يستطيع الفن أن يحرك بداخلنا نوعًا خاصًا من العواطف هي العواطف الخيالية ، ويمثل ذلك سببًا رئيسيًا في تقديرنا للفن؛ فنحن نتفاعل ونتوحد مع الشخصيات والأبطال في الأعمال الدرامية والسينمائية ونتأثر بعواطف وأحاسيس مثل الخوف والشفقة والغضب، مرتبطة بمصير هؤلاء الشخصيات التي ندرك جيداً أنها شخصيات خيالية لا وجود لها في الواقع ومع ذلك نعتبرها أقرب إلى الحقيقة منها إلى الخيال. بل إننا سنجد الفنون التجريدية التي لا تحتوي على سرد أو قصة درامية كالموسيقى أو الرسم، يثيرون بداخلنا عواطف خيالية معينة أيضًا. ويحاول هذا المقال أن يتناول ويناقش هذا النوع من العواطف الخيالية وما تثيره من مفارقة تقع بين العالم الحقيقي والعالم الخيالي.
استكشف هذه المقالة
مفارقة العواطف الخيالية والبكاء على بطل غير موجود
إن الشخصيات الخيالية عادة ما تحرك بداخلنا عواطف تمثل جزءاً مهمًا من أجل الاستمتاع الذي نجده مرتبطًا بمشاهدتنا لتلك الأعمال التمثيلية والسينمائية. وتتعلق العواطف بأحكام قيمة معقدة عن حالة الشخصيات النفسية. فعندما أجد شخصًا يقود سيارته بطريقة خطرة، فإنني أشعر بالغضب، وكذلك أجد مشاعر شفقة عندما تفقد الأم طفلها وبالتالي سوف تشعر بالألم والحزن، وكل ذلك لا أرضى حدوثه. وبشكل عام فإن هذا النوع من العواطف الخيالية يتكون على اعتبار وجود أشخاص بالفعل، ولا يمكن حدوث حالة الغضب من ذلك السائق إذا كنت أشك في وجود تلك الشخصية الخيالية. وبالرغم من أنني أدرك أن تلك الشخصيات غير موجودة في الحقيقة إلا أنني أنفعل غاضبًا تجاه السائق وأنفعل بالشفقة تجاه الأم التي فقدت طفلها. ومن هذا المنطلق سنكتشف وجود مفارقة العواطف الخيالية ، إذ كيف نفسر بشكل عقلاني ظاهرة البكاء والانفعال على مصير بطل في فيلم أو عمل سينمائي على الرغم من نضج وإدراك المشاهد لتلك الحقيقة؟
إننا نبكي عندما يقابلنا مصيراً مأساويًا لبعض الشخصيات في عمل سينمائي أو مسرحية، وبالرغم من إدراكنا للبعد الخيالي لهؤلاء الأبطال إلا أننا نشعر بعواطف صادقة وننفعل بشكل حقيقي تجاه تلك الأحداث. والسر الأول في ذلك يعود إلى دور الخيال الذي يلعبه، فقديمًا طرد الفيلسوف اليوناني أفلاطون، الشعراء من مدينته الفاضلة التي كتبها، لأنهم لا يقدمون الحقيقة في أعمالهم الفنية وبالتالي لا يمثل عملهم أية معرفة حقيقية. فإلى أي حد يمثل اهتمامنا بتلك الشخصيات و العواطف الخيالية سلوكًا عقلانيًا أم أن ذلك مجرد تعبير عن ذلك الخلط بين العالم الحقيقي وبين دنيا الحالمون الخيالية، كما رأي أفلاطون؟ ويرتبط السر الثاني بالأعمال التجريدية في الفن، الخالية من القصة أو المناظر أو الأبطال، مثل الموسيقى والتي تعتبر نموذجًا لهذا الفن التجريدي؛ فلا تحتوي الموسيقى على قصة أو مضمون من هذا النوع. وبالتالي سوف نتساءل عن تلك العواطف الخيالية التي تحركها فينا الموسيقى.
