تزداد التساؤلات دوما حول ما يختلف فيه الناس، ولماذا يختلفون دوما وتتعارض رؤاهم حول قضية واحدة، ما يجعل الاتفاق التام حول قضية واحدة ضربا من الخيال، وصورة لا تتحقق إلا في الأحلام، بل لعلك تجد شخصاواحدا تختلف رؤيته، وتتعدد وجهات نظره، وتتناقض أفعاله من وقت لآخر، بل قد يختلف كل هذا بالانتقال من مكان إلى مكان، ومن تغير الصحبة لأخرى، بل وربما إذا تغيرت حالته المزاجية والنفسية والمادية والاجتماعية؛ فمواقف الفقير الأعزب تختلف عنها إذا صار غنيا متزوجا، والغاضب الاجتماعي تختلف مواقفه عن هادئ الطباع الانطوائي، ولكل هذا مرجع في حياة العرب الأوائل صاغوها في ظاهرة لغوية عرفت بظاهرة الأضداد في اللغة .
استكشف هذه المقالة
الأضداد في اللغة والاصطلاح
تعددت التعريفات اللغوية والاصطلاحية للأضداد كمصطلح عاصر جميع الأجيال في جميع اللغات، لكن ما أجمع عليه علماء اللغة أن الأضداد في اللغة هو كل ما يقابل المعنى الأصلي، شريطة ألا يتقاطع معه ولو جزئيا، وعلى هذا أخرجوا المختلفين من حساب الأضداد، وجعلوا المتقابلين في حسبتهم وحسب، فالجهل والقوة مختلفان وليسا بضدين على الرغم من ضعف احتمالية اجتماعهما، وإنما الأضداد في الجهل والعلم، والقوة والضعف، وعلى هذا أكد ابن فارس الرازي أن المتضادين هما الشيئان الذين لا يجتمعان كالليل والنهار، وحملت اللغة ظاهرة مكملة لتلك الظاهرة تسمى بظاهرة الأضداد اللفظية، وهي أن يجتمع معنيان متضادان لا يتقابلان في المعنى مطلقا ولكن في لفظة واحدة، كألفاظ “مولانا التي تعني السيد والخادم، والصريم التي تعني الليل والنهار، والناهل التي تعني العطشان والممتلئ ريا، والصارخ للمغيث والمستغيث.
فطنة اللغويون في صياغة الأضداد
فطن اللغويون الأوائل، قبل أن يكتشفوا الكتابة بمئات السنوات، إلى ما يحتاجون إليه من الأضداد، فقسموها إلى فئات عدة أقلها الحرف وأعلاها الجملة، ولم يغفلوا ما بينهما فشملت الكلمة أيضا، وبدأت الأضداد في اللغة بإلحاق ضمير في نهاية الفعل يدل على الفاعلين المتضادين مثل إضافة تاء الفاعل على الفعل الماضي للدلالة على من قام بالفعل، فإن كانت مضمومة دلت على المتكلم، وإن كانت مفتوحة دلت على المخاطب المذكر، وإن كانت مكسورة دلت على المخاطب المؤنث، أو جعل المضارع يحمل علامات مضارعته في صدره مع الدلالة على التضاد فيمن قام بالفعل، فإن كان الحرف السابق ألفا دل على المتكلم المفرد، وإن كان تاء دل على المخاطب، وإن كان ياء دل على الغائب، أما النون فتدل على المتكلمين الجمع، وقاسوا على ذلك اللفظة والجملة فكانت اللغة بحرا لا ينضب من المعاني والدلالات، وغصت المعاجم بعدد لا نهائي من المفردات ومرادفاتها ومضاداتها، ما جعل اللغة العربية- بشكل خاص- سيدة اللغات بما تذخر به من لغة معجمية وحفاظ على التشكيلات الصرفية والنحوية.
أسباب ابتكار العرب الأوائل لما عرف بظاهرة الأضداد في اللغة
لم يكن ابتكار اللغويين الأوائل لظاهرة الأضداد محض ترف فكري، ولا “فذلكة” أو استعراض للمقدرة على صياغة ما يمكن الاستغناء عنه، أو لبيان القدرة على التعبير عن الشيئين المتناقضين بالكلمة نفسها، ولكن الحاجة إلى التعبير “اللطيف”، واستخدام الذوق عند ذكر أسماء الأشياء الكريهة، والسخيفة، والتي تقلل من شأن المرء، والتي تحدث عند ذكرها لبسا في الفهم، وعدم دقة في الوصول لمدلولها، جعلت الأضداد في اللغة وسيلة العرب الأوائل في التعبير عن كل ذلك وأشباهه؛ ما جعلهم على بداوتهم منبتا للذوق قبل أن يصبح له علم، بل جعل جزءا من أصوله ما أشاعه العرب قبل الإسلام وبعده، ولعل أبرز المواقف الدالة على الأضداد في استخدامات العرب ما حدث مع الحجاج بن يوسف الثقفي حينما التقى شابا في الطريق فدعا له قائلا: “اللهم بيض وجهه وأعل كعبه وأقر عينه” ففهمها الناس أنه يدعو للحجاج، لكن الثقفي فهمها أنه يدعو عليه بالعمى والبرص والصلب على الخشب والموت، فكان خير استخدام للغة؛ هربا من بطش الحجاج الذي اشتهر بالقتل وسفك الدماء.
