يتوقف جزءًا كبيرًا من الاضطرابات النفسية مثل حالات القلق والاكتئاب والمخاوف المبالغ فيها، على طريقة التفكير والأساليب الذهنية التي يستخدمها الفرض في حياته وفي مواجهة المواقف والتجارب الحياتية المختلفة. وهذه الأفكار والأساليب الخاطئة أمر يمكن فهمه وتحديده ومواجهته، ومن ثمّ نتمكن من استبداله بطرق وأفكار أخرى مناسبة وصحية لا تدفع إلى الشعور بالاضطرابات أو الاكتئاب. ويسعى المقال إلى تحديد وفهم هذه العلاقة التي تربط بين طريقة التفكير الانهزامي وبين حالات الاكتئاب والاضطرابات الوجدانية، وبالتالي نتمكن من التحكم في هذه العلاقة وتوجيهها نحو طرق صحية قائمة على الدراسات النفسية الحديثة والمعاصرة.
استكشف هذه المقالة
طريقة إدراك الأشياء وتفسيرها هي التي تخلق الاضطرابات النفسية
إن فكرة تأثير طريقة التفكير الخاصة بنا على حياتنا النفسية والانفعالية ليست بالجديدة تمامًا في علم النفس المعاصر بالرغم من ظهور هذا الاتجاه بشكل قوي خلال السنوات الماضية فقط. فنجد تأكيد المفكرين والفلاسفة القدماء على أن الطريقة التي ندرك بها العالم المحيط بنا وليس العالم نفسه، هي التي تحدد وتصنع السلوك المضطرب أو السلوك السوي. فإذا نظرنا على سبيل المثال إلى الفلسفة الرواقية في الحضارة اليونانية القديمة، سنجدها تؤكد على ضرورة أن يسعى الإنسان نحو التكيف مع الأشياء أو المشكلات الصعبة والمستحيلة التي لا يمكن السيطرة عليها أو حلها؛ ومن ثمّ تقبلها والتعامل معها حتى لا يدفعه مواجهته للأمور الحتمية إلى التعاسة والحزن والاضطراب النفسي.
فينبغي أن يعدل الإنسان من طريقة التفكير والأساليب الذهنية التي يواجه من خلالها المواقف الحياتية المختلفة، حتى لا تتبدد طاقته في مواجهة مشكلة حتمية لا أمل في تغيرها، مما سينتج عنه مجرد تضخم في المشكلة وإحداث التوتر النفسي لدى الفرد. وهذا ما تؤكده نظرتنا إلى الأشخاص المضطربين نفسيًا الذين يجدون يجدون الألم والمعاناة نتيجة لسعيهم نحو الأمور المستحيلة وتجاهل الأمور الممكنة؛ وبالتالي يصبح العالم الخارجي هو المصدر الرئيسي للألم والمعاناة. كذلك نجد قديمًا أن “ابن سينا” على سبيل المثال، قد عالج قضية العلاقة بين طريقة التفكير وبين المرض؛ وهو ما يؤكد على اهتمام المفكرين الإسلاميين بشكل منهجي بذلك التفاعل بين طرق التفكير مثل سوء الظن، وبين مختلف ما يعاني منه الإنسان من أمراض أو هموم.
ونجد في الفكر الغربي الحديث نموذج لفيلسوف مثل “برتراند راسل” يتبنى في كتابه (انتصار السعادة) وجهة نظر في السعادة الإنسانية، ترى أن العقيدة أو الفكر هو الذي يحرك ويتحكم في السلوك الإنساني؛ ومن ثمّ فإن التفكير في شؤون الحياة بأسلوب منطقي وعقلاني يؤدي إلى حياة انفعالية ونفسية هادئة بلا اضطرابات. كذلك يؤكد علم النفس المعاصر على أن المعتقدات والأفكار الخاطئة التي يتبناها الأشخاص عن ذواتهم وعن البيئة المحيطة بهم، هي التي تحدد طريقة استجاباتهم الانفعالية والسلوكية وأيضًا ما يعانونه من اضطرابات. لذلك قدم الأطباء النفسيون تصورات ورؤى مختلفة عن دور العوامل الذهنية والفكرية في حدوث اضطرابات نفسية. فنجد مثلاً عالم النفس “ألفريد أدلر” يؤكد على أن الطريقة المناسبة لفهم الأشخاص هي أن نتعرف على أهدافه الخاصة التي يخلقها لنفسه وكذلك المعتقدات والأفكار التي يتبناها خلال تفاعله وتواصله مع الآخرين.
