إن مصطلح النهضة هو الترجمة العربية لكلمة Renaissance والتي تعني الإحياء أو البعث. وهي تطلق على التجديد والنهوض والخلق والابتكار الذي حدث في أوروبا في مجالات مختلفة مثل الأدب والدين والعمارة والتصوير والنحت والفلسفة والعلم والسياسة والمجتمع، مما قام عليه العصر الحديث. إن عصر النهضة الأوروبية الذي ازدهر في القرن السادس عشر الميلادي، والذي سوف نتناول تأثيره ودوره في الحضارة الحديثة، هو العصر الذي يبدأ برحلة كريستوف كولومبوس الأولى في العالم الجديد عام 1492 وحروب إيطاليا 1494، وينتهي بوفاة إليزابيث ملكة انجلترا سنة 1603 وموت هنري الرابع ملك فرنسا 1610م. لقد حدث في عصر النهضة الأوروبية حوادث عظيمة وتبدلات عميقة في أنظمة الدول الداخلية وفي أوروبا عمومًا، وفي علاقات هذه القارة مع القارات الأخرى. ولذلك تختلف حوادث القرن السادس عشر اختلافًا كليًا عما نعرفه في العصر الوسيط الذي انتهى في السنوات الأخيرة من القرن الخامس عشر، بالرغم من وجود كثير من تلك التأثيرات القديمة سارية على عصر النهضة وأفكاره. وهو ما سوف نتبينه خلال رؤية بانورامية شاملة لهذا العصر المهم في تاريخ الحضارة الأوروبية بل الإنسانية عمومًا.
استكشف هذه المقالة
عوامل قيام النهضة الأوروبية
العوامل الفكرية
قد تبدو العوامل الفكرية التي ساهمت في تشكل عصر النهضة الأوروبية خلال القرن السادس عشر، أنها عودة إلى القديم والماضي، وكأن ظاهر النهضة ما هو إلا رجعية أكثر من كونها ثورة جديدة في مجال الفكر. ومع ذلك لا ينبغي أن ننخدع بما هو ظاهر فقط فننكر على القرن السادس عشر أي تجديد. فكما يقول كارليل فإن روح أي عصر من العصور إنما يتحدد بعقلية نماذج من صفوة أبناءه، حملة المشاعل والتنوير الذين ينيرون للناس طريق المستقبل، وليس من خلال الجماهير الغفيرة. وإذا تناولنا رجال وصفوة عصر النهضة الأوروبية فسوف نجد لديهم مفهومًا جديدًا للعلم والطبيعة والدين والأخلاق والمجتمع.
وقد نجد هؤلاء الأشخاص المجددين كثيرًا ما يسبقون ويتقدمون على عصرهم الذي يعيشون فيه وبالتالي يتعرضون للاضطهاد من معاصريهم الذين لا يفهمون أفكارهم. ومثال على ذلك نجد كوبرينقوس (1473 – 1543)، حيث برهن على حركة الكواكب حول نفسها وحول الشمس، فحكم البابا بأن نظريته مخالفة للكتاب المقدس. وبالرغم من أن كوبرنيك نفسه كان من أبناء القرن السادس عشر، إلا أن الفكرة الثورة الجديدة التي قدمها كانت متقدمة على العصر الذي عاش فيه.
ومثله ليوناردو دافنشي، الذي قرأ القديم كثيرًا وأخذ عنه كثيرًا ومع ذلك لم يخضع لسلطة هذا القديم واعتمد على التجربة التي أسس عليها وحدها أسس علم الميكانيكا. وبفضل اعتماده على التجربة كان يبدو سابقًا على نيوتن، فقد عرف نظرية الأمواج وأوجد علم طبقات الأرض (الجيولوجيا) ولم يأخذه عن أرسطو أو عن سفر التكوين. وقام بالتشريح وكان لديه فكرة عن الجنين والأحوال التي يمر بها، وعن التشريح المقارن. وبناء عليه فإننا نجد كلمة العلم مثلًا قد تبدل معناها في عصر النهضة الأوروبية . فبعد أن كانت تدل على التقليد أو الكنز المتوارث عن القدامى، فقد أصبحت تدل على معرفة الكائن، وهذه المعرفة يكتسبها الإنسان بتأمله في الكائنات ومثل هذا التفكير هو الثورة الحقيقية.
