فقدان البصر هو من أسوء ما قد يفقد الإنسان، لأن الأعين هي نور الإنسان بالحق، ومنها يعرف الإنسان الوجود من حوله، ولذلك لو كانت هناك طريقة من أجل إعادة البصر سيكون ذلك بمثابة أعظم ما قد يحدث للأعمى. فالحوادث كثرت والعيوب الخلقية أيضاً كثرت، وطالما كان الإنسان القديم يفسر فقدان البصر بالعقاب الإلهي الصعب. أما العلم كعادته فلن يقف صامتاً، لأنه موجود من أجل إصلاح حياة الإنسان، والتغلب على كل المصاعب. حتى وإن كان التحدي هو القدرة على إعادة البصر. فيوماً ما كان التغلب على السرطان فكرة خرافية ومستحيلة، واليوم الطب يمتلك طرق كثيرة لمحاربة السرطان والتغلب عليه. وفي هذا المقال ستتعرف على ما يعمله الطب الحديث من أجل إعادة البصر للأعمى.
أحدث أساليب إعادة البصر إلى فاقديه
أسباب العمى وعلاجه
من أجل إعادة البصر فلابد أن يعرف الطبيب ما هو سبب فقدان البصر من الأساس. لأن عملية الرؤية هي عملية معقدة جداً ومتشعبة، وتعتمد على الدماغ والوصلات العصبية وعضو العين نفسه. ويمكن أن يكون الجزء المتضرر هو واحد منهم أو أكثر، أو مجرد جزء صغير يجعل الرؤية مستحيلة. وهذه القائمة هي لبعض الأمراض التي تمكن العلم من إعادة البصر للمريض بعد علاجها.
الضرر بالشبكة العينية
قد تكون مشكلة فقدان البصر قادمة من ضرر بالشبكة العينية نفسها. على سبيل المثال، الإصابة بمرض macula degeneration. لو كان ذلك هو التشخيص الصحيح، إذاً سيكون العلاج متوفر. حيث يجري الأطباء تبديل للشبكة العينية المتضررة، بأخرى إلكترونية سليمة. هذا الاستشعار الإلكتروني يعمل مثل الكاميرا تماماً. ويتم زرعه في الشبكة العينية ليعمل على تحويل الضوء الواقع على العين إلى إشارات كهربائية. ومن ثم ترسل الإشارات إلى العصب البصري، حتى تصل إلى منطقة مركز البصر في الدماغ وتتم ترجمتها بشكل طبيعي، وبذلك قد تمت عملية إعادة البصر بشكل ممتاز.
هذا الكلام ليس نظرياً أبداً، فهناك تجارب للباحث الألماني ايبيرهارد زرينير، تؤكد قدرة العلم على إعادة البصر في تلك الحالة. حيث أقام تجاربه على 26 شخص، منذ عام 2005 وحتى عام 2011 التي كانت على ثلاثة أشخاص ناضجين. وهؤلاء الأشخاص كانوا قد فقدوا الشبكية العينية في كبرهم، بسبب عوامل مختلفة، وأصبحوا عميان تماماً، أو أكثرهم من يفرق بين النور والظلام. وقام بزرع الشبكة الإلكترونية بحجم 38*40 بيكسل. فكانوا قادرين على الرؤية كما لو أنهم كاميرا بقوة 0.0015 ميغا بيكسل. بالطبع ستقول بأنها قوة قليلة جداً مقارنة بالعين العادية، ولكنها كانت نعمة كبيرة بالنسبة لهم وفرحة لا تصدق. وقد تفاوت نسبة نجاح عملية إعادة البصر من شخص لأخر. فمنهم من كان قادر على الرؤية، حين يكون الجسم مضيء على خليقة سوداء. ومنهم من تمكن تميز الرسومات بالأبيض والأسود. والبعض الأخر استطاع التعرف على أشخاص بالغرفة وبعض الأدوات على الطاولة، بل وقراءة نص مكتوب بأحرف كبيرة أيضاً.
أخطاء جينية
حين يكون ضرر البصر هو في جين متضرر، نتيجة عن طفرة جينية مولود بها الإنسان، يكون الحل في تبديل هذا الجين بأخر سليم. وهو عبارة عن تحديث للجينات البشرية. الطبيبة الأمريكية جين بينيت، من رواد هذا المجال. وقد تمكنت من إعادة البصر إلى ثلاثة سيدات عميان. المرة الأولى بعين واحدة عام 2009، والمرة الثانية كانت للعين الأخرى بعام 2012. الثلاثة نساء كانوا مرضى بمرض يدعى Leber’s congenital amaurosis، هذا المرض يؤدي إلى ضعف في حاسة البصر، أو فقدانها بالكامل. ويولد الإنسان بهذا الضعف بسبب أخطاء جينية.
