السجون الإصلاحية هي تلك المباني التي نقوم باحتجاز المجرمين أصحاب جرائم القتل أو السرقة أو الاغتصاب أو غير ذلك فيها. وهذه السجون الإصلاحية هي الطريقة التي نراها الأنسب لحماية مجتمعاتنا من أمثال هؤلاء القتلة المجرمين الذين لا نأمن على أنفسنا في وجودهم. بل نحن أنفسنا من سنطالب بوضع مجرم في قفص العقاب والتعفن في تلك السجون الإصلاحية لمجرد أن نشعر بالأمان في ظل المكان الذي نعيش فيه. ولكن هل فكرنا فيما سيحدث عندما يقضي هذا المجرم مدته ويخرج مرة أخرى إلى ذلك العالم؟ هل فكرنا فيما سيطالنا أو سيطال هؤلاء القادمين من بعدنا مما سيحدث عند خروج أمثال هؤلاء من هذه السجون؟ وإذا فرضنا أن أمثال هؤلاء قد تمكنوا من اقتناص حكم مؤبد من المحكمة جراء أفعالهم، هل فكرنا بما سيفعله هؤلاء المجرمين بأمثالهم الذين لم ينالوا مثل ذلك الحكم؟ أمثالهم الذي سيخرجون مرة أخرى إلى العالم محملين بآثار هؤلاء المجرمين الذين لم يتمكنوا من الخروج. السجون الإصلاحية –أو التي من المفترض أن تكون إصلاحية- ربما تكون جزءا من حل معادلة المجرمين، ولكن إذا لم يتم استغلالها جيدا فستكون جزءا كبيرا من معادلة خلق المجرمين. كيف يحدث هذا إذا؟ وكيف تساهم السجون الإصلاحية في خلق المجرمين؟ وكيف نحمي أنفسنا من المجرمين إذا كانت الطريقة التي تحمينا من شرورهم هي الطريقة التي تصنعهم؟ كل هذه أسئلة سنحاول الإجابة عليها في هذا المقال متمنين أن تصيب تلك الإجابة السداد.
لماذا تحولت السجون الإصلاحية إلى مصنع للمجرمين بدلاً من إصلاحهم ؟
لماذا توجد السجون؟
علينا أن نعود إلى بداية الفكرة ونتذكر لماذا صنعت السجون. كانت نشأة السجون والتي يمكن تتبع آثارها إلى العصر البابلي في عام 1750 قبل الميلاد. كان الهدف منذ ذلك الحين وبتطور الأزمان هو أن يكون ذلك المكان، والذي أطلق عليه فيما بعد السجون، مكانا لاحتجاز المجرمين وإبعاد خطرهم عن بقية الأشخاص. احتجازهم في مكان نائي كنفيهم خارج بلادهم إلى أماكن مهجورة أو احتجازهم داخل بلدانهم مع حجر الكثير من حرياتهم التي كانوا يحظون بها. وأصبحت مفاهيم السجون تتطور والرغبة في إدخال الجانب الإصلاحي إلى السجون تتوغل شيئا فشيئا حتى أصبح الكثير من السجون يطلق عليها ” السجون الإصلاحية “. أي أن الغرض من دخول شخص إلى هذه المؤسسة هو للتخلص من شروره التي يوبئ العالم بها، بالإضافة إلى محاولة استخراج الشخص الجيد من داخله ومحاولة جعله شخصا أفضل للعالم الذي سيعود إليه مرة أخرى إن عاجلا أو آجلا. وكان أول هذه المحاولات الإصلاحية وجدت في القرن السابع عشر عندما أنشئت “المنازل التصحيحية” وهي أقرب مثال إلى السجون الإصلاحية . وكانت هذه المنازل تستقبل المجرمين الذين ارتكبوا جرائم صغيرة أو بدافع الفقر أو الجهل، وكانوا يقومون بإدراجهم في أعمال يتحصلون منها على لقمة عيشهم. حتى أصبحت هذه المنازل قوة في سوق العمل وأصبح المجرمين هؤلاء بإمكانهم التكسب من أنفسهم وعدم الاحتياج إلى إثارة خوف المجتمع.