العوامل الدينية
لقد أتى القرن السادس عشر بمفهوم جديد للعقيدة، وهو حرية الضمير أو الوجدان، وبعد أن كان الدين يمثل ظاهرة اجتماعية يضم طائفة أو جماعة واحدة، فقد أصبح ظاهرة فردية وكنز روحي للمؤمن خاص به دون أحد سواه. لقد بدأت حركة الأدب الإنساني بالرجوع إلى النصوص القديمة. وأول عمل لهذه الحركة هو إقصاء الشراح والمفسرين، والذهاب مباشرة غلى كلام الله أي الكتاب المقدس؛ إلى الكتاب القديم بنصه الأصلي كما خرج من بين يدي موسى والأنبياء. غير أن الحادث الحاسممرحبًا في عصر النهضة الأوروبية هو نشر الإنجيل باللغة القومية ووضعه تحت تصرف من يقرأ. فقد ترجم مارتن لوثر الكتاب المقدس إلى اللغة الألمانية فجعل بترجمته هذه لغة مشتركة للشعب الألماني. وكذلك تم نشر الكتاب المقدس باللغة المحلية في انجلترا والبلاد الاسكندنافية.
وبعد ذلك قامت الحروب الدينية، وتم اضطهاد البروتستانتيون في فرنسا، وعانى هؤلاء في سبيل إيمانهم. ومع الزمن لم يستطيعوا أن يرفضوا لغيرهم الحرية التي استماتوا في سبيلها. ومن هذه الحروب خرجت حقيقة أنه ليس في إمكان أبناء دين ما أن ينزعوا دين غيرهم أو إيمانهم. إن ميزة عصر النهضة الأوروبية يتمثل في قدرته على رفض حياة الزهد ومن ثمّ تعظيم الحياة الأرضية التي تستحق أن نحياها بآلامها وأفراحها، وفي ذلك التفكير الجريء يكمن الخطر على طريقة الإيمان التقليدية.
العوامل الأخلاقية والسياسية
لم تكن الحركة الإنسانية في عصر النهضة ثورة فكرية خالصة، بل إن البحث عن قاعدة للحياة ومنهج للسلوك كان قائمًا. فالحركة الإنسانية عند رابليه وكوليت مثلًا كانت أخلاقًا وعلم وجمال في آن واحد. فأمام الأبيقورية والأنانية، اللتين ينادي بها بعض الإيطاليين، كان هناك آخرون يضعون الفضيلة ويدعون لها. وهذه الأخلاق التي يتحدثون عنها ما هي إلا أخلاق بشرية. ولقد ساعد المصلحون الدينيون أنفسهم على جعل هذه الأخلاق بشرية، حتى أن لوثر جعل الفضيلة كالإيمان، وذهب كالفن إلى أبعد منه، وفصل بين ما هو من الله وما هو من الإنسان.
وتظهر فكرتان جديدتان في أخلاق عصر النهضة الأوروبية : الأولى، هي وحدة الجنس البشري. فقد كان الاعتقاد السائد أنه لا يوجد سوى بشرية واحدة من أعقاب أولاد نوح. وتنقسم هذه البشرية إلى قسمين، الوثنية والمسيحية. إلا أن الحروب الصليبية والرحلات واكتشاف العالم الجديد، عرف أوروبا على بشر مجهولين آخرين مثلهم. الفكرة الثانية، هي فكرة التقدم. وقد خرجت هذه الفكرة من الاختلاف بين المعرفة القديمة والاكتشافات التي أصبحت ممكنة بفضل التقدم العلمي، تنظم نظرية التقدم إلى فكرة وحدة الجنس البشري وتنتهي بدعوة إلى التقدم في المستقبل.