تأثير الاتجاهات و طريقة التفكير على الاستجابة للعلاج الطبي
إن علماء النفس الفسيولوجي يؤكد هو الآخر في أبحاثه على أن الوظائف العضوية والفسيولوجية للإنسان، تتأثر بشكل إيجابي أو سلبي بما يتحدث ويقوله الشخص لنفسه، وبالتالي يمكن للكلمات أن تحرك فيه نوعًا من الاستجابات الانفعالية الشديدة. فيمكن للشخص أثناء تذكره لفكرة ما أو قيامه بأداء عمل ما أو مواجهة موقف محدد أو أثناء تواصله مع أشخاص معينين، أن يحرك في نفسه انفعالات مختلفة مثل الاكتئاب أو الحزن أو الفرح أو الخوف؛ ويتوقف ذلك على ما يقوله لنفسه. فنجد في أحد التجارب أنه أمكن تغيير الحالة المزاجية لنفس الشخص من خلال تغيير الكلمات والعبارات التي طُلب من الفرد أن يستخدمها خلال ممارسته لنشاط معين. وقد ثبت في دراسة تجريبية أنه يمكن استثارة الخوف من خلال تخيل مواقف ضارة وكريهة مثلاً.
وتبين الدراسات الحديثة في علم النفس أن تأثير طرق العلاج سواء كانت بالعقاقير أو بطرق فسيولوجية، تعتمد في نجاحها على المعتقدات الشخصية في نجاح العلاج وعلى أمور مثل: توقع النجاح العلاجي، والتمرين على ضبط الانتباه وموقف الشخص من المعالج؛ وهي كلها أمور تخص طريقة التفكير الخاصة بالمريض وتوجهاته العقلية. وتكتسب الأشكال العلاجية العضوية بما في ذلك العقاقير الطبية، فاعليتها وتأثيرها من خلال المعتقدات الشخصية في نجاح أو فشل تلك الطرق والأشكال. ونلاحظ أننا قد نعطي نفس العقار الطبي لشخصين متشابهين في المرض، ولكنه لا يؤدي إلى نفس التأثير، فينجح مع واحد ويفشل مع الآخر نتيجة للتوقعات و طريقة التفكير التي يتبناها كل منهما عن تأثير وقوة هذا العقار. فالمريض الذي يعتقد أن العقار الذي يتناوله فعال ومؤثر ويثق في الطبيب، فإن العقار يصبح فعالاً والعكس صحيح.
وتوضح التجارب والدراسات أن هناك نتائج إيجابية للعلاج عند استخدام أدوية كاذبة أو عقاقير إيهامية، إذا ما تم إعطائها للمريض على أنها قوية وفعالة. وقد امتد تأثير هذه الأدوية الكاذبة على علاج أمراض عضوية ونفسية مثل القلق والاكتئاب والصداع وآلام الأسنان والصدر. والواقع أن الصورة المعاصرة لمناهج العلاج الحديثة للاكتئاب مثلاً سواء النظريات المعرفية أو العقلانية، تأخذ كثيراً من منطلقاتها النظرية من هذه الرؤية؛ بمعنى أن الاضطرابات النفسية والذهنية لا يمكن عزلها عن طريقة التفكير التي يفكر بها المريض بشأن ذاته أو بشأن البيئة المحيطة وعن اتجاهاته نحو نفسه ونحو الآخرين. وبالتالي فإن العلاج النفسي ينبغي أن يهتم بشكل مباشر بتغيير هذه الأساليب والآليات الفكرية قبل تغيير شخصية المريض أو البحث عن الأعراض التي دفعته للعلاج.
