الشخصية المراوغة هي تلك الشخصية التي يصعب التعامل معها لصعوبة الوقوف على مبدأ صلب لها أو معيار ثابت يمكن الاحتكام إليه إذا استلزم الأمر. فهي شخصية التوائية مائعة، بمعنى أنها كالمواد المائعة، فكما أن المواد المائعة تستطيع أن تتخذ شكل الإناء الموضوعة فيه، فكذلك الشخصية المراوغة تستطيع أن تتشكل وفق الموقف الموضوعة فيه؛ فهي تتلوى كما الحية وتتلون كما الحرباء، فالشخصية المراوغة تستطيع مسايرة الظروف والتكيف معها كيفما كانت. وتستطيع أيضا النفاذ من المواقف المحرجة، أو تهيئة الظروف لما يناسب أغراضها، ويصعب جدا أن تحاصرها بالحجة والمنطق؛ لأنها شخصية تتسلل من بين كل ذلك بمنطقها الخاص الذي يشبه إلى حد كبير المنطق السوفسطائي.. ماذا؟ هل ثمة علاقة بين الشخصية المراوغة والمنطق السوفسطائي؟ والإجابة هي “نعم”، فإن تشابها كبيرا بين المنطق السوفسطائي والمنطق الذي تستخدمه الشخصية المراوغة سنعرض له خلال هذا المقال.
نصائح حياتية للتعامل مع الشخصية المراوغة
أمثلة على سلوك الشخص المراوغ
للشخصية المراوغة ما لا حصر له من الحيَل التي تُستخدم فيما لا حصر له من السياقات المختلفة، ولإبراز معالم هذه الشخصية وتبيان ضرب من سلوكها، كان لزاما علينا ضرب بعض الأمثلة المعينة على ذلك. فهذا رجل يضرب لك موعدا ما فإذا بك تضطر لانتظاره لما يربو عن الساعة، فإذا سألته عن سبب تأخره تجده يبتدع لك من المبررات ما لا تستطيع معها لوم، كأن يقول لك بأن حادثا قد وقع في الطريق أوقف مسيرة المواصلات التي أتى بها، أو أن أباه قد أرسله رغما لقضاء حاجة له. وعندما يضرب لك موعدا آخر تجده قد أعد مبررا آخر يخرجه من مأزق الموقف ويعفيه مرارة الإحراج. وهذا شخص آخر يقع منك موقع المقُود في السلم الوظيفي وها أنت تطلب إليه أن يقوم بمهمة ما لتجده قد أعد العراقيل إعدادا وجسّم من حجم المهمة وابتكر لها مآلاتها وسيناريوهاتها السوداوية لدرجة يستحيل معها القيام بهذه المهمة؛ وذلك ليريح رأسه عناء العمل وعناء التخطيط والتدبير والجهد العقلي والعضلي. وهذا شخص ثالث يعمل وسيط (سمسار) في سلعة ما، تجده يظهر للمشتري أن هذه السلعة تساوي جَملًا، وفي نفس الوقت يظهر للبائع أن سلعته هذه تساوي فأرًا.
علامات الشخصية المراوغة
للشخصية المراوغة علامات لا بد من إماطة اللثام عنها لئلا يختلط الأمر على القارئ الكريم ويحدث خلط بينها وبين الشخصية المرنة؛ ذلك لأن بعض الخصائص مشتركة بين كلا الشخصيتين. فالفرق الجوهري بين المرونة والمراوغة يكمن في توجه كلا منهما، إذ يكون التوجه في الأولى حسن النية، وفي الثانية سيئ النية. لكن النية من المسائل الباطنية عسيرة التبصر بها؛ لذلك كانت العلامات التي سنوردها الآن من أهم العلامات التي تميز الشخصية المراوغة والكاشفة عنها، ومن هذه العلامات: كثرة التبريرات، فالتبرير هو عماد الشخصية المراوغة وحائط الحماية لها، فكل محاولة لحصار هذه الشخصية بأخطاء اقترفتها هي محاولة فاشلة؛ لأنها تلجأ إلى تبرير الأخطاء بالأسباب التي أدت إليها، فتنتفي بذلك تهمة الوقوع في الخطأ، لكن في الحقيقة لكل شيء سببا فلماذا الانزعاج من منطق التبرير هذا طالما هو يذكر السبب الذي أدى إلى الخطأ؟ نعم، في الحقيقة إن لكل شيئ سببه لكن الذي يميز السبب الذي يسوقه الشخص المراوغ عن السبب الحقيقي المقبول هو العلامة التالية.
من العلامات المميزة أيضا للشخص المراوغ هي تكرارية التبرير، فالتبرير في حد ذاته ليس عيبا، لكن تكرار الأخطاء وبالتالي تكرار المبررات التي تسوغها هو عين العيب الذي تمتاز به الشخصية المراوغة ، فهو مداوم على إصابة الأخطاء أو الخطايا (باعتبار الأخطاء فعل غير مقصود بينما الخطايا فعل مقصود) ولكن بتبريرات مختلفة في كل مرة، فهذا الذي يضرب لك موعدا ثم يخلفه ويبرر لك السبب قد يكون صادقا، لكن الفيصل والحكم في الأمر هو المرات القادمة، فإذا تكرر الأمر بشكل يصل إلى الاعتيادية كان ذلك دليلا دامغا على أن العيب ليس في الأسباب وإنما في الشخصية ذاتها، وكان ذلك برهانا أيضا على أن هذا الشخص الذي تتعامل معه شخصا مراوغا.