وإلى جانب الأخلاق فإننا نلاحظ نوعًا من السياسة الجديدة في عصر النهضة الأوروبية ، فهناك أربع وقائع كبرى تسجل في آخر القرن الخامس عشر وأول القرن السادس عشر، بدء عهد جديد في السياسة الأوروبية وهي: تشكل الدول الحديثة وفكرة القومية، الفكرة الديمقراطية، جعل السياسة عصرية وزمنية كما هو الحال مع البابوية التي تحولت نفسها إلى دولة زمنية، وأخيرًا تبدل العلاقات الدولية نتيجة نزاع الدول فيما بينها والذي أدى إلى التوازن.
العوامل الاقتصادية
يعتبر الحادث الهام الذي يتميز به القرن السادس عشر في عصر النهضة الأوروبية ، هو التبدل العميق الذي جرى في اقتصاد أوروبا الغربية نتيجة الاكتشافات البحرية الكبرى التي ساعدت على نمو النشاط التجاري. يضاف إلى ذلك تذوق حياة الترف الناجم عن ضعف الوازع الديني واحتكاك أوروبا بالحضارة الإيطالية، وكذلك تفق المعادن الثمينة من أمريكا وانتشارها في السوق الأوروبية عن طريق أسبانيا، وأخيرًا الأزمة العامة التي نجمت عن انخفاض قيمة النقد وارتفاع سعر الحياة.
القيم الاجتماعية في عصر النهضة الأوروبية
لقد حاول الكثيرين في ذلك العصر أن يحددوا نموذج لطبيعة الروح الإنسانية في عصر النهضة، مثل محاولة “بوركهارت”، لكنها كانت محاولات لم يكتب لها النجاح نتيجة لوصف الوقائع الاجتماعية المعقدة والمركبة بشكل مبالغ في بساطته. ومع ذلك يمكننا تصنيف أربعة أنماط اجتماعية تم انتشارها في ذلك الوقت.
النمط النبيل
وقد انتشر هذا النمط في العصور الوسطى، وظل مستمرًا خلال عصر النهضة الأوروبية بين أفراد وشخصيات الطبقة الحاكمة. ويعتمد هذا النمط على مجموعة من المفاهيم التي يتبناها مثل: النزوع نحو المجد والشهرة، الشغف بأعمال البطولة والشخصيات العالمية الخارقة، فكرة الشخص النبيل والشهم والشجاع.
النمط الديني
ويقوم هذا النمط على مفهوم الخلاص الديني والأخلاقي، وقدرة الإنسان الحر على التخلص من رغباته والتخلي عن ملذات العالم وخيراته. لكننا سنجد في المقابل رد فعل لهذا النمط يتمثل في نشوء التوجهات العلمانية الحديثة، التي قامت لتعطي قيمة وأهمية لهذا العالم؛ وكيف يمكن لهذه الحياة التي يريد النمط الديني التقليدي التخلي عنها أن تسعدنا وتثري حياتنا بقيم أخلاقية كبيرة. ونتج عن ذلك نشأة توجه إنساني جديد وفلسفات تتبع فلسفة أرسطو القديمة.
نمط الشخص الحكيم
أعطى (الإنسانيون) في عصر النهضة الأوروبية اهتمامًا لهذا النمط المتمثل في الشخصية الحكيمة التي تتبع إما أن تتبع النموذج الأفلاطوني القديم، أو تتبع النموذج الرواقي في طريقة العيش والفلسفة؛ وذلك نتيجة للتوافق بين هذا النمط وبين طريقة الوعظ الديني المسيحي. وقد نشأت بعض المحاولات التي تريد تغيير التوجه الإنساني بالنمط المسيحي، وذلك لأن الكثير من تلك المحاولات قد ظن أنه يمكن أن يتم تعلم أمور كثيرة من خلال الفهم والتفسير الوثني للفضائل والقيم.
