تعتبر اليابان مثالاً نموذجياً على التطور الاقتصادي لدولة في ظل عدم توافر موارد خارقة تؤلها لمثل تلك النهضة وكذلك في أعقاب هزائم متلاحقة من دول عظمى أو كانت تعرف بذلك. اليابان هي عبارة عن مجموعة من الجزر التي تقع في المحيط الهادي شرقي آسيا ويفصلها عن دول آسيا الشرقية كالصين وكوريا وتايوان بحر اليابان، يتخطى عدد الجزر المؤلفة لدولة اليابان 6800 جزيرة منها أربعة جزر رئيسية هي أونشو الجزيرة الأكبر على الإطلاق في اليابان وبها العاصمة طوكيو وجزيرة شيكوكو وأوكايدو وأخيراً جزيرة كيوشو أما بقية الجزر في جزر صغيرة بها نسبة لا تذكر من السكان. كلمة اليابان باللغة اليابانية تعني مطلع الشمس أو مشرقها حيث أن اليابان تقع في أقصى شرقي آسيا ولا يوجد بعدها في اتجاه الشرق سوى المحيط الهادي لذلك أطلقت عليها تلك التسمية.
يبلغ تعداد سكان اليابان حوالي 127 مليون نسمة وهي بذلك تقع في المركز العاشر بين دول العالم من حيث الكثافة السكانية غالبيتهم العظمى من اليابانيين مع نسبة ضئيلة من الجنسيات الأخرى، وتعد العاصمة اليابانية طوكيو سادس أكبر المدن كثافة سكانية داخل منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية العالمية حيث يبلغ عدد سكان اليابان الذين يستوطنون العاصمة فقط ما يفوق 9 ملايين نسمة.
كيفية وصول اليابان إلى نهضتها الشاملة ؟
الحاجة أم الاختراع
يمكن وضع عنوان بسيط للتجربة اليابانية وهو الحاجة أم الاختراع؛ فالجميع حول العالم يعرف كيف أن المواطن الياباني يعمل بجهد مضاعف يفوق نظرائه في الدول الأخرى كما يتحلى بأخلاقيات مهنية تؤهله للعمل بكفاءة منقطعة النظير، ويعود السبب الأكبر وراء ذلك إلى مرور اليابان بأزمات عديدة خلال الحرب العالمية الثانية حيث كانت منطقة نزاع بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي فكان كل طرف يحاول بشتى الطرق الممكنة السيطرة على اليابان أملاً في إلحاق الهزيمة بالطرف الآخر. كما أن الطبيعة الجغرافية لليابان لا تؤهلها لاستغلال أراضيها في نشاط اقتصادي بعينه مما دفع بالشعب الياباني إلى محاولة تطوير واستغلال كافة الموارد المتاحة بأكثر الطرق ترشيداً للحصول على أفضل النتائج الممكنة.
محاولات سابقة
بالطبع أدرك كل من تقلد الحكم في اليابان فقر بلاده وخلوها من أي موارد طبيعية تؤهلها لصنع نهضة حقيقة، لذلك كانت هناك عدة محاولات سابقة من حكام اليابان سعياً إلى خلق آفاق جديدة تدر بالموارد الاقتصادية على الدولة. ولكن تمثلت كل تلك المحولات في التمدد العسكري فقط؛ حيث دخلت اليابان في حروب عدة كالحرب مع الصين ومع كوريا ومع روسيا وكذلك كانت اليابان طرفاً في الحرب العالمية الأولى.
كل تلك المعارك التي خاضها الجيش الياباني مكنت اليابان من بسط سيطرتها على دول أخرى كسنغافورة ومناطق من الهند والفلبين وتايلاند وبورما، لكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن فبعد الحرب العالمية الثانية ومع تكبدته اليابان من خسائر مادية وبشرية هائلة لم تجد حلاً سوى إعلان الاستسلام والتخلي عن كل ما اعتبر مكاسب عسكرية من الحروب السابقة وعادت اليابان كما السابق مجموعة صغيرة من الجزر.
الاهتمام بالعنصر البشري
كما شرح سالفاً تخلو اليابان من أراضي واسعة تصلح للزراعة أو معالم سياحية بارزة تجذب السياح أو حتى آبار للبترول أو مناجم للذهب أو أي من الموارد التي قد تتواجد في دولة ما. لذلك لم يكن أمام اليابان سوى العنصر البشري للاعتماد عليه؛ فعملت الحكومة اليابانية من خلال برامج تعليمية وتربوية ومنهج متسلسل وواضح الخطوات على تنمية وتثقيف المواطن الياباني وتحفيزه على العمل بكل ما أوتي من قوة واستغلال كافة الموارد المتاحة حتى ولو كانت صغيرة لتحقيق أي مكاسب ممكنة، فنشأ ما يعرف حالياً بأخلاقيات العمل الياباني وهي قيم وعادات يابانية تخص احترام العمل ودقة المواعيد وتآزر الجهود وجميعها مبادئ متأصلة في الشعب الياباني حتى أصبحت جزء من الأعراف والعادات الأصيلة التي لا يمكن التخلي عنها.