التكامل بين طريقة التفكير والانفعالات النفسية والسلوك
إن الفصل بين الجوانب المختلفة للسلوك الإنساني (التفكير والانفعال والسلوك) من الأمور الخاطئة، حيث تتفاعل وتتكامل جميع هذه الجوانب مع بعضها البعض. فالإنسان لا ينفعل فقط لأنه عندما يكون في قمة الانفعال فإنه يفكر بأسلوب معين، ثم يترجم هذه الانفعالات إلى سلوك عملي أو نشاط خارجي. كذلك فإنه عندما يقوم بالتفكير في موضوع معين، فإن ذلك يرافقه انفعالات خاصة بهذا الموضوع وما ينتج عنه أيضًا من جوانب سلوكية خارجية. وعندما يسلك الإنسان بطريقة معينة نتيجة استجابته لمثير خارجي، فإن طريقة التفكير تعتبر هي الوسيط بين هذا المثير وبين الاستجابة له.
فيمكننا إذن أن نتحكم في الانفعالات بطرق عديدة. فإذا كنت أشعر مثلاً بانفعالات كالخوف أو القلق أو الاكتئاب نتيجة موقف معين، فيمكن تهدئة انفعالاتنا وضبطها بأساليب مختلفة؛ فالإحساس بالدونية والحط من الذات في حالات الاكتئاب مثلاً، يمكننا استبداله باستجابات معارضة من خلال التأكيد على الذات أو العقاقير المضادة للاكتئاب. كذلك يمكن ضبط وتغيير السلوك من خلال تغيير طريقة التفكير في هذا الأمر أو ذاك، فنستخدم مثلاً النقاشات العقلانية مع الذات أو مع الآخرين ممن يمتلكون المهارة المعرفية كصديق أو معالج نفسي ذو خبرة. إن التفكير والانفعالات والسلوك تمثل جميعًا أشكال مترابطة، ويرتبط تغيير إحداها بالتغيير في العناصر الأخرى. ومن الخطأ أن نعتبر أن تغيير الانفعال وحده يؤدي إلى تغيير التفكير أو أن تغيير التفكير وحده يؤدي إلى التغيير في المشاعر والانفعالات.
تفسير السلوك من خلال طرق التفكير العقلانية أو غير العقلانية
يسبق أي انفعال إيجابي أو سلبي (كالحزن أو الفرح أو الحب أو القلق والخوف)، طريقة تفكير وبناء معرفي ومجموعة معتقدات سابقة على ظهور هذا الانفعال. فإذا كانت طريقة التفكير عقلانية ومنطقية فإن الانفعالات والسلوك سيكون إيجابيًا وهادئًا وأكثر نشاطًا. وإذا كانت طريقة التفكير غير عقلانية أو غير منطقية، فإن السلوك والانفعال سيكون مضطرب وغير هادئ أو عقلاني. فخلال تعاملنا اليومي في الحياة فإننا نواجه الكثير من المواقف والمشكلات والأحداث التي تقف أمام تحقيق أهدافنا ورغباتنا مثل الفشل في امتحان أو الفشل في علاقة عاطفية أو موت شخص مقرب. وتختلف استجاباتنا لمثل هذه المواقف والعقبات السلبية. فهناك الطريقة الإيجابية في التعامل مع هذه المواقف من خلال الأسلوب العقلاني الهادئ في التفكير، من أجل تفسير الأمور وإجراء حوار مع الذات ومن ثمّ يمكن التكيف مع تلك المواقف وتقبلها قدر الإمكان.
