نهاية العالم سؤال ألح على أذهان العديد من الثقافات ليظهر متبلورا واضحا فيها، وفي بعض الثقافات الأخرى لم يلح هذا السؤال ومن ثم لم يكن له جوابا. فقد سيطرت على الإنسان قديما عدة تساؤلات حول النشأة والمصير والغاية الوجودية والأخلاقية… إلخ. غير أن السؤال عن نهاية العالم كيف ستكون يمكن أن يوضع تحت بند سؤال المصير، إلا أن العديد من الحضارات لم تسأل هذا السؤال، وإنما اكتفت بالمصير الفردي للإنسان الفرد وحسب، وليس بالمصير الجماعي للبشرية. وبعضها الآخر اهتم بالمصير الجماعي للبشرية دونما حديث عن فناء وقيام، وإنما عالم مثالي تنتهي إليه جميع المساعي الإنسانية إلى الحياة المثلى التي لا يُشتكى فيها جوع ولا عراء ولا جور… وكأنه حديث عن فردوس، ولكنه فردوس أرضي دنيوي لا فردوس سماوي أخروي. ولتتضح صورة نهاية العالم لدى الثقافات المختلفة سنورد فيما يلي عرضا لأهم التصورات التي تخيلتها أهم الحضارات عن نهاية العالم سواء كانت صورة واضحة أو غائمة.
كيف ثرى الثقافات المختلفة نظرية نهاية العالم ؟
صورة نهاية العالم في الحضارة المصرية القديمة
شُغِل المصريون القدماء بسؤال المصير كما شُغلوا بسؤال النشأة والوجود، غير أن انشغالهم هذا كان مرده الخوف من الفناء الذي يرونه يشمل كل شيء من حولهم. فهم يرون النيل مفعما بالنشاط والقوة والفيضان ثم ينتهي إلى النضوب والجفاف، وهم يرون أيضا الشمس تطلع بازغة لتأفل آخر اليوم وتستقر تحت الأرض. وكذلك يجري الأمر على جميع أنواع الحياة والأحياء، فهم يرون أن كل حيّ مآله الفناء… ولكم أتعب هذا الشعور المصريين القدماء كما أتعب غيرهم من أبناء الجنس البشري! فالمصري القديم يرى أنه قد استطاع السيطرة على الكثير من مظاهر الطبيعة، مثل السيطرة على مسار نهر النيل الذي كان ينساح في بِرَكٍ لا حدود لها دونما مسار محدد، وكذلك السيطرة على الزراعة ومواعيد البَذْر والري والحصاد، ألا يستطيعون السيطرة كذلك على أهم ما يلح على الوجدان الإنسان آنذاك.. الفناء؟ وهم من أجل ذلك ابتكروا أنسياقا من العقائد تحفها ألوانا من الطقوس والممارسات ليس التحنيط سوى واحدا منها. وكانت المعتقدات حينها تدور حول أن مصير الإنسان بعد الموت هو كمصير الشمس بعد الغروب… الاستعداد لحياة وإشراق جديد. وقد تصوروا جملة من التساؤلات تنتظرهم من الآلهة إذا ما ووروا التراب، وقد أعدوا لهذه التساؤلات الإجابات التي ترضي هذه الآلهة، ومضمون هذه الأسئلة المنتظرة مضمونا أخلاقيا يتناول قضايا من مثل تلوث مياه النهر وتحري الصدق والعمل بالإتقان والحكم بالعدل إذا ما كان الميت ملكا أو قاضيا. وهكذا فنحن نرى سيطرة الطابع الفردي على سؤال المصير المتضمن نهاية العالم وليس الطابع الجماعي كما هو حاضر في الذهن العربي ذو التراث الإسلامي. أما الطابع الجمعي لسؤال المصير فليس له من النصوص القديمة المنقوشة ما يدعمه أو يقول فيه شيئا شافيا.
صورة نهاية العالم في حضارة بلاد الرافدين القديمة
لقد شهدت بلاد الرافدين قديما (العراق حديثا) قيام ثلاث حضارات مهمة في تاريخ الإنسانية، وهم الحضارة السومرية والحضارة البابلية والحضارة الأشورية. وكانت الحضارة السومرية هي أقدم هذه الحضارات الثلاث، ومن ثم كانت لها الأسبقية في نسج المعتقدات الدينية المتعلقة بالأسئلة سالفة الذكر، ومن ثم توريثها للحضارتين اللاحقتين عليها دونما تعديلات جوهرية في هذه المعتقدات. لكن وعلى غير غرار ما يذهب إليه المنطق الإنساني الذي أفضى بكل المعتقدات والأساطير بأن تضع لكل إنسان موقعه المناسب من العالم الآخر، بحيث يكون للصالح مكان في عليين بجوار الآلهة، وللطالح مكان في أسفل سافلين بجوار الشياطين والمردة، لم تذهب معتقدات بلاد بين النهرين ذات المذهب، وإنما جعلت للصالح والطالح للعبقري والمذنب ذات المآل والمستقر… جميعهم ينتهي بهم الحال بعد الموت إلى مكان مظلم يغمره الصقيع في جوف الأرض حيث هو تقييد وعقاب لجميع الموتى. فهم ترتجف أجسادهم، وإذا ما قصر الأبناء في تقديم الموائد لموتاهم في مواسم محددة فلسوف يعاني هؤلاء الموتى من الجوع بجانب ما يعانونه من بؤس وقهر في هذا المكان.