كيف تتعامل السجون الإصلاحية ؟
ربما كان الهدف من السجون هو أن تكون التعريف الأساسي لكلمة السجون الإصلاحية، ولكن هذا الهدف لم يكن هو الموجود في كل وقت، ولم يكن هو الهدف الذي يسير عليه مدراء السجون والدول. فمنذ قديم الأزل والقائمون على إدارة السجون الإصلاحية يلجؤون إلى استعمال العنف الجسدي والنفسي وأبشع الطرق الممكنة للتعرض للمساجين بغض النظر عن أسباب وجودهم في هذا المكان. وبغض النظر عن عظم خطيئة أحدهم وصغر خطيئة الآخر. وكثيرا ما تكون السجون الإصلاحية مجرد وسيلة لجمع المجرمين ورجال العصابات في مكان واحد، يصارعون بعضهم بعضا ويضربون بعضهم بعضا ويقتلون بعضهم بعضا. ورجال الأمن الذين يحرسون المكان تكون مهمتهم الأساسية محاولة منع قتل أحد المساجين، أو محاولة منع قتل أحد الحراس عندما تتطور الأمور أكثر من قدرة الحراس على حمايتها. وتنتشر فيما يفترض أنها السجون الإصلاحية أيضا ترك المساجين لبعضهم البعض ومحاولة التعدي على سجين واحد كصراع قوى ومحاولة الفوز فيه بين الحراس والمساجين، وهذه الطريقة هي وسيلة للسجون الموجودة بتلك البلاد التي يمكن أن نطلق عليها “متطورة”. أنا في الدول النامية والتي تتصف بالفقر فقط لأن مجموعة من الأشخاص غير الحكيمين هم من يمسكون بزمامها ولا يستطيعون استغلال مواردها، فإن السجون الإصلاحية بهذه البلاد تكون أكثر بشاعة من تلك الدول المتطورة. حيث يكثر في سجون تلك البلاد النامية مساجين السياسة وهؤلاء ممن تسول لهم أنفسهم إبداء آرائهم الحرة فيما يحدث في بلادهم أو محاولة تصحيح شيء دون رغبة هؤلاء الذين يمسكون بالبلاد. أما التعذيب في سجون هذه الدول فيكون أبشع من تلك الدول الأخرى. حيث يكون التعذيب خاصا لكل سجين –فأهم شيء لحكام هذه الدول هو المساواة في الظلم- ويكون التعذيب شديدا بحيث يترك السجين غير قابل للحياة داخل السجون أو خارجها إذا تعرض لوصلة العذاب الكاملة!
ما الذي يحدث داخل السجون الإصلاحية ؟
ربما سيلزم الأمر شهادات هؤلاء المساجين أو الحراس الذين عملوا على حراسة هذه السجون الإصلاحية، ويوجد من هؤلاء الكثيرين الذين حكوا عما عايشوه وشاهدوه. وعلى أقوالهم وشهاداتهم وتسريبات أخرى كهذه تقوم صناعة كبيرة في مجال الأفلام على شرف هذه الشهادات. ومن هذه الأفلام نرى كثيرا من المعاملات شديدة القسوة بين المجرمين وبعضهم البعض ومعاملات أخرى أكثر بشاعة بين الحراس الذي بيدهم القوة والقدرة على قتل أي من هؤلاء المساجين دون التعرض للعقاب بحجة حماية القانون. وتدل شهادات هؤلاء الأشخاص على فداحة ما يفعله المجرمون الأقوياء جسديا أو بجماعتهم التي كونوها داخل السجون الإصلاحية هذه، بالمساجين الأقل قوة أو الذين بدون حماية. مما يضطر هؤلاء الضعفاء إما إلى الاستسلام للتعذيب اليومي، وربما أدى هذا إلى موتهم، أو التحول إلى مخلوقات لا ضميرية أخرى تستميت للحصول على جماعة والتنكيل بهؤلاء المجرمين المتقويين شر درس. وليس هذا فقط، بل والخروج أيضا بغضب عارم تجاه كل من كان سببا في جعله شخصا كهذا. إن مجتمع السجون الإصلاحية كما تحكيه الشهادات والأقاويل ممن عايشوها، هو مجتمع خطير، شرس، عنيف ولا يحمل بداخله أية ذرة إصلاحية من التي تحملها اسم تلك المؤسسة. بل فوق ذلك، انتقلت كل تلك المفاهيم إلى الناس وأصبح مفهوم السجون الإصلاحية بالنسبة إليهم هو عالم أسود يبتلع كل من يدخله. وكانت هناك تجربة أقيمت لاستكشاف ما تفعله السجون الإصلاحية بالمساجين وكيفية تأثيرها عليهم في تجربة شهيرة تعرف بتجربة سجن ستانفورد.