فقد يتعلم الشخص من الفشل أو الخسارة دروسًا جديدة تساعده على تغيير أشياء معينة في شخصيته هي التي أدت به إلى الفشل أو الخسارة، أو يعيد التخطيط من جديد لحل المشكلة؛ فالأمور لا تأتي دائمًا وفقًا لرغباتنا ولكن لا بأس من البدء مجدداً وإعادة المحاولة من جديد لكي نتمكن من تجاوز المشكلة في المرات المقبلة. ويوجد في المقابل الاستجابة السلبية الأخرى في مواجهة تلك المواقف وهي طريقة التفكير غير المنطقية أو الهادئة حيث يقوم الشخص بطرح تفسيرات وأفكار سوداوية ومتشائمة تجاه مواقف الحياة المختلفة مما يتسبب في كثير من الاضطرابات النفسية والسلوكية.
طرق التفكير التي تدفع نحو اليأس والاكتئاب
إن الإحساس بالحزن والاكتئاب أو الاضطرابات المرضية، التي تجيئ بعد فشل الإنسان في الوصول إلى هدفه الذي يسعى إليه أو فقدانه لشخص مهم؛ ينشأ نتيجة للتصورات والأفكار السوداوية التي ينسجها الفرد بشأن تلك الخسارة أو الفشل. فيتم بناء استنتاجات خاطئة على هذا الفشل والذي يتحول معناه إلى رؤية الشخص لنفسه وحيداً أو غبي أو عديم الأهمية على سبيل المثال. ويقسم علماء النفس المعرفيون المعتقدات إلى نوعين: النوع الأول معتقدات عقلانية ومنطقية تكون مصحوبة بحالات وجدانية وانفعالية مناسبة للموقف الذي يتعرض له الإنسان، ويؤدي به ذلك إلى النضج والبناء الإيجابي لخبرته وانفعالاته. والنوع الثاني من المعتقدات هي معتقدات غير منطقية ولا عقلانية تكون مصحوبة باضطرابات مرضية في الوجدان والانفعال.
وتكون المعتقدات و طريقة التفكير منطقية وعقلانية حينما: تكون منسجمة وملائمة للواقع، حيث يتم بناءها وفقًا لحقائق وليس مجرد انطباعات وتفسيرات هوائية ومتسرعة. وتكون قادرة على الحفاظ على حياتنا النفسية والجسدية معًا. وأن تتمكن من دفعنا نحو أهدافنا والوصول إليها. وأن تبعدنا عن الاشتباك في الصراعات التافهة وغير الضرورية مع الأشخاص الآخرين. وان تساعدنا في تحقيق المشاعر والانفعالات في الوقت والمكان الذي نريده. وإجمالًا يمكن القول أن طريقة التفكير السليمة والعقلانية هي تلك التي تنسجم وتتوافق مع أهدافنا العامة وقيمنا الرئيسية التي نتبناها في الحياة، ومن ثمّ تؤدي بنا إلى السعادة والإبداع والتفاعل الاجتماعي بشكل إيجابي. ويتم اعتبار المعتقدات و طريقة التفكير غير عقلانية عندما لا تتلاقى مع أي هدف أو مهمة من المهام والوظائف السابقة.
وتعتبر الاضطرابات المرضية كالاكتئاب مثلاً، مجرد استجابة غير قادرة على التكيف بشكل مبالغ فيه، حيث تنشأ تلك الاضطرابات نتيجة لتلك الأفكار والتصورات السلبية التي نكونها بشأن: الذات أو الموقف الخارجي أو المستقبل أو لتلك العناصر الثلاثة كلها.
- أولًا التصور السلبي للذات: نجد الشخص المكتئب يدرك ذاته أو نفسه بوصفها غير لائقة وناقصة ومقصرة في أداء ما ينبغي عليها أن تقوم به؛ لذلك فإنه يعطي لكل التجارب السلبية التي يمر بها أسبابًا تعود إلى قصوره الجسدي أو النفسي أو الاجتماعي. وبالتالي يصبح هذا الشخص في حالة رفض لنفسه ولذاته نتيجة الشعور الذي يجده بداخله من نقص وعجز وتفاهة وهي الصفات التي تنتشر بين المكتئبين.
