منذ قرابة الألفين سنة واحدة من أكبر الإمبراطوريات التي عرفها التاريخ، دفنت تحت أطنان الحمم البركانية، بدون أي استعداد من أهلها، إنها مدينة بومباي القديمة، وراء هذه المدينة أسرار قديمة وأبحاث تجرى عليها حتى يومنا هذا لفك الغموض المحيط بها، وفي مقالي هذا سأعرفك على بعض أسرار مدينة بومباي وكيف اختفت، فتابع معي عزيزي القارئ.
بركان يدمر مدينة بومباي في ثوانٍ
بركان “فيزوف” في مدينة بومباي
تعبر كارثة بركان مدينة بومباي واحدة من أكبر الكوارث الطبيعية في العصور القديمة، حيث تدمرت ومحت الكارثة مدينة كاملة من على وجه الأرض في أقل من 24 ساعة، بتعداد سكاني يقدر بخمسة ألاف شخص سواء الموت بالاحتراق الفوري، أو بسبب الأبخرة، أو بتجمد الفوري في أقل من ثانية بسبب الحمم والطين الساخن.
في صباح يوم 24/8/79م انفجر بركان فيزوف الكبير صاعداً حممه نحو مدينة بومباي المبنية تحته بسبب خضرة الأرض الخصبة بجانب البركان، والذي فوجئ أهلها بتلك الكارثة، ورغم أن البركان أعطى إنذارات وتحذيرات ببعض الهزات الأرضية قبلها بيومين إلا أن الشعب لم يكترث حتى أنهم لم يدروا من الأساس أنه بركان وما يترتب على كونه كذلك لأنه حتى تلك اللحظة لم تكن كلمة بركان لها معنى في اللاتيني، ومارسوا حياتهم وهم لا يعلمون ما القادم، ولو علموا لكانوا أخلوا المدينة فوراً بالتأكيد، فغضبت قوة الطبيعية عليهم ولعدم احترامهم سيادتها، لتترك وراءاها مدينة كاملة حفظت لسنين طويلة بحالتها الأصلية ولكن المدمرة بسبب البركان، حتى أن تماثيل البشر منتشرة حول المدينة جامدة في نفس وضعها لحظة الموت، فالبعض منها ستلاحظ عليه بشدة لمحة الخوف والرعب من منظر البركان الغاضب الرهيب، والبعض الأخر لم يتمكن حتى بتكوين ذلك التعبير على وجهه من شدة وَهل المصيبة، وتركت أثار من حيطان وبيوت وأدوات نفيسة ومتاجر تحكي قصة هذه المدينة التي اختفت في دقائق معدودة.
الأبخرة المتصاعدة من الانفجار
الأبخرة المتصاعدة من الانفجار الأول للبركان حملته الرياح مباشرة إلى فوق المدينة، فخطف منها نور النهار وتحول الأمر لكابوس حقيقي لم يخرج منه أي حي وبعد نصف ساعة عندما وصلت الأحجار والصخور الملتهبة إلى السماء وقابلت الهواء البارد، تجمدت ومع الأبخرة والسموم تكونت الرعود ومن ثمة سقطت تلك الصخور المتجمدة على المدنية كأنها أمطار من الأحجار الساخنة المتحجرة، منها الصخور الصغيرة ومنها الأحجام الكبيرة التي إذا ما سقطت على شخص بكل قوتها من السماء هشمت رأسه بالكامل.
الهياج الكبير
وحينها فقط بدأ الشعب في الهيجان والذعر، وبدؤوا يطيروا في الشوارع هاربين من ذلك القاتل غير الرحيم، ومن وقع لن يستطيع القيام بسبب الرعب المتفشي في الجماهير الغفيرة حتى العبيد والذين تواجدوا بكثرة بسبب غنى أغنياء هذه المدينة الفاحش، لم يكترثون لأسيادهم أو عقوبة الموت للهارب، فهنا الكل هالك والكل متساوي أمام الموت، البعض قد يكونوا قرروا البقاء بالمنزل الذي يظنون أنه سيصمد أمام هذا البركان الرهيب وكان هذا أسوء قرار بحياتهم.
وقت الظهيرة
عند الظهيرة تكدست الأحجار المتساقطة فوق المباني والذي كان أغلبها غير مصنوع جيداً فسقطت السطوح على رؤوس الساكنين بالكامل ودفنوا بعضهم أحياء تحت أكوام الحجارة والتراب. وحتى بيوت الأغنياء أصبح الأمر مسألة وقت لا أكثر ولكن أمر صمودها وحمايتهم أمراً مستحيلاً مع قوة بركان مدينة بومباي، وحتى وإن استطاعت فالبيوت كلها ستندفن بالكامل تحت الأنقاض.
على وقت الظهيرة تقدمت المدن على الناحية الأخرى من الضفة بالمساعدة بعد متابعة ما حدث والغيوم التي تغطي مدينة بومباي، لأن مدينة بومباي هي تحت جبل البركان ومحاوطة بالمحيط وأقرب مدينة أمامهم على الضفة الأخرى تحتاج لوقت حتى وصول السفن لحمل المستغيثين، إذ لم يكن التنقل سهل أبداً بذلك الوقت، فعدد الناجين كان قليل جداً مقارنة ممن حوصروا بالمدينة.