والحقيقة أننا لا نهتم بمثل هذه الأعمال الفنية بوصفها أعمالاً واقعية وحقيقية، ولكن نهتم بالأبطال الخياليين الذي يتمتعون بالحياة وبالتالي يلتحم الممثل الحقيقي بالبطل الخيالي أمامنا. ويرى بعض الفلاسفة المعاصرين أن هذا السلوك تجاه تلك الشخصيات التي لا توجد إلا في خيالنا، هو سلوك غير مبرر مثلما رأى أفلاطون قديمًا. فهذه العواطف الخيالية التي تخلقها بداخلنا تلك الشخصيات الوهمية ما هي إلا مؤثرات جزئية سريعة تدفعنا للنسيان أثناء مشاهدة العمل الفني.
نظرية التظاهر الرمزي لتفسير العواطف الخيالية
يقدم الفيلسوف الأمريكي “كيندال والتون” حلاً لإشكالية العواطف الخيالية ، فيفترض كيندال وجود استخدام مسبق للخيال أثناء تقييمنا أو مشاهدتنا لأي عمل فني خيالي. فالمشاهد أو المتفرج أثناء مشاهدة الفيلم أو المسرحية يسمح للنفسه بالتخلص المؤقت من بعض معتقداته وبالتالي يستطيع أن يرى في هذا العالم الخيالي الحقيقة كما هي في العالم الواقعي. ويلاحظ كيندال والتون وجود نوع من التشابه بين الحالة الذهنية لكل من الأطفال خلال ممارستهم لألعاب خيالية، والناضجين أثناء مشاهدتهم للأعمال الفنية. فإذا تأملنا طفلين يتظاهران خلال اللعب بأنهما يتصارعان بمسدسات على كنز كبير، فإن هؤلاء الأطفال لا يعتقدون أن العصي التي يمسكونها في الواقع تمثل مسدسات حقيقية ولا قطعة الخشب التي أمامهم تمثل الكنز الذهبي الكبير، إنهم يدركون أن ذلك تمثيل ولكن كأن ذلك التمثيل يمثل حقيقة. فالتظاهر هنا يساعدنا على تفسير العواطف الخيالية ، فعندما نتظاهر فإننا نترك مؤقتًا بعض المعتقدات لكي نستطيع الاندماج في العالم الخيالي والتفاعل مع الموقف الذي نشاهده بعيداً عن دنيا الواقع. إن التظاهر مجرد مقدرة على الإسقاط الخيالي خلال مشاهدتنا للأعمال الفنية. وبالتالي نجد أن الإنسان قد يحتاج إلى اعتناق بعض المعتقدات الزائفة أو المصطنعة بالإضافة إلى المعتقدات الحقيقية في العالم الواقعي. وبالنسبة لألعاب الأطفال التخيلية، فإن عملية التخيل تقوم بتكوين الاعتقاد المصطنع، وبالتالي تصبح قطعة الخشب هي كنز الذهب الكبير. ويؤكد كثيراً من الفلاسفة وعلماء النفس التطوريين على ضرورة توافر المقدرة على اصطناع المعتقدات التي يمتلكها البشر جميعًا.
العواطف الخيالية تأتي من عواطف ومعتقدات مصطنعة
إن الخيال يساهم في قدرتنا على تقبل معتقدات وافتراضات نعلم بالفعل أنها غير صحيحة أو مصطنعة، ويمكننا أن نتنبأ بسلوك كائنات من نفس نوعنا عن طريق استخدام عقولنا. دعنا نتأمل التجربة الشهيرة في علم النفس التطوري والتي تعرف باسم (تجربة المعتقد الزائف)، حيث تقف دمية صغيرة تدعى ماكسي على المسرح ثم تخفي قطعة من الحلوى في الصندوق (س) أمام عدد من الأطفال، وبعد أن تترك المسرح لفترة يتم نقل قطعة الحلوى إلى صندوق آخر على المسرح (ص) خلال غيابها، وعندما تعود يتم طرح سؤال على الأطفال: في أي صندوق تعتقد أن ماكسي سوف تبحث عن الحلوى عندما تعود؟ وقد انقسمت إجابة الأطفال إلى قسمين؛ الأطفال في سن الثالثة أجابوا أنها ستبحث في الصندوق (ص) وهو الصندوق الذي يعلمون هم أنفسهم أن الحلوى مختبئة به، أما الأطفال في سن الخامسة فكانت لديهم قدرة على التنبؤ أن الدمية ماكسي سوف تبحث عن الحلوى في الصندوق (س) الذي وضعت به الحلوى قبل غيابها (وهذا معتقد زائف وغير صحيح، فقد تحركت الحلوى إلى صندوق آخر). إن نظرية العواطف المصطنعة ترى أنه من خلال اصطناع معتقدات الآخرين في مخيلة الشخص، فإن الأطفال تمكنوا من التنبؤ بتصرفهم إذا تم وضعهم مكان الدمية ماكسي، أي الاعتقاد المزيف غير الصحيح.