الاهتمام بنظام التعليم
كانت ولا زالت الأولوية عند أي حكومة يابانية هي الاهتمام بالتعليم وذلك عبر توزيع الجهود على محوريين أساسيين وهما:
- المعلم: إيماناً بأن المعلم هو أساس أي عملية تعليمية اشترطت الحكومة اليابانية ألا يحصل المعلم على مؤهل جامعي وفقط بل عليه اجتياز مراحل اختبارات عدة وشاقة للغاية حتى تمكنه من الحصول على وظيفة معلم في مدرسة، وما يجعل أي شخص يتحمل صعوبة تلك الاختبارات هو الراتب المرتفع والميزات المتعددة التي توفرها الحكومة اليابانية لمعلميها حيث يتقاضى المعلم الياباني راتباً يعادل راتب الوزير هناك بل ويزيد عنه في أحيان كثيرة.
- نظام التعليم: تعتمد أي دولة في نظامها التعليمي على واحد من منهجين إما المركزية والتي تعني تجميع كافة مدارس الدولة تحت لواء وزارة أو هيئة واحدة تقوم بوضع الخطة العامة والمناهج المفصلة لكل مرحلة تعليمية وما على المدرسة سوى تنفيذ ما يطلب منها من مهام أو نظام اللامركزية أي تقسيم المدارس إلى قطاعات ويتولى كل قطاع إدارة أموره التعليمية بنفسه، أما في اليابان فقد وجدت الحكومة هناك أن لكل نظام من النظامين السابقين مزاياه وعيوبه لذا حاولت الجمع بينهما في نظام جديد ينبثق من أسس كل منهما فيجمع بين ميزات المركزية في التعليم والتي تضمن تنفيذ الأهداف العامة للدولة في تشكيل ثقافة ووعي الطلاب وكذلك اللامركزية في التعليم والتي تتيح الفرصة لكل ولاية أو محافظة في إضافة أجزاء وملحقات تعليمية تتناسب مع طبيعة الحياة هناك وثقافة لمواطن ولكن كل ذلك في إطار السياسة التعليمية العامة التي تضعها الحكومة؛ فينشأ نظام جديد يجمع الخبراء على أنه الأنجح على الإطلاق.
أزمة الكهرباء
كمثال بسيط على مدى ثقافة ووعي الشعب الياباني والذي نتج من نظام التعليم الناجح في بداية عام 2005 أصدرت الحكومة اليابانية بياناً للشعب تعلن فيه ارتفاع نسب استهلاك الكهرباء بشكل ملحوظ خاصة في فصل الصيف وقدمت الحكومة خلال البيان برنامجاً يهدف لتقليل معدل الاستهلاك عبر خطوتين رئيستين هما:
- ضبط أجهزة التكييف في المنازل والمصانع والشركات وغيرها من الأماكن على درجة حرارة 28 وعدم خفضها أكثر من ذلك مما سيقلل من معدلات استهلاك أجهزة التكييف للكهرباء بشكل كبير.
- ارتداء المواطنين للملابس القطنية طوال اليوم حتى الموظفين ورجال الأعمال الذين يضطرون لارتداء ملابس رسمية يجب عليهم التخلي عنها واستبدالها بالملابس القطنية الخفيفة مما سيسهل على المواطنين تحمل درجة الحرارة المرتفعة التي يتم ضبط جهاز التكييف عليها.
وبالرغم من السخافة الظاهرية التي تبدو عليها تلك الخطوات فقد رصدت تقارير الحكومة اليابانية استجابة واسعة للمواطنين لتلك الخطوتين حتى من قبل الكيانات الاقتصادية والصناعية الكبرى التي تجري اجتماعات بشكل دوري مع وفود قادمة من خارج اليابان فقاموا بالالتزام ببرنامج الحكومة ضاربين بالأعراف الدولية عرض الحائط، وبالفعل نجحت التجربة في إحداث فرق شاسع بين استهلاك الكهرباء لما قبل 2005 وما بعدها بلغ حوالي 210 مليون كيلو وات / الساعة في فترة زمنية لا تتعدى الأربعة أشهر فقط كما انخفضت نسبة ثاني أكسيد الكربون الصادرة من أجهزة التكييف بمعدل 460 ألف طن خلال نفس الفترة وهي الكمية التي قد تصدر من مليون جهاز تكييف يعمل بشكل مستمر.
أضف تعليق