التجربة التي تم منع تكرارها
أقيمت هذه التجربة في جامعة ستانفورد في مجموعة من الباحثين بقيادة العالم النفسي “فيليب زيمباردو”. كان الغرض من تلك التجربة هي دراسة تأثير كون الشخص ساجنا أو مسجونا والتأثير الذي يتركه السجانين على المسجونين والسبب الذي يدفع المساجين إلى الثورة والتمرد ورفض الأوامر دائما.
أجريت هذه التجربة على بعض الطلبة من جامعة ستانفورد نفسها. في هذه التجربة تم اختيار بعض الطلبة المشاركين ليكونون السجناء بينما تم اختيار البعض الآخر ليكونون السجانين، كان لكل مسجون رقم يُنادى به في السجن بدلا من اسمه الحقيقي كطريقة لمحو هويته كما في السجون العادية، فمن المعروف أن كل سجين لديه رقم متسلسل من أجله ولا يعرف السجانين الأسماء الفعلية لكل سجين لديهم. كان هؤلاء الطلاب يتلقون أجورا يومية لقاء إجرائهم هذه التجربة. لم يكن هناك أية قواعد أو قوانين التي وضعت لفرض طبيعة التعامل بين السجانين أو المسجونين. بل تركوهم لما يريدون هم فعله عوضا عن ذلك وما يرونه مناسبا. كل ما أخبروهم به كان أمرا واحدا فقط، وهو أنهم يشاهدونهم عبر الكاميرات المزروعة في كل مكان بغرفة الحبس، وسيتدخلون في حالة أية طارئة أو تعقيدات.
بداية التجربة
كان اليوم الأول في السجن يوما عاديا كما يمكن أن تتوقعه في تجربة بين بشر طبيعيين لا تحكمهم أية قواعد أو تفصل بينهم نزاعات. المساجين يلعبون دور المساجين، والسجانين يلعبون دور السجانين. كان هذا حتى نشأ أول مشاجرة بينهم. أول مشاجرة بين مسجون وسجان. كيف تعتقدون كانت النتيجة التي انتهت إليها هذا الشجار؟ كيف سيتصرف الطلبة الذين يظنون أنهم يلعبون دور الحراس والطلبة الذين يعتقدون أنهم يلعبون دور المجرمين والمتروكين جميعهم دون قيود أو فروض تخبرهم بما يفعلونه؟ ما الذي تظنون أن لقب الحارس سيتركه في قلب حامله وما الذي سيتركه لقب المسجون في قلب حامله؟ وهل سيكون التصرف بينهم حضاريا حيث يقيم الحارس الحق مكانه ويقيم الباطل مكانه وينتهي الأمر بدون أية مشاكل أو نزاعات مستقبلية بين الطرفين؟ لا، لم يكن هذا ما حدث. ولم يوضع الحق مكانه وإنما الوحيد الذي وضع مكان كل شيء كان الباطل!
في بداية النزاع ، حاول الحراس فرض سيطرتهم على المساجين وإخضاعهم إلى أوامرهم ونواهيهم. فبدأ الحراس بالصراخ وإلقاء الأوامر والنواهي. شعر المسجونون بالظلم وانعدام العدل في هذه السلطة والسطوة غير المبررة. انتظر المسجونين والحراس أن يخرج أحد أصحاب هذه الكاميرات الذين قالوا أنهم سيخرجون عندما يتعدى أحدهم الخطوط، لكن أحدا لم يتدخل بأي طريقة وقرروا ترك التجربة ليحدث فيها ما يحدث. وكان هذا القرار أسوأ قرار ت اتخاذه في تاريخ التجارب النفسية.