وانطلاقًا من ذلك فإن العواطف الخيالية التي نستشعرها أثناء مشاهدتنا لعمل فني خيالي غير حقيقي، هي أيضًا عواطف مصطنعة كما يرى كيندال والتون. وتؤكد النظريات المعرفية للعواطف على أهمية تلك الحالات الذهنية التي تمثل درجة عالية من الإدراك لدى الأشخاص الذين يجربونها. فتحتاج بالطبع إلى وجود تفاعلات جسمانية يمكن قياسها لكي يتكون عند عاطفة ما، ولكن ذلك يعني أيضًا أن يتوجه ذهنك إلى موضوع ما وتقوم بالحكم عليه. فوالتون عندما أكد على دور العمليات المعرفية في العواطف، فإنه قد رأي في الخوف الذي نعايشه أثناء مشاهدتنا لأفلام الرعب لا يمثل عاطفة حقيقية وإنما عاطفة مصطنعة. ولكننا بالرغم من تقبلنا لنظرية العواطف المصطنعة، فإن ذلك لا يمنع رؤيتنا إلى العواطف الخيالية التي يتم معايشتها في الأعمال الفنية بوصفها عواطف حقيقية.
العواطف الخيالية بوصفها تخطيطًا للأعمال المستقبلية
عندما نفهم الدور الإدراكي الذي تتخذه العواطف في تلك المحاكاة الذهنية، فقد نجد طريقة من أجل حل إشكالية أو مفارقة العواطف الخيالية . فإذا تأملنا في كتاب (خطأ ديكارت) لعالم الأعصاب الأمريكي “أنطونيو داماسيو”، سنجده يقوم بتحليل بعض المرضى الذين تمت إصابتهم بخلل كبير في الأجزاء الأمامية من المخ. لكنهم كانوا يستطيعون فهم المعلومات الحقيقية والتفكير بشكل عقلاني، وفي المقابل كانوا فاشلين في التعامل العاطفي اللائق في مختلف المواقف. لقد تأثرت وظيفة العواطف لديهم فاتسمت أفعالهم وقراراتهم بعدم النضج، وهذا يؤكد الأهمية الكبيرة للعواطف في التفكير والسلوك العملي واتخاذ القرارات. ويرتبط هذا الأمر بالأعمال الفنية الخيالية والمحاكاة الذهنية؛ فعندما يسعى الإنسان إلى تحقيق هدف من أهدافه في الحياة، فإنه ينبغي عليه أن يقوم بالتخطيط الجيد للوصول إلى هذا الهدف، وعملية التخطيط شبيهة بالتخيل إلى حد كبير، وتتطلب شيئًا من الإسقاط المتخيل. فتخيل أنك مقدم على الزواج في المستقبل، فإنك تحتاج إلى نوع من التخيل لخطواتك وأهدافك التي تريد أن تحققها في صورة إنجاز الخطوة س ثم الخطوة ص، لكي تتمكن من إتمام هذا الزواج. ويشير أنطونيو داماسيو في دراساته إلى الوظيفة المهمة التي تقوم بها العواطف في عملية المحاكاة الذهنية. فتلك العواطف الخيالية قد تزودنا بالبدائل والاختيارات الأخرى المتاحة التي نتخيلها أثناء التفكير وصنع القرار، حيث يقع اختيارنا على أحد البدائل دون غيره عندما نجد العواطف التي يحركها بداخلنا إيجابية وسعيدة، وعلى العكس نبتعد عن الاختيارات الأخرى التي تحرك عواطف سلبية بداخلنا.