مما قيل في معتقدات بلاد بين النهرين، فإن الحديث عن نهاية العالم نهاية جمعية غير وارد، وإنما كل ما هنالك هو حديث عن نهاية فردية ومصير قاسٍ ينتظر كل من يذهب إلى العالم الآخر دونما أمل في حياة أخرى ناعمة غير هذه الحياة الدنيا.
صورة نهاية العالم في الحضارة الفارسية
إن أحداث نهاية العالم كما تصورتها الحضارة الفارسية القديمة تختلف نوعا ما عن باقي تصورات الحضارات الشرقية القديمة، ونحن إذ نتحدث عن تصورات الحضارة الفارسية عن نهاية العالم فإننا نتحدث بالأخص عن المعتقدات الزرادشتية التي قال بها الحكيم “زرادشت”؛ لأنها هي التصورات الأوضح لدينا والتي خلّفت لنا من واضح النصوص ما يتيح الحديث عنها بجلاء. وتنطلق التصورات الزرادشتية عن نهاية العالم من تصوراتها عن طبيعة العالم الثنائية، إذ يتقاسم حركة العالم والتاريخ قوتين متضادتين في الاتجاه متنازعتين في الغرض: قوى النور وقوى الظلام… قوى الخير وقوى الشر. والمسؤول عن الخير وفق العقيدة الزرادشتية هو الإله “أهورامزدا”، بينما المسؤول عن الشر هو “أهرمان” الذي خلقه أهرمزدا لحكمة لا يعلمها إلا هو. وإذ يتصارع الخير والشر فإن صراعهما لن يستمر إلى الأبد، وإن بدا أن الشر ينتصر في كثير من الأحيان، فإن النهاية تحسم للخير آخر الأمر، وتكون نهاية العالم بأن ينتصر الخير على الشر ويسود هذا الخير ليعم الخير والعدل والسلام والصدق والمحبة أرجاء العالم وتعيش البشرية في هذا الفردوس الأرضي ناعمة إلى آخر الدهر، حيث العصر الذهبي الذي بشر به الحكيم زرادشت، والذي من أجله سيبعث زرادشت من جديد ليشهد ويشارك ويقود هذا التحول المفضي إلى قهر الخير للشر في هذا العالم. ونحن نلحظ هنا أن نهاية العالم في هذا التصور إنما تعني نهاية العالم الذي يحوي الشر بداخله، أي هذه الصورة من العالم، لكن ليس فناء تام لكل الوجود والموجودات بما فيها الخير والشر… إنما هو تطهير الخير وفناء الشر من هذا العالم لتشرق الشمس يوما على عالم جديد يحفه الحق والخير والجمال.
صورة نهاية العالم في الحضارة الهندية
الحق أن الحضارة الهندية امتازت من بين حضارات الشرق جميعا بميزة ما يمكن تسميته: اللافناء؛ ذلك أن تصورات الهند لم تتضمن نهاية العالم بشكل جمعي فحسب ضمن سؤال المصير، وإنما هي أيضا زادت على باقي حضارات الشرق أنها اعتبرت حياة الإنسان الفرد إنما هي حالة من حالات لا حصر لها من الحيوات المختلفة في دورة لا تنتهي من التناسخ. ذلك أن الإنسان بما هو عليه من وضع اجتماعي واقتصادي ومكانة بين الناس إنما هو نتيجة أعمال حيوات سابقة؛ فوفق قانون الكارما الذي يزن أعمال الإنسان، فإن محصلة الأفعال النهائية للإنسان تؤدي به إلى دورة حياة جديدة في وضع اجتماعي واقتصادي يليق بهذه المحصلة. فالإنسان يندرج في الطبقة الاجتماعية التي تناسب ما أتى به من الأفعال الخيرة والشريرة في الحياة السابقة، فإذا ما تطهر بشكل كامل من الآثام وبلغ حظا عظيما من النقاء، ارتقى على قانون الكارما وخرج عن دورة التناسخ التي تؤدي به إلى ألوان الآلام والمعاناة في الحيوات المختلفة، ومن ثم فهو يتحد مع الإله الأعلى… البراهمان. وإذا ما بلغ من الإثم والعدوان حظا عظيما انحط في دوراته القادمة عن مصاف الإنسانية ليمسخ حيوانا أو حشرة. وهكذا تنوعت الإجابة عن سؤال المصير في الهند بشكل فردي أيضا دونما حديث عن نهاية العالم بشكل جماعي. اللهم إلا حديثا غائما هناك عن تصورات تشي بأن الكون بأكمله يدخل في دورات من النشوء والفناء الذي يعقبه نشوء آخر _كما الإنسان حسب تصوراتهم_ ولكن في مدار زمني كبير جدا ولكنه غير معلوم.