كيف تحميك الأضداد في اللغة في حياتك اليومية
استخدم الأضداد اللغوية في التعامل مع من تخشى فقده، وترغب في استمرار حبه، وتأسى لو فقدت قربه، وجافاك جنبه، واشتدت من دونه حرارة البعد، استخدم الأضداد مع من تود استمرار العلاقة بينكما إذا خشيت فقده، لذا كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن “الكذب” لا يجوز إلا في ثلاثة مواضع، منها الزوج على زوجته، وإذا كان الكذب مباحا لاستمرار المحبة بين الزوجين، فاستخدام الأضداد أولى، والتورية أنفع، وقديما قيل إن أحدهم تزوج أكثر من واحدة، فلما سئل عن أحبهن لقلبه أعطى لكل واحدة منهن خاتما، وطلب منهن أن لا يخبروا أحدا بأمر الخاتم، ثم اجتمع بهن وقال: إن صاحبة الخاتم هي أحب نسائه لقلبه.
استخدم الأضداد في اللغة مع مديرك في العمل، اسأله عن مدى رضاه عن عملك، لا تُطرب سماعه نفاقا، ولكن استخدم التورية، والألفاظ التي تحمل معان عدة، افعل كما فعل الشاب مع الحجاج عندما سأله: كيف تراني؟ فأجابه: أراك قاسطا عادلا، والعادل هو المائل عن الحق البعيد عنه المجافي له المعتمد على الظلم والبغي، وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا، والقاسطون هم الظالمون المعتدون الذين لا يخشون أحدا ولا يرعون حقوقا، لكنها كلمات من الأضداد تحمل عكس هذه الدلالات، حتى يظن السامع أنها لمدحه والتملق في عدله وورعه، فالعادل تُقال لمن لا يظلم ولمن جعل الظلم دينه وديدنه، والقاسط صفة لمن يجافي كل عدل عن عمد، وصفة لمن طبيعته البعد عن الظلم.
استخدم الأضداد للتعبير عن الأشياء المنفرة، والأمراض التي يُخشى منها، أو من انتشارها، وعادة ما يستخدم الناس ألفاظا أقل حدة في التعبير عن الأمراض الميؤوس من شفائها فيقولون عن المريض المشرف على الموت “مريضٌ قليلا”، ويقولون عمن أُصيب بمرض السرطان “مصابٌ بالمرض الخبيث”، ثم يتبعون كل ذلك بالدعاء الشهير “اللهم احفظنا”، وليست الأضداد في اللغة مفردات تحمل معانٍ عدة وحسب، لكنها دلالات لا يُشترط فيها التقيد بالمعاجم، فإن سألوك عن مريض قد أعياه طول المرض، وجاءت إجابتك: الحمد لله، فقد استخدمت الأضداد خير استخدام، وإن سألوك عن حالك كيف هو؟ وأجبت بالحمد أو بالتورية بقولك: كلٌ له رزق مقسوم، فقد استخدمت الأضداد في حياتك وإن لم ترجع إلى معاجم اللغويين، ولم تطلع على ما اشتهر من قول من سبقك في هذا السياق.
استخدم الأضداد في اللغة مع أصدقاء الأقطار الأخرى؛ لينهلوا من ثقافات شعبك، ومن عادات بلدك، وبهذا تكون خير سفير لبلدك في الداخل والخارج حتى وإن لم تغادر سريرك، وليس أدل على ذلك من انتشار مصطلحات مرتبطة بالأقطار العربية في جميع الأقطار حتى صارت معلما على هذا البلد، فالرجل يطلق عليه الزلمة في السودان؛ حتى أصبحت الزلمة معلما كالخرطوم، ويصف التوانسة الكثرة بقولهم برشا، حتى صار الوصف مرتبطا في أذهان العرب بتونس، فإن قيل لفظ مثل هذا استدل على بلد قائله منه، وبهذا تتبادل الأقطار ثقافاتها وعاداتها وتقاليدها دون عناء.
أضف تعليق