بعد عملية إعادة البصر عن طريق إصلاح الجينات المتضررة، تمكنت السيدات من الرؤية بمقدار مرتين أو أربعة مرات أكثر من ذي قبل. وحتى حساسية الضوء أصبحت أفضل ما بين عشرة إلى عشرين مرة. وبذلك تمكنوا من الرؤية في الضوء الخافت لأول مرة في حياتهم. وأظهرت الفحوصات أن الدماغ قادر على التدرب والتعود على الرؤية القوية، حتى يستيقظ من خموله لسنوات طويلة. على عكس ما قد اعتقاده العلماء بأن العقل لا يمكنه معالجة المعلومات وتحويلها إلى صور، بعد سن العشرين. لأنه لم يتعلم تلك العملية منذ الصغر، ولكن الدماغ البشري مازال يبهر العلماء بقدراته.
المعالجة الجينية تعتمد على تصحيح الجين المتضرر كما قلنا، ويحتاج العالم أن يعي الجينات المسئولة عن عملية الرؤية وما هو المتضرر منها بالضبط. في معهد العيون القومي في أمريكا، بدء العمل على أول جين يسمى RPE65. في البداية تم العثور على هذا الجين، عند نوع معين من الكلاب. هذه الكلاب عادة ما تصاب بالعمى الوراثي، وبعد ذلك وجدوا نفس الجين في الإنسان المصاب بالعمى منذ الولادة. هذا الجين مسئول عن تخليق البروتين، المسئول بدوره عن تحويل مركبات فيتامين أ، إلى مركبات شديدة الحساسية للضوء، ومنها من يميز بين الرؤية الليلية والرؤية في النهار. حين يصاب هذا الجين بطفرة وراثية ليصبح غير قادر على القيام بوظيفته، يصبح الإنسان أو الكلب أعمى. تمكن العلماء من تعويض على البروتين الناقص بأخر سليم في الكلاب. وبذلك تمكنوا من إعادة البصر للكلاب.
إعادة البصر من خلال الخلايا الحساسة من الطحالب
لا يتوقف العلم عن فكرة معينة، بل دائماً يحاول العلماء التفكير خارج الصندوق وطرح كل الاحتمالات المتوفرة. من تلك الاحتمالات جاء العلاج الذي قدمه الدكتور من جامعة ويانا الطبية الأمريكية Zhuo-Hua Pan. الفكرة ببساطة تعتمد على أخذ الخلايا الحساسة للضوء من أنواع معينة من الطحالب. والتي يقوم دورها في الأصل في عملية البناء الضوئي للطحالب. ثم زرع تلك الخلايا في عيون فئران عمياء. وبذلك تم إعادة البصر إليهم.
إلا إن المشكلة بأن الفئران لا تستطيع التعبير عن نفسها، والدكتور لا يتمكن من تأكيد مدى قدرة رؤية الفئران الجديدة. هل هي واضحة أم تبدو كالأشباح؟ لا يعرف بعد الإجابة. ولكن تلك التجربة تثير فضول كبير لأنها تعني أن الحيوان قادر على أخذ خلايا حساسة للضوء، واستخدامها بدلاً من المتضررة. فتبدو الفرضية مهمة جداً وفعالة على أرض الواقع.
إعادة البصر بتنشيط عمل الدماغ
في بعض الحالات تكون العين سليمة من جميع الجوانب، ولكن المشكلة الحقيقية هي في مركز البصر في الدماغ. ولذلك علاج هذا الأمر يجب أن يكون مركز على تنشيط الدماغ وعمله من أجل فهم الإشارات المرسلة من العين، وفهم الصورة. فإذا كانت المشكلة في عملية المعالجة نفسها للمعلومات المرسلة من العصب البصري، سيكون الحل في جهاز الرؤية الاصطناعي. هذا الجهاز يشبه كاميرا الفيديو، معلقة على نظارة. ترتبط هذه الكاميرا بمركز البصر مباشرة. وهي تنشط بنفسها عمل المركز بدون الحاجة إلى العصب البصري أو حتى العين نفسها.
أما إذا رفض المريض وخاف من هذه العملية المعقدة، التي تعتبر حساسة جداً وخطيرة، لأنها تربط طرف صناعي بالأعصاب في الدماغ مباشرة. سيكون الحل غريب ولكنه موجود. إذا يحول العلماء صور هذه الكاميرا إلى أصوات. هذه الأصوات تسمعها الأذن ويفهمها العقل. كما أظهرت التجارب التي أقامها البروفيسور أمير اميدي بعام 2012. حيث قام بتدريب أعمى أن يرى العالم من خلال أذنه. فكاميرا الفيديو المثبتة على نظارة، تحول الصور إلى نغمات موسيقية معينة. على حسب قواعد معينة مصنوعة عليها الكاميرا، تحول شدة الضوء وشكل الجسم ولونه إلى نغمات تسمعها الأذن. فيفهم الأعمى من خلال النغمات أن يميز العالم من حوله، وفي خلال أقل من ثلاث ساعات من التدريب فقط.