نزول الحمم
بعد ساعات معدودة بدأت الحمم البركانية في النزول من سفح الجبل على شكل موجات تتقدم لأكل البشر أحياء، وتقدر سخونتها بخمسة أضعاف سخونة الماء المغلي، الذي إذا وقع كوي الجلد، فما بالك بالذي يدفنون فيه؟! وتقدم الحمم لتصل أولاً إلى الميناء لتهرب من أمامها الجموع متدافعة نحو المياه ولكن إلى أين فالحمم ورائهم والمياه أمامهم ولا منفذ من سرعة الحمم وقوتها.
وكانت أثار هذه السخونة العالية، موت فوري مع بقاء الجثث بحالتها ووضعها على شكل أحجار متحجرة حتى أنها بقت هكذا طوال هذه السنين، ومن يذهب في زيارة سياحية للمدينة سيلاحظ انتشار الجثث المتحجرة، وكأنها إعلان عن قوة الطبيعية إن غضبت.
الدمار يصل للمنازل
أما من كان بداخل المنزل فوصلت لهم الحمم وبخرت كل الأنسجة التي تغطي العظام تاركة هياكل عظمية، سلخت في ثواني معدودة من شدة حرارة الحمم وصدمة الموقف. وأخيراً عندما هدأت الحمم تركت مدينة بومباي مدفونها تماماً تحت 25 متر من الحمم البركانية والصخور المتكونة على مر الوقت تقدر بعشرة بلايين الأطنان من الحمم والصخور الملتهبة والأبخرة والتراب والرماد.
لم ينتهي الوضع عند هذا الحد لأن البركان أكمل غضبه إلى الأخر، بعد فقط 18 ساعة من بداية الانفجارات تصاعدت أبخرة السموم وغازات ثاني أكسيد الكربون القاتلة الناتجة عن الانفجار، لتمحي معها أي أثار لكائنات حية حتى على بعد من مدينة بومباي، بعدما عبرت الأبخرة السوداء المياه ووصلت للجهات المقابلة، الاختناق مع التحجر الداخلي للأعضاء وحرقها وكأنهم يتنفسون نيران الموت، هو السبب موت هؤلاء البشر بتلك الطريقة البشعة، مما قتل ألاف الأشخاص أكثر مما كانوا في مدينة بومباي نفسها.
حتى إن الإمبراطورية الرومانية وقتها حاولت إرسال بعثات إنقاذ وإعادة بناء ولكن لمن وكيف، الأمر كان قد قُضى. وأصبحت مدينة بومباي مفقودة ومنسية ل1500 سنة حتى تم اكتشفها بالصدفة سنة 1594.
تركت تلك الكارثة حضارة كبيرة بمعابدها وشوارعها ونظام عيشهم وتقاليدهم مرسومة على الحائط وجثث تعبر عن الطبقات الغنية والفقيرة والعبيد جنباً إلى جنب، كمدينة أثرية حالياً يزورها الكثير من السياح سنوياً.
ولكن الأخطر أن مدينة بومباي هي حالياً مدينة مأهولة بثلاثة ونصف ملايين شخص، ويقدر العلماء حدوث مثل ذلك البركان بقوته هذه التي تمحي مدينة كاملة، كل ألفين عام تقريباً، هل قارب وقوع ثوران لذلك البركان المدمر مرة أخرى؟!
بعض أسرار مدينة بومباي
تخفي مدينة بومباي حضارة كبيرة كما ذكرنا لأنها كانت من أهم المدن في الإمبراطورية الرومانية في وقت مجدها وعزها، وكانت مركز للتجارة ومقر أغنياء الأمة، وكانت تنتشر بها المعابد لعبادة الأوثان المختلفة، وانتشر بها تجارة الرقيق.
كما أن من الواضح كونها المدينة الجنسية الأولى بذلك الوقت، ليس فقط على العبيد الإناث وإنما بدليل انتشار بيوت الدعارة بمختلف أنواعها في كل أجزاء المدينة بشكل واضح جداً، حيث توجد رسومات لأوضاع ومفاهيم جنسية لإغراء الزبائن في كل بقع المدينة، أو حتى كزخرفة لبيوت الأغنياء ومقر ضيافتهم للضيوف. وكانت تلك الممارسات تعتبر ربح للفقراء وتظل الأرباح للأغنياء أيضاً والإمبراطور شخصياً، لأن بذلك الوقت كانت تلك الأماكن مقننة بقوانين من الإمبراطور.
وتنتشر بها المسارح التي كانت تمارس فيها الألعاب العنيفة للمقاتلين، والتي كانت تنتهي إما فائز أو ميت ولا يوجد حل أخر. فلذلك تسمى المدينة الفاسقة التي تم ممارسة الجنس فيها علناً سواء للرجال أو السيدات أو حتى المثليين.
ولكن الأبحاث الجديدة أثبتت أن الإمبراطور تيتوس التي جاء بعد الإمبراطور نيرون المجنون قبل أربع سنوات فقط من تلك الكارثة على مدينة بومباي، وكان يصدر أوامره بوقف هذه الممارسات العلنية وإعادة دهن الحائط لإخفاء تلك الرسومات. فهل هكذا كان الأمر؟ أم حقاً تلك الفاجعة كانت بسبب غضب الله على هذا الشعب؟ أظن أن لا أحد سيعلم ذلك.
أضف تعليق