تعدد الزوجات واحد من الموضوعات ذات الأثر المُربِك والمثير للقلاقل لما يتضمنه من تساؤلات منطقية توجَّه إلى صريح النص الديني. ومن الناس من يتجاهل مثل هذا السؤال استنكارا واستنكافا أن يُساءل النص أو يُحام حوله شيء من الشبهات. ومنهم من يريد أن يعرف الجديد من أمر الفُتيا لإمام من المجددين الذين لا يُشق لهم غبار. ومنهم أيضا من يريد أن يعرف ما هو معروف وشائع وسائد لدى فكر السواد فلا يعدو سؤالهم سوى نوع من تحصيل الحاصل وإرضاء شعور الثقة لديهم فيما يألفون وما يعرفون وما إليه يطمئنون وما يرضي بعضا من حاجاتهم وأغراضهم وغرائزهم التي يعززها صريح النص الديني. ولهذا الصنف الأخير لا نكتب، كما لا نكتب أيضا للصنف الأول الذي يلقانا لايّا وجهه مشيحا بيده باعتبارنا قد انسلخنا من الدين إذا نتساءل عن موضوع ورد فيه نص صريح؛ فالصنف الأول دعه يتيه بالحق والحقيقة اللذان يظن نفسه قابضا عليهما بملء يديه، والصنف الأخير دعه لمحركات البحث على الإنترنت ترسله إلى ركام من الكلام المألوف والمعروف لتزيده إمعانا في الطمأنينة والثقة والتيه. وإنا إذ نكتب في تعدد الزوجات فإننا نكتب لذلك الصنف من الناس الذين لا يرضون بالطرق المطروقة ولا بالكلام المستهلك، وإنما هم يريدون رأيًا للأمور من زوايا أخرى غير تلك التي اعتيد أن يُنظر منها. كما نكتب لأولئك الذين قد فطنوا إلى أن الله قد منحنا عقلا وأرادنا أن نستخدمه فنحسن استخدامه بحيث يؤدي بنا إلى ما ينفعنا، وأنه لم يمنحه إيانا ثم يطلب منا أن نخالف عنه أو نشب عن طوق المنطق الذي هو عماد هذا العقل.
استكشف هذه المقالة
تعدد الزوجات من الزاوية الاجتماعية
جميعنا يعرف ما للبعد الديني من طغيان بالغ على النظرة الاجتماعية في المجتمعات الشرقية؛ لذلك فإن النظرة الاجتماعية لمسألة تعدد الزوجات خاضعة من دون شك إلى صريح النص الديني دونما شيء من تعقل أو روية. وعلى الرغم من ذلك، فثمة شيء من تناقض أو فصام أو ازدواجية في المعايير وإصدار الأحكام تصيب هذه المجتمعات في نظرتها هذه إلى قضية تعدد الزوجات كما تصيبها في الكثير والكثير من القضايا الأخرى. فعلى الرغم من دفاعهم المستميت عن صريح النص واستمساكهم بحرفيته، إلا أنهم إذا رؤوا رجلا يزيد عن واحدة أو اثنتين فإنهم يضمرون له شيئا من النبذ والاحتقار والنعت بالنقص والوضاعة! وقد ترى المرأة حين تُحدَّث في أمر تعدد الزوجات تراها مذعنة لحكم الله بالتعدد في صريح الآيات، وإذا ما طُلِب إليها أن ترضخ لقضاء الله وحكم النص إذا ما أراد زوجها أن يأتيها بدُرة_ تراها كأن لم يكن بينها وبين صريح النص سبب، وإذا بها تتخذ سبلا ملتوية في التفسير والتأويل تحفظ لها دينها كما تحفظ عليها استئثارها بزوجها، فلا تفرط في الزوج ولا في الدين!
تعدد الزوجات من الزاوية القانونية
في العادة لا يستطيع أن يشب القانون عن الإطار الثقافي والديني الذي نبع منه، فما لم يكن ثمة قانون يمنع من تعدد الزوجات، فالطبيعي أن يسمح للرجل بالتزوج من امرأة إلى أربع نساء طالما أباح له الشرع الإسلامي ذلك. هذا فضلا عن أن تكون الدولة قد اعتمدت _بنص دستوري_ الشريعة الإسلامية مصدرا رئيسا للتشريع، فهذا مما يؤيد ويعضض فكرة تعدد الزوجات فضلا عن النص الديني. فليس من شأن القانون أن يأمر بفعل، وإنما من شأنه أن ينهى عن فعل؛ فليس يعقل أن يأمر القانون بأن يتزوج الرجل بامرأة أو اثنتين أو أربع، وإنما من شأنه أن يمنعه من أن يتزوج بأكثر من واحدة أو أكثر من أربع. وإذن، فما دام تعدد الزوجات ليس له ورود بالمنع في القانون أو في العرف أو في الشريعة، فهو مباح من الناحية القانونية في هذه الدولة التي ليس في قوانينها ما يمنع هذا التعدد.