الحقيقة أن تفاعلنا واندماجنا بشكل عاطفي مع الأعمال الفنية الخيالية لا يمثل سلوكًا أو تصرفًا غير منطقي أو معقول، بل إن الأمر يوازي مقدرتنا على التخطيط للأحداث المستقبلية في حياتنا وبالتالي نقوم بصنع قراراتنا وفقًا لعملية تخيل الخيارات والمواقف المحتلمة وذلك من خلال محاكاة ذهنية للواقع. وبناء على ذلك فإن قيمة الأعمال الفنية و العواطف الخيالية يكمن في أنها تدفعنا للتعرف على ذواتنا بشكل جيد؛ إنها تعطينا دروسًا في كيفية مواجهة تلك المواقف التي لم تحدث معنا في الواقع، ومن ثمّ نتمكن من تحديد اختياراتنا المناسبة وفهم دوافعنا ورغباتنا الكامنة بداخلنا دون أن ندري عنها شئ. إن العواطف كما قدمتها دراسات أنطونيو داماسيو، تقترب كثيراً إلى عملية الإدراك وليست أحكامًا، فعندما يحرك فينا حدث معين إحساسًا بالحزن فإننا ندركه كشئ سيء حدث لنا، هذا على الرغم من تعقد بعض العواطف مثل الإحباط والكراهية وبالتالي تكون مرتبطة بصياغة أحكام مركبة ونظرية. وهناك العديد من العواطف تبتعد عن أي تصنيف أو حكم، كما هو الحال في الموسيقى بوصفها فنًا تجريديًا لا يحكي قصة أو مضمون سردي معين.
العواطف الخيالية الناتجة من التأثر بأصوات الموسيقى
يرى فيلسوف الفن الأمريكي “نويل كارول” أن العواطف الأساسية تكون تكون متواجدة إلى جانب الحالة المزاجية العامة، أثناء تذوقنا للجمال الفني الذي تثيره فينا مقطوعة موسيقية، حيث يقع اختيارنا على مقطوعة موسيقية معينة لنستمع إليها من أجل ملاءمتها للحالة المزاجية التي نكون عليها في هذا الوقت أو ذلك. ومن الأمور التي ندركها الآن أن الموسيقى تتمتع بسمات موضوعية محددة تستطيع أن تحرك بداخلنا عواطف ومشاعر معينة إذا استمعنا إليها؛ فتزداد ضربات القلب مثلاً عندما نستمع إلى موسيقى بها إيقاع سريع، وقد نشعر بعدم الارتياح والضيق عندما نستمع لموسيقى تحتوي أنغامًا متنافرة. والحقيقة أن الأمر متبادل، فليست الموسيقى فقط هي التي تثير بداخلنا تلك العواطف الخيالية ، بل إن تلك العواطف أيضًا تساهم في تقييمنا وتفضيلنا لمقطوعة موسيقية معينة. فيرى عالم الجمال الأمريكي “جيرولد ليفنسون” أننا نعتمد على مقطوعة موسيقية معينة في التعبير عن عواطف معينة خاصة وخيالية لدينا، وهذا يظهر بشكل واضح في الأعمال الموسيقية التمثيلية مثل فن الأوبرا أو المسرح الغنائي أو حتى الموسيقى التصويرية في الأفلام أو الأغاني. إن عظمة الموسيقى التي نستشعرها بداخلنا تكمن في قدرتها على خلق تلك العواطف الخيالية في أعماقنا والتي ننسبها عن طريق الخيال إلى أبطال وشخصيات خيالية أو حتى حقيقية.
خاتمة
لقد رأينا كيف يخلق الفن بداخلنا تلك العواطف الخيالية والتي قد نعتبرها عواطف حقيقية بالفعل وهذا هو ما يمثل مفارقة أو إشكالية تحتاج إلى حل. وقد عرضنا لبعض الحلول والمناقشات من أجل تفسير هذا النوع من العواطف؛ سواء كان من خلال اعتبارها نوعًا من التظاهر، أو معتقدات وعواطف مصطنعة أو لها وظيفة تخطيطية للمستقبل، أو حتى امتلاكها لقيمة جمالية خاصة بالاستمتاع الجمال الفني. كل هذا لا يمنع من أن تفسير مفارقة العواطف الخيالية مازال قيد الدراسة والبحث فمع تطور العلوم السلوكية والعصبية سوف يتضح أمامنا مزيد من التفسيرات المقبولة مع الوقت.
أضف تعليق