نمط البساطة والطبيعة الأصلية
يدعو هذا النمط إلى فكرة العودة إلى الحياة الطبيعية الأصلية والبسيطة، والهروب من التعقيدات المدنية. وقد ظهر هذا النمط بتوسع، عند الشاعر “بيترارك” (1304-1374 ميلادية)؛ حيث نجده يدعو إلى أهمية وقيمة الوحدة والانعزال، على الرغم من أن هذا النمط يمكن العودة به إلى شعر “ثيوقريطس” و”فرجيل”. وقد انتشر في عصر النهضة الأوروبية نتيجة لهذا النمط، عدة أمور مختلفة مثل الاهتمام بالبحث عن أنواع جديدة من النباتات والحيوانات، وقيام جولات استكشافية للحقول والغابات، والقيام بزراعة البساتين والحدائق.
المذهب الإنساني وحركات إحياء المعارف الكلاسيكية
المنظور الإنساني الجديد في فهم العالم وتفسيره
لقد تمت عملية استبدال لوجهة النظر الدينية واللاهوتية في فهم وتفسير العالم والإنسان، باتجاهين آخرين ظهرا في عصر النهضة الأوروبية ؛ وهما النزعة أو المذهب الإنساني، وظهور ونشأة العلوم الطبيعية. وقام (الإنسانيون) بدور محوري ومهم في حضارة عصر النهضة. فقد نشأ وانتشر هذا الاسم خلال القرن الرابع عشر، حيث تمت تسمية الموضوعات التقليدية التي تركز على دراسات اللغة والبلاغة والشعر والأدب باسم (الدراسات الإنسانية). وقد تخرج العديد من المتعلمين بعد دراسة (الإنسانيات) لكي يعملوا في وظائف فكرية في البلاط الملكي والكنيسة. ويعتبر كل من “ليوناردو بروني” و”سالوتاتي” من أكثر النماذج المنتمية لهذا المذهب الإنساني، حيث نجد تأثيرهما الفكري كبيرًا على الدراسات الخاصة بالفلسفة اليونانية، خلال القرن الخامس عشر في عصر النهضة الأوروبية .
عملية إحياء المعارف الكلاسيكية القديمة
ويؤكد المؤرخين على أن عملية إحياء المعارف الكلاسيكية القديمة تمت في عصر النهضة، فعملية اكتشاف المخطوطات القديمة وأيضًا اختراع الطباعة قد ساهموا كثيرًا على ظهور وانتشار الدراسات والمعارف اليونانية والرومانية. وبالإضافة إلى الفلسفة، فإن اهتمام أصحاب المذهب الإنساني، قد انصب على الفنون والتعليم والأدب بكافة فنونه من بلاغة وخطابة وشعر ونحو وفنون الكتابة، وكان للآداب القديمة الدور المحوري في تشجيع هذا الاهتمام. وقامت العلوم الإنسانية بدور محوري هام في القرنين الرابع والخامس عشر، حينما ساهمت في اكتشاف كثيرًا من النصوص القديمة والحفاظ عليها بعد إهمال كبير طوال قرون كثيرة سابقة. ونتيجة لهذه الاكتشافات فقد حدث نوعًا من التوافق والألفة بين عصر النهضة الأوروبية وبين العصور القديمة، بالإضافة إلى فهم الأسس التي قامت عليها الفلسفة اليونانية والرومانية، مما كان له دورًا واضحًا في تشجيع التطلعات الفكرية والعقلية في ذلك الوقت.