توالت الصراعات وتكاثرت بين كلا الطرفين. بل أصبح الطرف الذي بيده السلطة والمقدرة -وهم المتجسدون في الحراس- يحاولون قمع الطرف الآخر بكل الطرق الممكنة. يسبون المساجين بقسوة ويجبرونهم على القيام بأعمال لا طاقة لهم بها، بل ويمنعون بعض السجناء المتمردين من قضاء حاجتهم في أي مكان سوى علبة بالكاد يتمكنون من التبول فيها، بل كان يصل بالحراس الأمر إلى منع المسجونين من إفراغ هذه العلبة! كان الحراس يجبرون المساجين على تكرار أرقامهم باستمرار كطريقة لمحو هويتهم بدالتي يعرفونها بأنفسهم ويعرفهم بها أقرانهم المساجين من داخلهم. وكانوا يمنعونهم من مناداة بعضهم البعض بأسمائهم الحقيقة لتأكيد هذا الأمر. ووصل الأمر بهم إلى إجبار أحدهم على خلع ملابسه والوقوف عاريا كوسيلة لإهانته وإذلاله! كانت النتيجة مرعبة بكل معنى الكلمة، وكان انعدام القوانين والروادع الطريق لفتح الباب أمام كل الشر الموجود بداخل الحراس للانطلاق كما دون راد له. وكلما ترك الباحثون القائمون على التجربة الأمور كما هي، كلما زادت قسوة الحراس وتوصلوا إلى طرق جديدة لإهانة السجانين.
نهابة التجربة
بعد 36 ساعة من بدأ التجربة، قام أحد الطلبة الذين يلعبون دور المساجين بالانفعال والصراخ، أو كما قال زيمباردو “جن جنونه”، وكان جليا أنه لم يعد قادرا على الاستمرار في تلك التجربة. فاضطر الباحثون بالسماح له للخروج من التجربة – ومن الجدير بالذكر أن إصرار الباحثين على بقاء هذا المشارك عكس رغبته كان تصرفا لا أخلاقيا وغير مسموح به هو الآخر- .
لم يجد زيمباردو حلا سوى إنهاء التجربة بعد مرور ستة أيام فقط. بينما كان من المفترض أن تستمر التجربة لمدة 14 يوما! كانت نتائج تلك التجربة هي أن ثلث الطلبة الذين لعبوا دور الحراس تصرفوا بتصرفات وحشية صميمة من داخلهم. وأن معظم هؤلاء الطلبة الحراس كانوا مستائين جدا عند انتهاء التجربة!
كانت نتيجة هذه التجربة دليلا دامغة على الطريقة التي يرى بها الأشخاص العاديون السجون والحراس والمساجين، والطريقة التي توجد في الأذهان حول التصرف الأنسب لحارس سجن والتصرف الطبيعي لسجين تقع عليه مثل هذه الأفعال. كانت الاحتدامات بين الطلبة الحراس والطلبة المساجين عنيفة جدا، ولو كان الطلبة المساجين لديهم نفس القوة التي بيد الطلبة الحراس لكان الأمر تطور إلى أبعد مما حدث في تلك التربة بكثير. وكان المساجين لينتقموا شر انتقام نتيجة انتهاك إنسانيتهم تلك. ودعونا لا ننسى أن تلك التربة تمت على طلبة عاديين جدا ليس لديهم أي سجل إجرامي يذكر، تخيل معي الآن أن هذه التصرفات الوحشية صدرت على مجرم مليء بالغضب والعنف والكراهية!
لماذا يرتكب الأشخاص الجرائم؟
السجون الإصلاحية هي الأماكن التي يُرمى فيها المجرمين الذين تعدوا على ممتلكات المجتمع وأفراده. ولكن ما الذي يدفع المجرمون إلى إجرامهم من البداية؟ وهل هناك أسباب واضحة بإمكاننا دراستها والبحث حولها للخلوص بنتيجة أن المجرم أصبح مجرما بسبب تلك الأشياء؟ قبل أن نتدخل في المجرمين ذوي الأمراض النفسية أو الجرائم التي لا يتمكن العقل البشري من استيعاب حقيقة حدوثها، سنتكلم عن الجرائم الأخرى التي يمكن أن نسوق إليها أسبابا مقنعة. جريمة كجريمة السرقة مثلا كثيرا ما يقود إليها اليأس أو عدم توافر لقمة عيش أو غير هذه الأسباب إذا كانت الدولة فقيرة أو تمسكها إدارة غير حكيمة. هذه الأسباب ليست مبررا لكي يتعدى أحدهم على ممتلكات غيره، لكنها قد تكون أحد الأسباب التي تدفع أحدهم إلى فعل كهذا. تذكروا أنني قلت أن أسبابا كهذه ليست مبررا للسرقة، ولكن هل تظنون أن سببا كهذا كافيا لحجز أحدهم لسنين طويلة في سجن لا يحترم كرامته وإنسانيته؟ كيف تظنون أن تأثير سجن مليء بالعنف والغضب من كلا الطرفين المتحكمين فيه، الحراس والمساجين، على شخص لم يكن بداخله رغبة في الأذية سوى جهل بحقوق المجتمع وواجباته عليه؟ أو تخيلوا أن المجرم الذي دخل السجن كان فتى أمضى طفولته بأسرها في الشوارع وبين العصابات ولم يجد فرصة تقوده إلى الطريق القويم، أو وجد فرصة ولكنها لم تكن قوية كفاية لتجذبه من المستنقع الذي يعيش فيه؟ من الطبيعي جدا أن يرتكب مثل هذا الطفل الجرائم التي ستوصله إلى السجون الإصلاحية ، كيف إذا سيكون حاله في سجن لا يختلف كثيرا عن البيئة التي كان فيها؟ وإذا أسهبنا الحديث عن المجرمين الذين أقل ما يقال عنهم هي أنهم ضحايا مجتمعاتهم، سيقودنا الحديث إلى المرضى النفسيين الذين نشأت أمراضهم نتيجة عنف أسري أو إساءة معاملة لهم في فترات حياتهم فتغيرت المفاهيم وانقلبت رأسا على عقب بداخلهم ولم يعودوا قادرين على تمييز الصواب من الخطأ. أو أصيبوا بخيبة أمل فأصبحوا يائسين من الحياة الجيدة وأصبحوا يرمون اللوم على كل شخص آخر تجاهل مأساتهم ولم يحاول منعها. كل هذه أسباب تصنع مجرمين لا يريدون سوى حياة كريمة تقيهم سوء المعاملة وشر الاحتياج وسيكونون أعضاء فاعلة ومفيدة لمجتمعاتهم إذا ما تحقق هذا. فكيف نتوقع منهم أن يصيروا أفرادا صالحين ونحن نرمي بهم بأيدينا إلى تلك السجون المظلمة؟
السجن لا يحوي المجرمين
علينا أن نعي جيدا أن السجون الإصلاحية لا تحوي جميع المجرمين. بل الحقيقة المرة هي أن هؤلاء الذين من المفترض أن تمتلأ السجون بأمثالهم، هم هؤلاء الطليقين الذين يحملون زمام البلاد. وليس هذا الأمر متعلقا بالدول النامية فقط، بل أصبحت تلك الدول متساوية مع الدول المتطورة في شيء لأول مرة وهو ذلك الأمر. الدولة الذي تترك أحدا فقيرا ومحتاجا إلى سرقة غيره أو الذي يدع طفلا يتعرض للأذى النفسي والجسدي لينشأ مريضا نفسيا يؤذي نفسه قبل المجتمع، ما هو إلا مجرم لا يقل إجراما عن هؤلاء الذين ارتكبوا جرائمهم بأيديهم. والمشكلة الحقيقية هي أننا نتعامل مع المجرمين باعتبارهم كائنات لا تستحق العيش أو التعامل بآدمية عند النظر إلى جرائمهم الفردية لأنها قد تمس الأفراد شخصيا. فالشخص الذي يقتل طفلا إنما يؤثر على عائلة بأكملها، والشخص الذي يسرق بنكا على سبيل المثال إنما يؤثر على كل من يتعامل مع ذلك البنك، والشخص الذي يتعدى علي ممتلكات عامة أو خاصة إنما يكون أثره جليا لهؤلاء المستفيدين من تلك الممتلكات. ماذا إذا عن هؤلاء الذين يقتلون الملايين بلمح البصر نتيجة سياسة صناعية متعلقة بمنتجات غذائية أو أدوية؟ أو هؤلاء الذين يستغلون الدول الفقيرة أسوأ استغلال لإجراء تجاربهم ويحتمون بستر منيعة لا يصل إليهم أحد من ورائها؟ ماذا عن هؤلاء الذين يمتصون أموال الفقراء ليزيدوا هم ثراءا، وماذا عن هؤلاء الذين يشيعون التفرقة والطبقية بين أفراد الوطن الواحد لتمتلئ قلوبهم كراهية وحقدا ويكونون أكثر ميلا لإفراغ غضبهم على من يفوقونهم جاها ومالا حتى وإن لم يكونوا السبب في تلك التفرقة؟ القصد هو أن السجون الإصلاحية لا تحوي سوى هؤلاء المجرمين الذين يمكننا رؤيتهم بوضوح فقط لأنهم لم يرتكبوا سوى جرم واحد. بينما هناك الآلاف الذين يرتكبون الجرائم كل يوم وكل لحظة وهم أحرار متنعمون، لكن الفارق هو أننا لا نراهم أو نشعر بهم كهؤلاء الذين نطلق عليهم مجرمين.