صورة نهاية العالم في الحضارة الصينية
في الحقيقة يعتبر الفكر الصيني القديم _الذي أفضى إلى الحديث_ فكرا عمليا بامتياز؛ فقد غاب عنه الطابع الميتافيزيقي الذي صبغ الفكر القديم عامة والفكر الشرقي بشكل خاص. وبما أن سؤال المصير المتضمن لأحداث نهاية العالم هو سؤال ميتافيزيقي، فقد غاب عن الفكر الصيني القديم. وبالرغم من ظهور بعض المزاعم في فترات الانحطاط في تاريخ الصين، والتي تقول بعالم آخر، وكانت هذه المزاعم تخرج من قصر السلطة لأغراض سياسية ليس إلا، وما إن أخذ الناس في التصديق إلا وخرج فيهم حكماء مصلحون من أمثال كونفوشيوس في القرن السادس قبل الميلاد لينبئهم بأن سؤال النشأة والمصير غير ذات أهمية، وأن كل ما هنالك أن يتحلى الإنسان بالفضائل الأخلاقية التي تعتليها فضيلة الإنسانية، ثم يرحل ويموت في سلام. وإذا كان ثمة خلود فإنه خلود الذكرى في هذا العالم وليس في عوالم أخرى لا نعرف عنها شيء. وكما هو واضح أيضا، فإن نهاية العالم لو يكن له تصورا في الصين، ليس ذلك فحسب، وإنما أيضا ليس ثمة حديث عن ما بعد الموت ولو على المستوى الفردي؛ فقد سيطر على الفكر الصيني الاعتقاد بانتفاء أي عالم آخر سوى هذا العالم الذي نحيا فيه… فهو أفضل العوالم الممكنة.
صورة نهاية العالم لدى المعتقدات الرسالية الثلاث
نقصد بالديانات الرسالية تلك الديانات التي يؤكد معتنقوها أنها تنزلت من خلال رسائل من خالق هذا الكون، ونحن نذهب في هذا المصطلح مذهب د. يوسف زيدان؛ ذلك لأن مصطلح ديانات سماوية به من فوادح الأغلاط ما لا نود الوقوع فيه، ولا يسمح لنا السياق بشرح وتفسير هذه الأغلاط. ونحن إذ نتحدث عن هذه الديانات الرسالية (المسماة أحيانا بالديانات الإبراهيمية) فإننا نقصد اليهودية والمسيحية والإسلام.
بعيدا عن التفاصيل الكثيرة التي يستطيع القارئ الكريم العثور عليها بسهولة إذا ما استعان بمحركات البحث على الإنترنت، فإننا نود اختصار مضمون هذه الأحداث التي تراها المعتقدات الثلاث أنها نهاية العالم. ذلك أنك ستجد الكثير والكثير من التفاصيل في كل معتقد على حدا، ويكفيك لتصاب بالدهشة حينا وبالملالة أحيانا كثيرة أن تقرأ ما يسوقه حاخامات اليهود من عمليات مستمرة من الربط بين أسفارهم المقدسة وأحداث عالمية تقع من مثل زلازل وأعاصير وتولي باراك أوباما لرئاسة أمريكا… إلخ. ونحن إجمالا لكل ذلك وتخفيفا عن كاهل القارئ الكريم، نختصر أحداث نهاية العالم لدى هذه المعتقدات بأن جميها يتفق على أن خرابا وحروبا ستعم العالم، وجميعها يتفق أيضا على أحداث خارقة للطبيعة ستقع إيذانا بنهاية العالم، وجميعها يتفق على خروج المسيح الدجال أو المسيح الدجال، وجميعها يتفق على نزول المسيح عيسى ابن مريم، وجميعها يتفق في رؤية نفسه مع الفرقة الناجية ومع المسيح ضد المسيح الدجال وضد يأجوج ومأجوج، وباقي الفرق هي التي تكون مع المسيح الدجال وهي التي سينال يأجوج ومأجوج منها. ثم جميعها يتفق بعد ذلك في رؤية نفسه وقد انتصر واستأثر بالهيمنة والسيادة على العالم لفترة زمنية تروي ظمأ عقود وقرون من الشعور بالضعف والضعة. أما عن يوم القيامة الذي يعني فناءً تاما وبعثا للجميع، فقد قال به الإسلام فقط من بين الديانات الثلاث، وقالت اليهودية بأن يوم القيامة هو ذاته نهاية العالم والتاريخ الذي يؤول فيه المجد والسيادة لهم، ولكنها لم تقل بفناء وبعث للجميع. ولم تقل المسيحية بهذا يوم، كما لم تقل بفناء تام للبشرية، وإنما القيامة هي قيامة كل فرد يبعث روحا وجسدا على حدا (وليس كما يشاع بأن بعث المسيحية روحا فقط، وإنما يكون الجسد روحاني الطابع لتلائم حياة السماء)، ليحاسب ويثاب بالقرب من الله إذا كان من المحسنين، ويعاقب بالبعد عنه إذا كان من المذنبين.