فيتعلم كيف يفرق بين الأحرف، الوجوه، الأشكال الهندسية، الأشياء والأدوات، بنسبة تقارب المئة بالمئة. وحين تم تصوير دماغ الأعمى بالتصوير الإشعاعي لرؤية المناطق التي يتم تنشيطها بتلك العملية. وجد العلماء أن المنطقة البصرية تتنشط، وكأنهم تخلق في عقل الأعمى صورة للواقع. ذلك الأمر لا يحدث إلا من خلال حاسة البصر المفقودة. ولذلك تأكد العلماء أن الأعمى يستطيع الرؤية من خلال حواس أخرى كالسمع مثلاً، وفي تجارب أخرى كانت بحاسة التذوق. أي إن العقل قادر على صنع تعبير بصري من خلال أعضاء أخرى مثل الأذن واللسان، وليس فقط العين.
إعادة البصر بالخلايا الجذعية
فقدان البصر يحدث بسبب أضرار في نسيج العين أياً كان مكان هذا الضرر. وعندها لم تعد الخلايا قادرة على العمل. لذلك تكون طرق الإصلاح غير فعالة، أما المعالجة بالخلايا الجذعية فهو أمر وارد وفعال جداً. خاصة لو كان الضرر بالغشاء البصري، ناتج عن حرق مثلاً أو تدمير بالكامل في الخلايا. يمكن للأطباء والعلماء القيام بمعالجة العمى بإعادة إنتاج هذه الخلايا من الجذور. والخلايا الجذعية هي بالفعل موجودة بشكل طبيعي، لتعمل وكأنها مخزون لإصلاح الأضرار وتبديل الخلايا الميتة بأخرى سليمة وجديدة.
هذه الطريقة استخدمها طبيب العيون الإيطالي ديغو بونزين، مع ستة من المرضى المصابين بحروق خطيرة في العين. بحيث كان الغشاء البصري متضرر بالكامل، ومتكدر ولونه أبيض جداً. فقام الطبيب بأخذ خلايا جذعية من أقرباء المرضى، وعالج بهم الغشاء البصري. النتائج كانت مدهشة ورائعة جداً، إذ تمكن أغلب المرضى من الرؤية بشكل سليم مرة أخرى. عملية إعادة البصر لمثل تلك الحوادث لم تكن محض خيال بل هي واقع جداً. حتى البقية قد عاد لهم الغشاء البصري بشكل جزئي، ولكنهم ما زالوا يعانون من بعض البقع المتضررة. ولكن الفرق شاسع بين الفقد الكامل للبصر، وبين بوادر الرؤية السليمة، التي كانت فرحة لا توصف بالنسبة لهم.
المريض مايك ماي، هو اسم لمع في هذا المجال. لقد تمكن العلماء من إعادة البصر إلى هذا الرجل في عام 2003. لقد فقد بصره وهو يبلغ من العمر ثلاثة أعوام فقط، أي إنه لم يكن يعي الدنيا بعد، وذلك بسبب انفجار وحرق كبير بالعين. وحين بلغ الأربعين من العمر استطاع العلماء أن يعودوا له بصره، باستخدام الخلايا الجذعية. تمت زراعة بعض الخلايا الجذعية في العين، وبعد سنتين من العملية بدأت التطورات المبهجة بالظهور على أعين مايك. لقد رأى الأشياء والألوان والحركات لأول مرة. صحيح إنه مازال لا يرى تفاصيل الوجوه، ولكنه بالتأكيد في قمة السعادة من رؤية العالم لأول مرة. الخلايا الجذعية وحدها قادرة على معالجة فقدان البصر في مثل تلك الحالات المستعصية.
بعام 2006 نشر الباحث “روبن علي” المتخصص في هذا المجال، أبحاثه الناجحة والتي تزيد من فرص إعادة البصر عن طريق الخلايا الجذعية. فهو قد تمكن من معالجة العمى الذي يأتي من مختلف أنواع الأمراض. بداية مع الشيخوخة إلى مرض السكر وغيره من الأمراض والحوادث. والخطأ الذي طالما وقع فيه الأطباء بأنهم استخدموا خلايا جذعية لم تنضج، أي لم تتخصص في تكوين خلايا معينة بعد. وإنما تجارب روبن تعتمد على وصول الخلايا الجذعية المستخدمة إلى مرحلة معينة من النضوج، يمكن التحكم فيه بشكل صناعي. ليكون بذلك هو مفتاح الحل لامتلاك بنك كبير من الخلايا التي يمكن أن تزرع في أي مكان بالعين، بهدف إعادة البصر.