تعدد الزوجات من الزاوية الدينية
يعلم القاصي منّا والداني ما للدين من رأي في مسألة تعدد الزوجات، وهذا هو الظاهر. غير أن ثمة عدد من علماء الدين المجددين من أمثال الأستاذ الإمام “محمد عبده”، قد اتخذ منحى آخر في تناول مسألة تعدد الزوجات، وهو اعتبار أن هذا التشريع بالتعدد إنما هو محدد بضوابط لا ينبغي تجاوزها، وإلا عُدَّ التعدد في هذه الحال لونا من فساد الأخلاق واختلال في الحواس وشره في طلب اللذائذ، كما وأن هذا التعدد الفوضوي إنما يتذرع بالشرع لقضاء شهوة بهيمية فيسرع _إذا ما ابتغى تعددا_ في قراءة الآية الكريمة: “وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ”، ثم لا يطيق صبرا على إتمامها إلى آخرها: “فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً”. كما إن هم قرأوا هذه الآية فهم يغفلون الآية الكريمة من ذات السورة: “وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ”.
وهكذا يضع محمد عبده حدودا للتعدد تتمثل في كون الزوجة عاقرا لا تلد، أو أنها أصابها علة تحيل بينها وبين معاشرة زوجها، أو أمر من الأمور الواضحة القاطعة التي تقف حجر عثرة في سبيل حياة الرجل مع زوجته، وهو “محمد عبده” وإن أعطى للرجل حق التعدد في هذه الحالات فقط، فهو أعطى للمرأة حق الموافقة على الإتيان لها بضرة، أو الرفض ومن ثم الطلاق. وهكذا أيضا فإننا نرى الأستاذ الإمام قد عالج المسألة علاجا جزئيا لا يختلف من حيث المبدأ مع مسألة التعدد، وإنما هي الأزمة لديه في الإجراء وليس في الأساس والمبدأ.
فبالرغم من أنه مجدد عظيم ومصلح جريء إلا أنه في النهاية رجل دين لا يستطيع أن يناقش النص ويتحاور معه حوارا منطقيا. ذلك لنظرة سادت منذ اعتلاء المذهب الأشعري عرش الثقافة العربية الإسلامية، وهي أن النقل فوق العقل، ومن ثم يكون عبثا أن يوضع النص في حوار مع العقل، لا لتفنيده كما يمكن أن يظن للوهلة الأولى، وإنما لتسيقه… لوضعه موضعه الصحيح من سياقة الذي لا يتجاوزه.
ما وراء الشرع والقانون
إننا إذا ما عرفنا أن الشرع والقانون مصطلحان مختلفان لذات المضمون، فالاختلاف يتأتى فقط من أن الشرع هو تنزيل سماوي بينما القانون هو صعود من الواقع الاجتماعي. بيد أنهما يتفقان في أن كلاهما جُعل لضبط العلاقات بين الناس. وبما أننا نتحدث عن علاقات بين جماعة من بني الإنسان، فإننا بالضرورة نبني هذه العلاقة على تصورات يحملها العقل الجمعي لجماعة ما عن هذا الإنسان… عن الرجل ومكانته، والمرأة ومكانتها، والعبد والأمة… إلخ. وفي الثقافة العربية -وفي الكثير من الثقافات الأخرى عبر الجغرافيا والتاريخ- حيث المرأة تحتل مكانا دون الرجل، فليس مما يجافي العدل أن يكون للرجل حظ الأنثيين في الميراث وحظ أربع في الزواج. هي طبيعة التصورات التي لا يستطيع القانون ولا الشرع أن يخالف عنها، وإلا لوجد في سبيل تطبيقه ما لا ينتهي من العقبات.
وهكذا يأتي الشرع مخاطبا ثقافة ما، وهي وحدها ملزمة به نظرا لأنه يلبي حاجاتها هي، وكذلك فلا يتنزل الشرع إلا لجماعة من الناس حظهم من الحضارة ضئيل بحيث لا يستطيعوا أن يسنوا لأنفسهم من الشرائع ما يعالج مشاكلهم. أما مبادئ الدين العليا ومقاصده، فهذا ما يمكن أن نقول عليه: صالح لكل زمان ومكان.
أضف تعليق