوك الإنسان بمقدار حظها من الصواب. يجاهر ديوي بأن الحق هو التحقق من منفعة الفكرة بالتجربة ولا يمكن أن يكون شيئًا آخرًا، والحياة عنده توافق بين الفرد وبيئته ، فالعقل أداة لترقية الحياة وليس للمعرفة وصواب المعتقد مرهون بأثره، أي بقيمته المنصرفة كما قال جيمس من قبل. إن ديوي يستبعد كل ثنائية، بما في تلك الثنائية التقليدية بين الواقعة والقيمة أو بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون. والحق أن الفلسفة البراجماتية عند ديوي تعبر عن نزعة طبيعية أخلاقية، لأنها ترى أن ما ينبغي أن يكون يصدر دائمًا عما هو كائن، ويرتد دائمًا إليه، بحيث أن ما ينبغي أن يكون هو نفسه صورة من صور ما هو كائن.

الفلسفة البراجماتية وتطبيقاتها التربوية عند ديوي

تعتبر فكرة النمو عند جون ديوي هي المفتاح لنظريته التربوية. فالعملية التربوية تتفق بالفعل مع العملية الأخلاقية. ولما كان النمو والتطور لا يتوقف مع نهاية مرحلة المراهقة، فإنه يجب ألا يتم النظر إلى التربية على أنها إعداد للحياة، فالنمو نفسه عملية من عمليات الحياة. إن العملية التربوية ليس لها في حقيقة الأمر نهاية وراء نفسها، لأنها تعتبر غاية في ذاتها. وبالرغم من أن التعليم الرسمي قد انتهى إلا أن التأثير التربوي للمجتمع يؤثر في الكبار كما يؤثر في الصغار.

وبعد أن يقدم ديوي وجهة النظر هذه العامة عن التربية، فإنه يشدد على الحاجة إلى جعل المدرسة مجتمعًا حقيقيًا بقدر المستطاع؛ أي أن تقدم الحياة الاجتماعية في صورة بسيطة، ومن ثمّ تعمل على تنمية قدرة الطفل على أن يساهم في حياة المجتمع بوجه عام. وعلاوة على ذلك يؤكد ديوي على الحاجة إلى تدريب الطفل على البحث العقلي. وبالتالي يجب تغيير المناهج الدراسية لكي تسمح للطفل بأن يشارك بهمة ونشاط بقدر المستطاع في عمليات عينية لبحث يقود من مواقف تحتوي على إشكال إلى سلوك معلن وظاهر أو أفعال مطلوبة لتحويل الموقف. إن الفلسفة البراجماتية للتربية عند جون ديوي تؤكد على ضرورة ألا تكون التربية مجرد تعليمًا لمواد متعددة وإنما يجب أن تكون مجهودًا متماسكًا لرعاية تطور المواطنين الذين يستطيعون تحقيق النمو الأبعد للمجتمع.

خاتمة

لقد تناولنا خلال المقال بشكل بانورامي، أهم العناصر الأساسية في الفلسفة البراجماتية والتركيز على المعالجات الفلسفية التي قدموها في نظرية المعرفة والعلم والأخلاق والتربية، مع إعطاء مساحة أكبر لأفكار الفيلسوف الأمريكي جون ديوي نظرًا لمركزيته وأهميته بين الفلاسفة البراجماتيون. وربما نشعر في خاتمة المطاف بشيء من التعاطف والتقدير لاتساق الموقف البراجماتي الذي لا يدعي معرفة مطلقة أو مجردة، أو أخلاقًا وقيمًا ومُثل عليا مدعاة، وما أكثر الادعاء. إن البراجماتية تنبع من الإنسان وطبيعته، وأي فخر لفلسفة سوى أنها تكون إنسانية. ربما كانت الفلسفة البراجماتية ليست هي الكلمة النهائية في حياة الأفكار والدراما البشرية، حيث يظل حنين الإنسان الدائم لما هو مفارق ومجاوز للعالم الإنساني؛ لكنها ستظل أيضًا كلمة ضرورية ومهمة، والتي ربما لو تمثلناها لصرنا أكثر إنسانية.

محمد السيد

باحث أكاديمي ومترجم - ماجستير آداب جامعة القاهرة.

أضف تعليق

سبعة عشر + إحدى عشر =