المجرمون لا يستحقون الشفقة
ليت الأمر كان متوقفا على أن السجن لا يحوي المساجين وأن أكثر من بداخله هم هؤلاء الذين يرتكبون جرما أو جرمين، بل أصبح المدنيون أنفسهم الذين لا يتصلون للدولة أو منظمة السجون نفسها على قناعة بأهمية العنف والقسوة التي تتسم بها السجون الإصلاحية التي يفترض أنها إصلاحية. ولكن الأمر ليس كما يرى العامة إطلاقا. أجل، المجرم يجب أن يعاقب على جرمه لمنع غيره من الإيتاء بمثل هذا الفعل، ولكن هذا العقاب يكون بالمثل أو لمرة واحدة. فالشخص الذي يقتل عامدا متعمدا يكون جزاءه في الديانات المختلفة وفي المحاكم المدنية عند ثبوت تهمة القتل عليه هي الموت جراء ارتكابه هذا الفعل الشنيع. والشخص الذي يسرق ويتمادى في سرقته فجزاءه في المحاكم المدنية هي احتجازه وإبعاده عن ممتلكات الناس للحفاظ عليها –لن نتطرق في جزء الإصلاح الآن-، وفي الديانات السماوية كالإسلام يكون هناك شروط كثيرة إذا استوفاها السارق كان جزاءه هو قطع يده كرادع له مرة أخرى ولغيره من إيتاء مثل هذه الأفعال. كل حديثي عن السجون والمجرمين ليس الغرض منه التوقف عن عقاب المجرم، وإنما الغرض منه التوقف عن إيذاء المجرم جسديا ونفسيا يوميا ولما تبقى من وقته بالسجون لأن هذا لن يخلق منه سوى مجرم أكثر شراسة وعنفا لن يتوانى عن إخراج غضبه هذا على أول بريء يراه. والدليل على هذا هو أن معظم المجرمين الذين يخرجون من السجون يعودون إليها مرة أخرى في مدة تتراوح بين الستة أشهر إلى السنة حسب دراسة فرنسية أجريت على المساجين في فرنسا. فهل هذا هو الغرض الذي نرجوه من السجون الإصلاحية ؟ أن يتم احتجاز المجرم لمدة ثم يخرج ليؤذي شخصا آخر ويعود لتتكرر الدائرة مرة أخرى؟ هل نعاقب شخصا على اغتصابه طفلا فندخله إلى مكان يجعله أكثر قسوة ليخرج ويقوم باغتصاب طفل آخر؟ كل هذه أسئلة عليها أن تداعب عقولنا عندما نتحدث عن السجون الإصلاحية وعن الطريقة التي يجب أن تكون بها.
السجون الإصلاحية
ربما كانت معظم سجون العالم تتصف بالعنف والوحشية السابق ذكرهما، ولكن سيسركم معرفة أن هناك بعض الدول التي بدأت تلجأ في إنشاء سجونها إلى الإصلاح فعلا كهولندا التي أصبحت تعرض سجونها للبيع نظرا لانخفاض المنسوب الإجرامي بداخلها إلى أقصى الحدود. هذه الدولة ودول أخرى وإحصائيات مختلفة عن السجون الإصلاحية والمسجونين حول العالم تم إيرادها في برنامج “خواطر 11” لأحمد الشقيري الحلقة ال 21 بعنوان “العدل أساس الملك”. كان الشقيري يناقش قضية السجون هذه ويضرب أمثلة عن أعداد المسجونين الهائل في البلاد المختلفة والذي لا يؤدي إلى أي شيء سوى استهلاك موارد الحكومة في إبقائهم أحياءا فقط –ولا أرى أي خير في إبقاء فرد على قيد الحياة دون الإبقاء على إنسانيته-. فكرة الكرامة والإنسانية هذه هي ما كان الشقيري مهتما بها أكثر شيء، وكانت الهدف الأول الذي يدعو إليه الشقيري في حلقته هذه وكان مدعما كل آراءه واقتراحاته بأمثلة ناجحة من دول مختلفة حول العالم. هذه حلقة لن أتواني عن توصيتها إليك من أجل مشاهدتها، بل هذا البرنامج بأكمله في الحقيقة سأوصيك بشدة على مشاهدته.