- ثانيًا التصور السلبي للموقف الخارجي: وهذا النوع من التصور يمثل نموذج آخر من نماذج طريقة التفكير الاكتئابية. فالشخص الذي يعتنق تلك التصورات يرى أن العالم أو البيئة الخارجية المحيطة به ممتلئة بالعقبات والمعوقات التي تقف في طريق أحلامه وأهدافه ولا يستطيع السيطرة عليها لأنها خارجة عن إرادته، وبالتالي فإن تلك البيئة خالية من السعادة والمتعة وتحقيق مستوى من الإشباع يسعى إليه. لذلك فإن كافة المواقف والعلاقات الاجتماعية التي يمر بها الشخص في عالمه يجد نفسه فيها منهزمًا وفاشلاً وغير متحقق نفسيًا.
- ثالثًا التصور السلبي للمستقبل: تسيطر على الشخصية المكتئبة رؤية متشائمة ومتشككة بشأن المستقبل، ودائمًا ما يتوقع استمرار تلك الرؤية الاكتئابية وأعراضها ومن ثمّ يصبح في وضع انتظار دائم لمزيد من الإحباط والفشل.
كيف يفكر المضطربون نفسيًا؟
هناك عدة طرق في التفكير تساهم في حدوث أخطاء في الفهم والتفسير، عندما يتعرض الإنسان لحل أو لمواجهة مشكلة ما في حياته أو مروره بتجربة معينة؛ وبالتالي يحدث سوء إدراك للواقع مما يتسبب في ظهور الاضطرابات النفسية والانفعالية كما يحدث في حالة الاكتئاب. وسوف نستعرض بعضًا من تلك الطرق في التفكير حتى نتمكن من تجنبها والانتباه لها.
الميل نحو التعميم
يمثل هذا التوجه نحو إطلاق التعميمات والأحكام المطلقة والمتسرعة، تعارضًا مع طريقة التفكير العقلانية والمنطقية؛ حيث يساعد هذا الأسلوب في التعميم على حدوث اضطرابات وإثارة الألم والشقاء لدى الإنسان. فعندما يمر الإنسان بتجربة فاشلة وسيئة مع طرف من الجنس الآخر سواء من الرجال أو النساء، فإن هذا الطرف سريعًا ما يطلق الأحكام التعميمية السريعة، مثل (الرجال جميعًا غير مخلصين) أو (النساء كلهم شبه بعض)، ويكون ذلك بداية الطريق لظهور سوء التكيف والتوافق مع الطرف الآخر. ويرتبط التعميم بكثير من الاضطرابات المرضية مثل الاكتئاب، فعندما يواجه الشخص نقدًا على بعض التفاصيل الجزئية التي قام بها، فإنه سريعًا ما يعتبر هذا النقد على كل شئ في حياته وأنه إنسان فاشل وسيء في كل تفاصيل حياته. وباختصار فإن التعميمات والأحكام الكلية الخاطئة تمثل عنصرًا أساسيًا يساهم في حدوث الاكتئاب والذي يرتبط بدوره بالمخاوف الاجتماعية المرضية والقلق. لذلك يكون دور المعالج النفسي أن يساعد مريضه على التخلص من هذه التعميمات المطلقة ويدفعه نحو طريقة التفكير التي تعطي للاحتمالات والممكنات المتعددة مكانة في تفكيره.