ومن العلامات البارزة أيضا التي تبرز معالم الشخصية المراوغة هي التهوين والتهويل، ففي مثالنا عن السمسار وضوح كبير لما نريد أن نقول عن قضية التهوين والتهويل، فهو يهول للمشتري في قيمة السلعة ويهونها للبائع، كذلك الموظف المقود الذي يهول من حجم المهمة التي يراد منه القيام بها كما يهون من جدوى نتائجها. ومن العلامات المميزة للشخصية المراوغة التي تتسم بالمراوغة الحاذقة، والتي لا تستطيع كشفها أيضا إلا عقلية حاذقةـ هي التلاعب على عقل المستقبِل بالمغالطات المنطقية، فليس يستطيع أن يراوغ بهذا النوع من المراوغة إلا شخصا على درجة من المعرفة، ولا يستطيع أن يكشفها إلا شخصا ليس أقل منه في المستوى التعليمي، فمن بين المغالطات المنطقية التي تستخدمها الشخصية المراوغة مغالطة التماس المشاعر، حيث يحاول فيه الشخص المراوغ إثارة المشاعر العاطفية بدلا من تقديم حجة مناسبة تؤيد وجهة نظره، ومن المغالطات أيضا مغالطة القناص، وهي حشد الدلائل والبيانات التي تؤيد حجته وتجاهل الدلائل والبيانات التي تدحضها، كأن يقول لك منجم مثلا بعد أن عرف الكثير عن أسرارك بطريقة ما فيقول لك بعض هذه الأسرار والمتاعب ومؤدياتها، وهذه المغالطة أطلقت على من يطلق على الجدار رصاصة بالبندقية ثم راح يرسم نقطة الهدف على موضع الرصاصة وادعى أنه قناص! وهناك من المغالطات المنطقية الكثير مما يمكن أن يراوَغ به ولكننا نكتفي بالمثالين السابقين.
الشخصية المراوغة والمنطق السوفسطائي
ثمة رابط ما بين الشخصية المراوغة والمنطق السوفسطائي، بل يمكن اعتبار أن كل سوفسطائي هو شخص مراوغ لكن ليس كل مراوغ سوفسطائي بالضرورة. فكما أسلفنا القول فإن من سمات الشخصية المراوغة هي التبريرية، وأيضا التبريرية هي عماد الفكر السوفسطائي، فكل حدث يحدث لأي إنسان لا يعدم سبب أو سياق أو ظروف أدت إلى هذا الحدث.. هذا هو المنطق السوفسطائي. ومن ثم ليس ثمة معيار ثابت للفضيلة والخير والشر، فقد يكون الكذب خيرا، وقد يكون الصدق شرا، فالمعيار الوحيد هو ملاءمة هذا الكذب أو هذا الصدق للموقف الذي يحتم على الشخص الكذب أو الصدق، فإن كان الصدق هو الملائم فهو الخير والكذب هو الشر، وإن كان الكذب هو الذي سينجيني فهو الخير والصدق هو الشر. ويكون المبدأ العام للمنطق السوفسطائي هو أن الإنسان الفرد هو المعيار لكل شيء.
كيفية التعامل مع الشخص المراوغ
إن التربة الخصبة التي تنبت فيها الشخصيات المراوغة بكثرة هي انتشار الأمية من ناحية، وانسداد منافذ الإشباع للحاجات الرئيسية للإنسان. فبالأمية تنعدم العقلية الواعية الناقدة التي تفلتر وتحلل ما يساق إليها من مقال أو حجة، وبانسداد منافذ الإشباع للحاجات الرئيسية يلجأ الإنسان إلى سبل متعرجة ملتوية بحثا عن منافذ أخرى غير شرعية، مع مراعاة أن ما هو شرعي أو غير شرعي إنما هي معايير وضعتها الثقافة ودعمتها القوانين التي أفرزتها هذه الثقافة. فمثلا الثقافة حرمت ممارسة الجنس في غير إطار الزواج، وفي ذات الآن الثقافة قد وضعت الكثير من العراقيل أمام عملية الزواج، فليس على السلوك الإنساني إلا أن يتلمس حيل ملتوية ليشبع هذه الحاجة في الخفاء بأي طريقة، وبالطبع هذه الطريقة ستكون نوعا من المراوغة والتحايل على الأهل وعلى الثقافة والقانون. وليس خفيا بعد كل ما قيل أن أكثر الشعوب التي تعاني من انسداد في إشباع الحاجات الأساسية هي الشعوب العربية، وبالتالي هي أكثر الشعوب التي تكثر فيها السلوكيات المراوغة، وللأسف هي من أكثر الشعوب أمية وفقدانا لمقاومة هذه السلوكيات. فليس شيئ أقدر على التعامل مع الشخص المراوغ من العقل الواعي الناقد؛ لذا فلكي تستطيع التعامل مع شخص مراوغ عليك أن تكوّن عقلا واعيا ناقدا محللا تستطيع به أن توقف الشخص المراوغ عند حده.
أضف تعليق