سجن يحترم مسجونيه
في تلك الحلقة ذاتها من برنامج خواطر كان أبرز الأمثلة، والتي علقت في ذاكرتي حينها، هي عن سجن يحتوي على مكتبة ومحل بقالة وقاعة ألعاب رياضية. وكان المسجونين يعملون في ذلك السجن ويحصدون ما يشترون به السلع الغذائية اللازمة لطعامهم، ويدفعون اشتراك قاعة الرياضة اللازم لصحتهم اللياقية، ويقومون بخدمة المجتمع كمحاولة لتعويض المجتمع عن الأضرار التي سببوها من أجلهم. لقد كان هذا هو المثال الأقرب لمفهوم السجون الإصلاحية التي تدّعي السجون الأخرى أنها تقوم به. مكان يقوم باحتجاز الأشخاص الذين يرتكبون الجنح المختلفة التي لا تستدعي عقابا جسيما كالإعدام أو السجن المؤبد، ويقومون بإعادة تأهيلهم وإخبارهم بأنهم بشر يستحقون المعاملة الحسنة وأنهم أخطؤوا وكلنا نخطئ. الفارق هو أن أخطائهم كانت ظاهرة ويحاسب عليها القانون بينما أخطائنا مخفية ويحاسب عليها المشاعر والمقربون. والملفت أكثر في هذه المؤسسة هي أن نسبة عودة أصحاب الجنح هذه إلى المؤسسة الإصلاحية هذه –أصبح ظلما أن نطلق على هذه المؤسسات اسم السجون الإصلاحية ومساواتها مع غيرها من السجون – شبه منعدمة. بل أصبح معدل الجرائم نفسه في هذه البلدان شديد الانخفاض مقارنة بالدول الأخرى التي تعتمد على قمع وإهانة المساجين. بالطبع يتطلب الأمر دولة قوية وواعية لتقوم بمثل هذا الأمر وتوفير مثل هذه المؤسسة. ولكن من المفترض أن يكون مثالا كهذا هو المثال الذي تسعى السجون المختلفة للوصول إليه.
تخليص شوشانك Shawshank redemption
هذا الفيلم والذي يجلس على قائمة أفضل الأفلام منذ تاريخ صدوره على مواقع تقييم الأفلام المختلفة، لم يكن يتحدث عن سجن يحترم إنسانية المجرمين، ولكنه كان يتحدث عن “ِشوشانك” الذي دخل السجن ظلما ولكنه تمكن من تحويل ذلك المكان الذي يندرج تحت قائمة السجون الاعتيادية، إلى مؤسسة إصلاحية صغيرة ساهمت في تحسين ثقافة العديد من المساجين. فرغم أن “ِشوشانك” كان بريئا ولكنه لا يملك دليل براءته، ورغم أنه كان مستضعفا عند بداية دخوله السجن وكان يتم التنمر عليه، إلا أنه استطاع أن يقدم لهؤلاء المساجين أكثر مما تمكنت الحكومة من تقديمه إليهم في حياتهم بأكملها. فقد عمل شوشانك على إقامة مكتبة وتشجيع السجناء زملائه على القراءة. بل ساهم أيضا في محو أمية سجين شاب أتى إليهم وحمله على دخول امتحانات القبول للمدارس ليكمل دراسته داخل السجن. وكان شوشانك السبب الرئيسي في تغيير حياة بعض المساجين فقط بنيته الصادقة في ترك تأثير جيد على حياة هؤلاء الأشخاص.
علينا أن ندرك أن جرم أحدهم ليس حكما بالإعدام عليه، وأن ما يفعله إنسان في لحظة غضب أو نتاج عنف مجتمعي واقع عليه ليس مبررا من أجلنا أن نهين إنسانيته كما أن تلك الأسباب ليست مبررا من أجله ليتعدى على حقوقنا. علينا أن ندرك أن السجون بطريقتها الحالية لا تساهم بأي شيء إلا إلى خلق مجرمين أكثر عنفا، وأن استسلامنا لهذا الواقع لا يجعل منا أي شيء سوى أشخاص يساهمون في محو كرامة وإنسانية شخص كان يمكن أن يتحول إلى إنسان مفيد للمجتمع بإبداء بعض التسامح والاحترام فقط.