الميل نحو تضخيم الأمور أو التقليل منها
وهنا يميل الشخص إلى التهويل والتضخيم في الشيء الذي يدركه أو الموقف الذي يتعرض له، وبالتالي يعطي الإنسان تفسيرات ومعاني مبالغ فيها وتعميق شعور بالمأساة أو الخطر أو الكارثة في حين أن الأمر قد يكون بسيط ولا يحتاج لهذا التهويل والمبالغة. ويتميز الشخص المكتئب أو مريض القلق بارتباط طريقة التفكير لديهم بهذا النوع من المبالغة السلبية في إدراك التجارب التي يعيشونها. فحتى عندما لا يوجد أسباب حقيقية تدعو إلى الخوف والقلق فإننا نجد هذا المريض في حالة توقع دائمة للفشل أو حدوث المشكلات والكوارث له ولمن حوله. وفي حالة مريض الاكتئاب نجده يضخم من عيوبه وأخطائه البسيطة ليحولها إلى مأساة أو كارثة ستحل عليه وتدمر سمعته مثلًا، بينما يقلل ويهون من مزاياه ونقاط قوته، في حين أن العكس هو المطلوب في الصحة النفسية حيث يحتاج الشخص إلى شئ من التقليل والتهوين من عيوبه وأخطاءه ومن ثمّ نجد الأشخاص الأسوياء لا يكونوا موضوعيين في تقييم عيوبهم ومزاياهم.
الميل نحو الحصول على كل شئ دون استثناء
يتجه بعض الناس في طريقة التفكير التي يمارسونها إلى رؤية الأمور والأشياء بشكل متطرف، فإما أن يحصلوا على كل شئ أو لا يحصلوا على شئ مطلقًا، وإما يرون الأمور كلها جيدة أو كلها سيئة، الحياة أبيض أو أسود، دون القدرة على رؤية الأمور وتقييمها بشكل متزن وإدراك ما هو إيجابي في الشيء وما هو سلبي أو سيء، أو كيف يتحول الأمر الطيب إلى خبيث والعكس، أو كيف يحصلون على مكسب متزن في الإمكان دون الطمع في كل المكسب والذي ربما لا يستطيعون عليه. ومن الأمور السيئة من ناحية الصحة النفسية في طريقة التفكير هذه، أن الشخص يكون واقعًا باستمرار تحت رغبة وإغراء تحقيق الكمال والمثالية المطلقة في كل شئ، وبالتالي يصبح شديد الحساسية تجاه أي خطأ يرتكبه في تجاربه أو حياته.
وهذه الرؤية غير الواقعية المرتبطة بسعي الإنسان نحو الكمال، سوف تدفع الشخص إلى رؤية نفسه وذاته بطريقة غير واقعية أيضًا؛ مما ينتج عنه الإحساس سريعًا بالإحباط والاكتئاب عندما يخسر ويفشل هذا الشخص في حل أي مشكلة أو عدم تحقيق أهدافه غير الواقعية والصعبة. لذلك فإن المكتئبين وأصحاب المخاوف والقلق المرضي يحتاجون إلى تبني طريقة التفكير التي تتسم بالواقعية وأننا غير كاملين أو مثاليين جميعًا. فليس هناك شئ كامل ولا يوجد مكان في هذه الحياة إلى المطلق؛ فشئون الحياة جميعها تتدرج بين السيئ والجيد بين النجاح والفشل بين الطيب والشرير بين السعادة والشقاء، بين النظام والفوضى. أما الكمال المطلق فلا يوجد في هذا العالم بل في عقلنا وتصوراتنا الخاطئة فقط.