العداء بين الإنسانيين والفلاسفة التقليديين
ونتيجة لاهتمام أصحاب النزعة الإنسانية بدراسة الفلسفة الأخلاقية والسياسية، فقد حدث نوعًا من العداء والصراع بينهم وبين الفلاسفة الذين اعتادوا على تعليم وتدريس الفلسفة الأخلاقية والسياسية في ذلك الوقت بالجامعات. فكان الإنسانيون ينظرون إلى مدرسي فلسفة أرسطو في الجامعات على أنهم قد أخفقوا في النجاح والتأثير على الدارسين وإلهامهم؛ وفي المقابل نظر أصحاب الفلسفة المدرسية إلى الإنسانيين على أنهم مجرد أشخاص غير محترفين ومغرورين إلى الحد الذي يدخلون فيه أنفسهم في أمور علمية ودراسية ليسوا على دراية بها أو التحقق منها. ومن هنا بدأ الصراع بين هؤلاء الإنسانيين وبين الفلاسفة الذين عرفوا وقتها باسم (الرشديين)، وظل هذا الصراع قائمًا خلال القرن السابع عشر أيضًا.
نماذج لمفكري النزعة الإنسانية
يعتبر “بروكر” أحد النماذج المهمة من أصحاب النزعة الإنسانية، الذين كتبوا في تاريخ الفلسفة خلال عصر النهضة الأوروبية . فقد كتب كتابًا بعنوان (التاريخ النقدي للفلسفة)، حيث قسمه إلى أجزاء مختلفة وكانت البداية بفلسفات الحضارة اليونانية القديمة والتي كانت قد لاقت القبول والاهتمام في عصر النهضة. وكان بروكر يحترم ويقدر الفلاسفة الذين اتبعوا واهتموا بالفلسفة الأرسطية والعودة إلى أصولها لدى أرسطو، من أمثال بومبانتزي وزاباريللا وسيمون بارتا وغيرهم، على الرغم من كراهيته ورفضه للفلاسفة المدرسيين والأرسطيين الجدد. ويرى بروكر أن البعض الآخر من أمثال ياكوب بوهمة، ووروبرت فلود، لا يمثلون أهمية في تاريخ الفلسفة نتيجة لأنهم قد قللوا من شأن وقيمة العقل وضرورته في تفسير وفهم العالم والطبيعة، ولم يقدموا سوى تعليقات على موضوعات وأفكار الفلسفة. ولعل أهم ما يتميز به كتاب بروكر هو أنه قد اطلع بالفعل على كُتاب ومفكرين عصر النهضة الذين كتب عنهم، وهو العيب الذين كان يوجد في المؤرخين والكتاب السابقين عليه.
الفلسفات اليونانية ودورها في حركة إحياء المعارف الكلاسيكية
يتميز عصر النهضة الأوروبية بانتشار حركات الإحياء الخاصة بالمعارف الكلاسيكية، وعلى وجه التحديد الفلسفة اليونانية وخاصة فلسفة أرسطو. وكان هذا الإحياء قائمًا على النصوص اليونانية الأصلية أكثر من الاعتماد على الشروح والتلخيصات العربية واللاتينية لفلسفة أرسطو. وسوف نستعرض أهم هذه المدارس والفلسفات الكلاسيكية التي تم إحياءها وانتشارها في عصر النهضة.
الفلسفة الأرسطية
لقد كانت فلسفة أرسطو لها نصيب الأسد في الاهتمام والدراسة خلال عصر النهضة الأوروبية . فالطابع المميز لتوجهات البحث الفلسفي في ذلك الوقت كان طابعًا أرسطيًا. وينعكس ذلك مثلًا على المصطلحات والتعبيرات التي تم استخدامها في دراسة المشكلات التي ظهرت والحلول التي جاوبت على تلك المشكلات وخلال المجادلات السائدة؛ كل ذلك كان مرتبطًا بالمصطلحات والتعبيرات الأرسطية. وبالرغم من سعي الفلاسفة إلى التخلص من هذا التراث الأرسطي إلا أنهم كانوا واقعين بشكل واضح تحت تأثيره. وقد بدأت الفلسفة المدرسية في ذلك الوقت، تتسم بالروح النقدية كما نجد عند سواريز وجون الأكبر؛ حيث يعتبر هؤلاء المفكرين أن فلاسفة العصور الوسطى المعروف بعصر الإيمان، قد فهموا فلسفة أرسطو بشكل خاطئ وقاموا بتوظيفها في اللاهوت والجدل الديني بشكل بعيد عن حقيقتها وأصلها، لذلك كانت العودة إلى المصادر الأصلية هي ما يميز عصر النهضة.