نهاية العالم .. الصورة العلمية الحديثة
تتوزع الصورة العلمية الحديثة التي تتناول نهاية العالم إلى عدة صور، نختص منها الصورة الإيكولوجية (البيئية)، والصورة الكزمولوجية (الكونية).
صورة نهاية العالم الإيكولوجية
تعددت الرؤى البيئية المستقبلية المتشائمة حول الأرض ومآلها الحتمي نحو الخراب، والذي يشكل الإنسان الحظ الأعظم من أسبابه. فبسبب الثورة الصناعية التي قضت على نحو نصف غابات العالم، فالأرض عرضة لارتفاع حرارتها باستمرار نتيجة لانخفاض مستويات الأكسجين وارتفاع في مستويات ثاني أكسيد الكربون الذي تلفظه المصانع والآلات من جهة، ومن جهة أخرى فهي وبسبب تآكل طبقة الأوزون معرضة لكميات كبيرة من الأشعة فوق البنفسجية التي يحمينا الأوزون منها. كذلك فإن ارتفاع حرارة الأرض يؤدي إلى ذوبان الجليد في القطبين وارتفاع منسوب المياه الذي بدوره يعمل على تآكل حدود اليابسة من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن هذا التغير المناخي الحاد من شأنه ما نشهده من أعاصير وعواصف مدمرة… غير أن ما نشهده بطيء الإيقاع والتتابع بالنسبة إلى ما سيأتي في قادم السنيين. لكن الإيكولوجيون يتوقعون ما هو أسوء، إذ أن هذه التغيرات المناخية الضخمة من شأنها إعادة تشكيل مناخات الأرض من جديد بحيث تتعذر الزراعة في أغلب الأراضي الزراعية في العالم أجمع، مما يعني مجاعات تغزو أغلب مناطق العالم… وهذا غيض من فيض ما يتنبأ به الإيكولوجيون.
صورة نهاية العالم الكوزمولوجية
على أضيق النطاقات الكونية، فإن الأرض معرضة بعد نحو خمس مليارات سنة لأن تبتلعها الشمس، نظرا لأن الشمس في مراحلها الأخيرة من عمرها ستتحول إلى عملاق أحمر سيتمدد لأبعد من المريخ، مما يعني ابتلاعه للأرض في طريقه، ومن ثم ستنمحي سيرة هذه الحياة بسجلها الحافل على سطح الأرض وما وصلت إليه من قمة الرقي في صورة الإنسان، وما وصل إليه هذا الإنسان من قمة الرقي بإنشائه الحضارة… كل هذا سيمحى وكأن لم يكن!
هذا على النطاق الفلكي، ولكن على نطاق كوني أوسع، فإن الكون كله _في أرجح الرؤى والنظريات التي يتبناه العلماء_ مآله إلى الموت الحرار بما هو عليه من حالة تمدد وتباعد بين أجزائه. ذلك أن هذا التمدد هو تمدد في الفراغ، في كل شيء، حتى داخل الذرة والجزيئات. فبعد تريليونات التريليونات من السنين (مع العلم أن الكون إلى الآن يبلغ عمره نحو 14 مليار سنة) سيتحول الكون إلى غشاء رقيق بارد ومظلم… وبعد أن تفقد كل أجزاء الكون القدرة على التماسك، وتفقد حتى الذرة أن تمسك بأجزائها، يحدث ما يسميه العلماء بالتمزق العظيم… الانتهاء. قد ينتهي كل شيء عند هذا الحد، وقد تبدأ نشأة أخرى… وقصة أخرى تُروى.
أضف تعليق