تجاهل السياق الذي تحدث فيه الأشياء
تتعلق طريقة التفكير الاكتئابية بنوع آخر من التفكير غير العقلاني والخاطئ، وذلك عندما يقوم هذا الشخص بعزل وتجريد الأمور والأشياء عن السياق الذي توجد فيه أو تحدث بداخله، ويربطها بسياق آخر لا تتصل به. فقد يتردد شاب مثلًا في التقدم لخطبة فتاة أعجب بها، نتيجة لأنه تم رفضه مسبقًا حينما تقدم لفتاة سابقة وقد تكون لأسباب لا تتعلق بأمور سيئة في شخصيته. والشخص المكتئب يقوم بالتركيز على نقطة سلبية جزئية فقط ولا يرى ما يوجد حولها من تفاصيل أخرى أو ما ترتبط به من شبكة علاقات وعناصر تتحكم في الموقف ككل وليس هذه النقطة السلبية فقط؛ وبالتالي لا يرى إلى ما هو سيء أمامه، فليس هناك طاقة نور أو أمل، ولا يتذكر هذا الشخص من المواقف الإيجابية التي حدثت له.
إدراك الأمور الجيدة بشكل سلبي
ويستخدم المكتئب هذه السمة شديدة السوء في طريقة التفكير ، حيث نجده يفسر ويفهم الأمور الجيدة والإيجابية بشكل سيء وسلبي، فلم يعد يكتفي فقط بالتركيز والانتقاء لما هو سلبي، بل يتخطى ذلك لكي يشوه الأمور الجيدة. فالشخص في هذه الحالة يتبنى أساليب عقلية منهزمة وخاسرة تجاه نفسه وشعوره بالحزن والتأسي على حاله ووضعه أثناء حالة الاكتئاب. فكل متع ومباهج ومكاسب الحياة التي يمتلكها الشخص المكتئب، تتحول نتيجة طريقة التفكير هذه، إلى مصدر للفشل والتعاسة والخسارة والحزن. وبالتالي نكتشف كيف تؤدي بنا الطرق الذهنية التي نستخدمها بشكل خاطئ إلى الشعور بالبؤس والمعاناة والألم. وربما كانت هذه الطريقة في التفكير هي أكثر الأساليب الذهنية تدميرًا للنفس والذات وأكثر الأساليب الفكرية خطورة على الفرد المكتئب. يضع الفرد نفسه من خلال هذا الأسلوب في موضع الشخص الذي يخسر ويفشل دائمًا سواء كان ذلك صحيح أم غير صحيح، وتصبح الأمور الجيدة في حياته مجرد مصادفات لا أكثر. ومن هنا يصبح العجز والفشل في الاستمتاع والشعور بالمباهج التي توجد في حياته هما سيدا الموقف والرؤية.
التسرع في الوصول إلى الاستنتاجات والتفسيرات
يصدر السلوك البشري في حالات القلق والاكتئاب، عن خطأ في الفهم والتفسير نتيجة لعدم وجود معلومات كافية واختلاف السياقات التي يحدث فيها الموقف. من هذه الأخطاء مثلًا، عندما نقوم بقراءة سلبية لكل كبيرة وصغيرة لأفكار الأشخاص الآخرين، ونبدأ في التصرف والتعامل مع أنفسنا ومع الآخرين بناء على هذه التفسيرات والتصورات التي شكلناها وكأنها حقيقة واقعة لا مفر منها. فوفقًا لما نظنه بشأن قراءتنا السلبية والخاطئة لأفكار الآخرين، فإننا قد نعتقد عدم احترام الآخرين لنا أو أنهم يرفضوننا أو يسخرون منا أو يكرهوننا. وأكثر ما في طريقة التفكير الخاطئة هذه من خطورة أنها تسمح لنا بالقفز المتسرع إلى الاستنتاجات نتيجة لقراءة أفكار الآخرين بشكل خاطئ وسلبي؛ ومن ثمّ يدفعنا هذا التسرع إلى التصرف والسلوك بنمط خاطئ، فنتراجع ونبتعد عن بعض الأشخاص وفي بعض التجارب الحياتية بشكل غير مناسب، وقد نتسرع في التصرف بحماقة واندفاع بدون داعي.