الفلسفة الأفلاطونية
لقد انتشر المذهب الأفلاطوني من جديد في عصر النهضة الأوروبية ، بفضل ترجمات “مارسيليو فيتشينو” للاتينية، وذلك بعد أن كانت معرفة الأفلاطونية قادمًا من مجرد الهجوم الأرسطي عليها. ثم ظهرت فيما بعد شروح للفلسفة الأفلاطونية، وهذا فضلاً عن تعليقات فيتشينو على الأفلاطونية التي اصطبغت بطابع الأفلاطونية المحدثة؛ بحيث يمكن القول أن الأفلاطونية التي انتشرت في عصر النهضة لا يمكن تمييزها بسهولة عن الأفلاطونية المحدثة، ويرجع ذلك إلى الطابع الديني الأخروي الذي تميزت به الأخيرة.
المدرسة الرواقية
لم يكن هناك سوى قلة صغيرة من مفكري عصر النهضة الأوروبية (خلال الفترة الأخيرة منه)، هي التي اعتمدت على الرواقية كمذهب واضح، إلا أنه يمكن أن نتعرف على تأثير الفلسفة الرواقية مباشرة أو بصورة غير مباشرة من خلال شيشرون وسينيكا، وشراح فلسفة أرسطو. كما يمكن القول مثلًا، أن مذهب بومبانتزي الأخلاقي يرتبط بالمذهب الرواقي ارتباطًا وثيقًا.
المدرسة الأبيقورية
لقد ذاع صيت “أبيقور” بوصفه ممثلًا للمذهب الإنساني في القرن الخامس عشر، وقبل ذلك أطلقت كلمة “أبيقوري” على كل من اعتقد في أن النفس ترتبط وتهتم بالجسد ولكن حتى زمن “جاسندي” في القرن السابع عشر لم يطبق أحد المذهب الأبيقوري تطبيقًا واضحًا. ويمكن القول أن التأثير الأبيقوري كان سابقًا على عصر جاسندي الذي ساد فيه مناخ أقل عداء لمفاهيم مثل اللذة والألم والمنفعة. وبالتالي نجد هناك انفتاح على الفلسفة الأبيقورية رغم أن العصور الوسطى كانت تعتبرها من الفلسفات شديدة الإلحاد.
النزعة الشكية
لاقى المذهب الشكي أرضًا خصبة في عصر النهضة الأوروبية مقابل ما كانت العصور الوسطى تبشر به في تعصب وجمود. فقد دعا “إرازموس” و”مونتاني” إلى التسامح الذي عرف به عصر التنوير، وبدأ التأثير المباشر للمذهب أو النزعة الشكية من الناحية الفلسفية الاصطلاحية عندما نشرت مؤلفات “سكستوس امبريقوس” لأول مرة في عام 1562 ميلادية، ومنذ ذلك الحين أثر المذهب الشكي تأثيرًا كبيرًا في الفكر والأدب الأوروبي. فقد زعزعت الحروب في القرن السادس عشر بالإضافة إلى الخلافات الدينية، الاعتقاد في صدق المذاهب اليقينية الجامدة.