إعادة البصر بالعيون الصناعية
تيري بيلاند هو أول أعمى حدثت له عملية إعادة البصر بتلك الطريقة. وهي عبارة عن كاميرا مثبتة على نظارة، ترسل إشاراتها إلى رقائق إلكترونية تم زرعها داخل العين، قبل العصب البصري. العيون الصناعية مازالت في بداية تطورها، وتسمح للمريض برؤية ضعيفة وغير نقية، ولكنها بالتأكيد أفضل بالنسبة له من اللا شيء. ولا يزال حقل الرؤية محدود بثلاثين سنتمتر فقط. ولكنه قادر على تميز الظلام والنور والحركة، وبعض الوجوه القريبة والأشكال. ولكن العلماء يأملون خيراً كبيراً في هذه التكنولوجيا في المستقبل، لأنها تطور بشكل جيد جداً.
بعام 1999 قال الدكتور مارك هيماين، وهو واحد من الأطباء المشاركين في صنع هذه التكنولوجيا المهمة، بأن دماغ الإنسان أبهرهم كثيراً أثناء التجارب. فهم لم يكونوا يأملون إلا في محاولة إعطاء فرصة للأعمى بتميز النور من الظلام. ولكن الدماغ بمفرده استطاع مليء الفراغات الناقصة بالتكنولوجيا، وفهم الصورة المرسلة له من خلال إشارات الرقائق الإلكترونية بشكل رائع، أكثر مما اعتقد العلماء. في ذلك الزمن أيضاً أعطى الطبيب مارك وعداً بأنه سيتمكن من إعادة البصر إلى الموسيقي ستيفيه واندير. هذا الوعد جعل الأطباء الأخريين يسخرون كثيراً منهم، كما وصفته وسائل الإعلام بأنه يلعب دور الإله، وبأنه قد استولى عليه شعور العظمة الزائفة. ولكن كان على حق وبالفعل استطاع إعادة البصر إلى من فقدوه، ولو بشكل جزئي.
العلم يبدأ خطواته الصغيرة في هذا المجال، ولكنها خطوات ثابتة وواثقة وناجحة. والنجاح المبهر الذي يحققه العلم مه كل مريض، يعطي للعلماء وللطبيب مارك خاصة دفعة أكبر إلى الأمام. في إحدى المرات، قالت واحدة من مرضى الطبيب مارك، بأنها لا تصدق نفسها. كانت مندهشة لقدرتها على رؤية الطاولة وما عليها، ولا تستطيع تصديق نفسها بأنها ترى أحفادها لأول مرة وهم يلعبون الكرة. يا لها من فرحة كبيرة بالحق وشعور لا يوصف، يشعر به كل من ساعد في إعادة البصر ونور العين إلى تلك السيدة.
خصائص الرقائق الإلكترونية
الرقائق الإلكترونية هي جزء أساسي من عملية إعادة البصر. وأول واحدة تم زرعها في عين تيري بيلاند كانت تحتوي على 16 إليكترود فقط، أي ما يعادل 16 بيكسل في الكاميرات الرقمية. بعد ذلك استطاع العلم صناعة واحدة أخرى تحتوي على 60 بيكسل، وأصغر أيضاً بحجم 1 ميلمتر مربع فقط. يأمل المصنعون إلى إنتاج رقائق تصل إلى 1000 بيكسل، بأحجام أصغر، وبتكلفة 25 ألف دولار فقط.
توجد شركات أخرى مثل Optobionics الأمريكية، أو Retina Implant الألمانية، قد بدئوا بتجربة رقائق تحمل بضعة ألاف بيكسل لتحسين الرؤية بشكل كبير جداً. وأيضاً أضافوا عليها وجود خلية ضوئية خاصة بشكل شريحة، بحيث لا تحتاج إلى الكاميرا المثبتة على نظارة مرة أخرى. وفي جامعة ستانفورد في أمريكا، يقوموا بتطوير رقائق تحتوي على ثلاثة عشر ترانسيستور. وهي مختلفة وتهدف إلى معالجة الموجات الضوئية، كما لو أنها أنواع من الأعصاب البصرية المتعددة في العين. ولكنها مازالت كبيرة في الحجم وتحتاج إلى وقت ومجهود لتصبح عملية.
في الأخير يعتقد العلماء والأطباء بأنهم قادرون على إعادة البصر لمن فقده في المستقبل بشكل أفضل ووضوح أعلى. حتى المشاكل الوراثية ستختفي، وقد يصل العلم يوماً إلى مرحلة أن يكون العمى مجرد أسطورة يسمع عنها أبنائنا ولا يتخيلوها. تماماً كالأمراض التي تغلب عليها الطب في يومنا هذا لتختفي تماماً من هذا الكوكب كما جاءت. فالأمر ليس مستحيلاً على العلم الجاد والعقول المفكرة المجتهدة.
أضف تعليق