رؤية المستقبل بطريقة تشاؤمية
وهذا نوع من الاستنتاج الخاطئ أيضًا، حيث نقوم بتشكيل وتكوين توقعات متشائمة وسلبية بشان المستقبل وأيامنا المقبلة التي تتسم بالبؤس والفشل الذي ينتظرنا أو ينتظر من حولنا. فيتحول هذا الشخص إلى منجم أو عالم يقرأ الغيب وما تخفيه الأيام القادمة من كوارث ومشاكل. ويجد الشخص نفسه في حالة من الخوف والفزع والقلق نتيجة لتوقعه حدوث شئ سلبي وكارثي له أو لأصدقائه وأسرته في المستقبل. وتحول هذا التوقع إلى كونه أكثر من ذلك، فيصبح شيئًا حقيقيًا ويقينيا؛ وحتمية حدوثه مؤكدة وليس مجرد تنبؤ أو توقع خاطئ ناتج من طريقة التفكير التي يتبعها الشخص. إنه مثال واضح لأسلوب التفكير لدى الحالات الاكتئابية التي تدعي التنبؤ، حيث يقع الشخص تحت إغراء قراءة المستقبل والتنبؤ بالتعاسة الحتمية الآتية له دون شك.
فهم الأمور بشكل شخصي وذاتي
يعتبر التفسير والفهم الشخصي للأمور من الأخطاء المتعلقة بالاستنتاج أيضًا، حيث يتجه الشخص الذي يعاني من الاكتئاب إلى الشعور بالمسئولية تجاه الأخطاء الخارجية؛ أي أنه يعطي لنفسه بدون وجه حق، المسئولية عن الأخطاء التي تحدث في التجارب التي يخوضها والتي قد لا ترتبط به بشكل شخصي. إن هذا النوع من الفهم والتأويل الشخصي للأمور، يدفع هؤلاء الذين لديهم اضطراب نفسي إلى الشعور بالذنب والإحساس بالندم الشديد على أحداث ومواقف ليسوا مسئولين عن حدوثها أو القيام بها، ومع ذلك يشعرون بمسئوليتهم تجاهها. وتصبح طريقة التفكير هذه خطرة على الشخص وعلى المجتمع الذي يعيش فيه عندما يتعلق الأمر ببعض الوظائف الإرشادية والقيادية مثل المدرسين والمديرين والأطباء. حيث يتجنب الشخص إصدار إرشادات وتوجيهات للتلاميذ أو الموظفين تحت قيادته نتيجة لخوفه على مشاعرهم أو حدوث أذى لهم. لذلك نجد أن تلك المراكز القيادية التي تتطلب توجيه وإرشاد وإصدار قرارات حاسمة، سوف يفشل في شغلها الأشخاص المكتئبين.
خاتمة
إن الدرس الأساسي الذي نتعلمه هنا، هو أن نراقب ونلاحظ دائمًا أسلوب و طريقة التفكير التي نتبعها ونفسر من خلالها الأمور والمواقف. فالتجارب والأحداث نفسها قد لا تكون سلبية وسيئة بنفس القدر الذي يكون تفكيرنا بشأن هذه التجارب والأحداث. لذلك يكون من الضروري أن يتدرب الشخص على الحوار بشكل جيد وإيجابي مع ذاته والابتعاد عن فهم وتفسير الأحداث والأشياء بشكل مأساوي وتضخيمها دون وجود أسباب لذلك. فقم بمراقبة نفسك أثناء مواجهة الأحداث الصعبة أو البسيطة، وحدد الحالة النفسية والوجدانية التي تتحكم في توجيه هذه الأحداث والمواقف؛ ومن ثمّ اكتشاف الصلة التي تربط بين المحتوى الذهني والفكري من تأويلات وتفسيرات نقوم بصياغتها بشأن المواقف المختلفة، وبين ما يوجد بداخلنا من انفعالات الغضب أو الاكتئاب أو القلق والخوف. لتصبح الخطوة الأهم بعد ذلك أن نستبعد استخدام نفس طريقة التفكير والتفسيرات التي كانت متصلة بالانفعال النفسي السلبي.
أضف تعليق