مكانة الإنسان السامية في عصر النهضة
لقد اعترفت العصور الوسطى بتفرد ومكانة الإنسان العالية، لأنه يمثل الغاية والهدف من الخلق الإلهي؛ ومع ذلك فإن غالبية أصحاب النزعة الإنسانية، قد رفضوا محاولة العصر الوسيط في تحدي خصائص الإنسان من منظور علاقته بالإله. بل إن أصحاب الاتجاه الإنساني مثل بومبانتزي وغيره قد اعتبروا أن أديان العالم ذات نشأة طبيعية، وأن ظواهر العالم يمكن تفسيرها تاريخيًا وليس في ضوء اللاهوت. وفي مقابل ذلك نجد التصور المسيحي عن السعادة الإنسانية عند توماس الأكويني مثلًا، على أنها معرفة الإله؛ أما إرازموس فمفهومه عن السعادة الإنسانية أكثر واقعية وهو أن تريد أن تكون نفسك.
إن موضوع الفردية ومكانة الإنسان الرفيعة والسامية، تعتبر من الاهتمامات الفكرية الرئيسية في عصر النهضة الأوروبية ، فتم اعتبار الإنسان معجزة عظيمة جديرة بكل إعجاب، وأصبح الإنسان مسؤولًا عن صنع حياته بأسرها. كما اهتم الإنسانيون بكل ما هو إنساني إلى أقصى حد؛ فالفرد الفاضل عليه أن يدرك الحدود التي ترسمها الحياة في عالم واقعي، وعليه أن يكتشف فلسفة عملية تتلاءم مع هذا العالم قبل كل شيء، ولا ينفي ذلك مسئوليته الأخلاقية عن أفعاله واختياراته.
ويعتبر “جيوفاني بيكوديللا ميراندولا” (1463 – 1494م)، خير ممثل لمفهوم الكرامة الإنسانية ومكانة الإنسان السامية، في عصر النهضة الأوروبية. فقد ذهب إلى أن الإنسان جدير بكل تقدير وإعجاب، وظهر اتجاهه هذا في مؤلفه (خطبة حول الكرامة الإنسانية). فالوجود الإنساني جدير بكل إعجاب لأنه حر ومبدع وبوسعه أن يكون ما يريد هبوطًا أو صعودًا إلى مكانة أكثر سموًا.
العلم في عصر النهضة الأوروبية
لقد ظهر الجانب العلمي في عصر النهضة متمثلًا في إعادة إحياء الفلسفات الطبيعية والعلم الطبيعي؛ فتمت مثلًا إعادة قراءة أرسطو بمنهج جديد، وطبق فرانسيس بيكون المنطق الأرسطي بطريق تجريبية تلائم مع التطورات التكنولوجية في مجال علم الميكانيكا. وتعتبر نظرية مركزية الشمس التي قدمها كوبرينقوس، من أكثر التطورات والإنجازات العلمية خلال عصر النهضة، بل إنها تعد ثورة فلكية، وقد بناها على بعض أفكار قديمة لدى الفيلسوف اليوناني القديم فيثاغورس عن العلم الكوني. وبالرغم من ذلك فإننا نجد بعض الانشغال غير المفيد بأمور أخرى إلى جانب هذا التطور العلمي، مثل الاهتمام بالتنجيم والسحر والكيمياء القديمة؛ فتمت ترجمة بعض الكتب المتعلقة بالديانة المصرية والعبرانية والكلدانية، وقد تأثرت الحياة الأخلاقية والاجتماعية والدينية في عصر النهضة الأوروبية بتلك الجوانب الخفية لهذه الديانات.
ويمكننا اتخاذ “جيرولامو كاردانو” نموذجًا جيدًا لتمثيل الاتجاه الإنساني وعصر النهضة بشكل عام، وكذلك الوضع العلمي لعصر النهضة بشكل خاص؛ فهو طبيب وعالم رياضيات إيطالي، عاش في الفترة المزدهرة في عصر النهضة الأوروبية عندما كانت كتابات أفلاطون وأرسطو منتشرة وكذلك شروح العرب لفلسفة أرسطو. كتب كاردانو مؤلفات في الطب وعلم الفلك والرياضيات، ولكنه اشتهر نتيجة كتاباته الفلسفية بشكل أكبر. فيمثل كتابه (حول الأشياء الدقيقة 1550م) محاولة شاملة لإعادة بناء الفلسفة الطبيعية حيث ظهر في ذلك الحين هجوم على فلسفة أرسطو سابق لهجمات جاليليو وديكارت عليها. وقد رأى كاردانو أن أرسطو أورثنا أفكارًا لا تدعمها التجربة، وأراد أن يتغلب على هذا القصور بالرغم من أن نزعته التجريبية لم تتخذ طابعًا فلسفيًا.
عصر النهضة في إيطاليا
إن عصر النهضة الأوروبية قد بدأ في إيطاليا أولًا دون سواها من البلدان الغربية، وتجلت النهضة في عدة أمور:
- ظهور الحركة الإنسانية في إيطاليا والتي تمثل دعوة لإحياء الدراسات الإغريقية واللاتينية وما تفرع منها من حركات أخرى، كجمع المخطوطات، وإنشاء المكتبات العامة والخاصة، قيام الأكاديميات أو مجمعات العلم.
- قدم علم التاريخ، فقد كان الاهتمام بالتاريخ هو المظهر الثاني من مظاهر النهضة والإحياء في إيطاليا. فلأول مرة أخذت الدراسة طريقها على أساس المادة الموثوقة وليس على أساس الرواية والسماع. كما أخذت الدراسة التاريخية تصطبغ بالصبغة الزمنية، وتنتقل من يد رجال الدين إلى العلمانيين.
- ظهور اللغات الحديثة، حيث يعتبر نمو اللغات الوطنية واعتداؤها التدريجي على اللغة اللاتينية التي كانت تمثل لغة الأدب والعلم، هو حلقة الاتصال بين عصر النهضة الأوروبية وبين العصور الحديثة وبالتاي يعد المظهر الثالث من مظاهر النهضة الإيطالية.
- تطور الفنون الجميلة، فقد دبت فيها روح العلمانية المتحررة من تزمت العصور الوسطى، حيث كانت الفنون موجهة لخدمة الكنيسة والأغراض الدينية بوجه عام. ويتمثل هذا التطور بصفة خاصة في فن الرسم والنحت والعمارة.
- تقدم العلوم، حيث كان من الطبيعي مع ظهور طبقة بورجوازية تجارية عملها الأساس نقل المتاجر بين الجهات والبلدان، أن تنشأ الحاجة إلى تحسين وسائل المواصلات، ولما كانت الملاحة البحرية أداة مهمة، فسرعان ما أحرزت تقدم ملموس صاحبه تقدم آخر في علم الجغرافيا. وبتقدم علم الجغرافيا تقدمت نواحي المعرفة التي تتصل بهذا العلم مثل النبات والحيوان والمعادن، كما تقدم علم الفلك وأمكن التوصل إلى حقائق فلكية جديدة.
- تطور الفكر السياسي في عصر النهضة الأوروبية في إيطاليا، وقد عبر عنه نيقولا ماكيافللي (1469 – 1527م) في نظرياته أو مبادئه التي تتألف من مجموعة أقواله في كتبه، وخاصلة في كتابه الشهير (الأمير).
خاتمة
وهكذا يشرف عصر النهضة على النهاية لتبدأ حقبة حضارية جديدة في القرن السابع عشر. وقد رأينا خلال المقال كيف يمثل عصر النهضة أهمية محورية في الانتقال بأوروبا من عالم العصور الوسطى التي كانت غارقة فيه، إلى بدايات العصر الحديث. لذلك تكمن أهمية فهم آليات وعوامل النهضة التي حدثت، لكي نفهم كيف تطورت الحضارة الأوروبية الحديثة، ومن ثم نفهم عملية النهضة بشكل عام وكيف نستفيد من ذلك في السياق العربي الخاص بنا.
أضف تعليق