إيزيس وأوزوريس أسطورة الحب الفرعوني القديمة التي كانت قبل قصص قيس وليلي أو روميو وجولييت بأكثر من ألف عام، ذلك الحب الأسطوري المضحي الذي جعل من إيزيس وأوزوريس آلهة عند المصريين القدماء محبوبين هم وابنهم حورس، وجعلت الإله ست مكروه لفعله الشر ومحاولة قتل أخيه. في مقالي أحب أن أعرفك أكثر على تلك القصة الجميلة من نواحي عديدة وسأرويها لك بالتفصيل كما لو كنت شاب فرعوني يسمعها في مجلس معبد الإله حورس بأسوان منذ ألاف السنين في مصر القديمة.
إيزيس وأوزوريس : القصة الكاملة
قصة إيزيس وأوزوريس
عليك أن تعرف أولاً أن تلك القصة لها أجزاء مختلفة وقصص متضاربة في مختلف البرديات والصور والكتابة على الجدران وسأفسر المصادر فيما بعد وأن هذه القصة التي سأرويها هي مجهود تجمعات متناثرة من مختلف الأزمنة التي عُبد فيها إيزيس وأوزوريس من العصر الدولة القديمة والوسطى والحديثة.
بداية قصة إيزيس وأوزوريس
تبدأ القصة بأوزوريس الحاكم العادل حاكم مصر التي ينتشر فيها الخير والسلام وهو منحدر من أصل الآلهة الأولى “رع” أو “أتوم” أبويه ألهة الأرض والسماء “جب ونوت” وزوجته وأخته بنفس الوقت إيزيس الجميلة، ولم يكن لديهم طفل بعد. أخوه ست وزوجته وأيضاً أختهم الرابعة نيفتيس، وست إله الفوضى والشر والذي يكن لأخيه حقد بسبب حقه في المُلك ولأنه ركله في يوم ما وبعد القصص تقول بأنه خانه مع زوجته نيفتيس. إيزيس وأوزوريس حكموا مصر بالعدل والرحمة وكان الخير ينم أرجاء مصر ومناطقها الاثنين وأربعين. أما ست بخطط لقتل أخيه حتى يغتصب منه العرش ولم يذكر المصريين كيف قتله حقاً بسبب اعتقادهم بقوة الكتابة وأنها تستطيع الحدوث مرة أخرى، ولكن الأغلب هو أنه وضعه في تابوت على مقاسه فقط بعدما أعطى له الخمر ليسكر وألقاه في النهر ليغرق، وبدون وريث استطاع ست المطالبة بالعرش الفرعوني وحكم حكماً مظلماً تعم فيه الفوضى والشر وانهيار المملكة.
الحب والعشق
إيزيس من حبها لم ترضى للموت بنهاية لقصة حبهم فأخذت تبحث عن جثة زوجها الغريق وهي ترثي له وتندب حبها الوحيد، لتجده بالنهاية في مدينة جبيل ودفعته المياه إلى هناك. ولكن بطريقة ما تتبعها ست ولم يتركها وخطف منها الجثة وقطعها إلى 42 قطعة ونثرها في مناطق مصر كلها، فلم تيأس وأصرت على جمع أجزاء جسد زوجها المتوفي وطلبت مساعدة الإله “تحوت” إله السحر والشفاء، والإله “أنوبيس” إله التحنيط، فتمكنوا من إحياء أوزوريس لفترة وجيزة فقط ونفخت فيه إيزيس الروح ومن ثم نامت فوقه لتحبل منه ابناً وهو حورس القوي، وودعت زوجها موقتاً ليحكم هو في “دوات” مملكة الموتى. وتعمل هي على الحفاظ على ابنها وحيدهم من بطش ست حتى يتمكن من المطالبة بالعرش حين يكبر.
تربية حورس
بدأت إيزيس في تربية حورس ورغم محاولات ست بالتخلص منه لأنه يعلم بأن ذلك الولد خطير على مطالبته بالعرش، فأرسل له العقارب والثعابين ولكن إيزيس الأم المثالية كانت تحمي ابنها وتستخدم نصوص السحر لشفائه من أي خطر وترضعه كثيراً حتى يقوى ويستطيع محاربة ست. وكان لها ما أرادت فكبر حورس وأخذ بالمطالبة بعرش أبيه.
العنف المتبادل
هذه المطالبة اتسمت بالعنف بين الطرفين وكانت تقام أمام “التاسوع المقدس” وهو مجلس الآلهة الكبيرة التي تحكم في الخلاف ويظهر بها رئيس المجمع وحورس وست وإيزيس لمساعدة ابنها وتحوت الذي يحاول فض النزاع. الصراع بين الإلهين يكون بطرق كثيرة مثل المصارعة والقوارب النهرية على صور فرس النهر ويستمر لمدة ثمانين عام بمساعدة من أتباع الطرفين خاصة إيزيس أم حورس وتتشابك الأحداث والنزاعات والتي تحتوي على إيذاء جنسي أيضاً من ست لحورس ولكن حورس يرد الصاع صاعين، فكان هو المنتصر في أغلب الصراعات. نهاية الصراع يتمثل في سرقة حورس لخصيتي ست ولكن ست سرق عين حورس والتي تتمثل في فكرة الخسوف القمري في العقيدة المصرية، ولكن الأمر ينتهي بالأخير برجوع الأعضاء المسروقة.
النهاية
بالأخير ينتصر حورس ويأخذ حقه الشرعي في المُلك وينفى ست ليكون ملكاً على الأرض الجرداء وكعقاب له يحمل ست جسد أوزوريس إلى قبره ثم يقيم الابن المحفل الجنائزي ويقدم القرابين وتكون منها عينه الضائعة، ليتم بذلك إعادة إيحاء كاملة لأوزوريس ويكون إله الموتى ومختص بالإيحاء والموت المتمثلة في الخريف والربيع، وحورس هو إله الأحياء بتأييد من أبوه وأمه، وترجع إيزيس وأوزوريس لبعضهم لينتصر الحب والخير على الشر والفوضى.
تأثير قصة إيزيس وأوزوريس في نفسية المصريون القدماء
لم تكن قصة إيزيس وأوزوريس محض قصة تروى للأطفال قبل النوم بل كان لها تأثير على نفسية وتفكير المصريين القدماء لما فيها من معاني جميلة، قد يكون أغلبها متصل بالعقائد الدينية ولكنها أيضاً تمتلك معاني إنسانية جميلة من ضمن تأثيرات القصة في الشعب المصري ما يأتي:
- أولاً تم استعمال قصة إيزيس وأوزوريس ليس كجزء من الأدب والثقافة فقط بل لتعليم قيم جميلة مثل عدم التربص بالشر ومحبة الأخوة ومحبة المرأة لزوجها ومساعدته دائماً والبقاء على الحفاظ على العهد بينهما حتى بعد الموت.
- ثانياً كانت قصة إيزيس وأوزوريس تحتوي على بعض المشاهد الكاملة التي تتكلم عن كيفية الشفاء من أمراض معينة مثل لدغة العقرب أو الثعبان، صحيح أن الأمر كان يرتبط ببعض الطقوس السحرية ولكن الجزء الطبي من الموضوع كان مهماً جداً، مثل عين حورس التي أصبحت تشكل تميمة للشفاء والحماية. كما احتوت على رموز عقائدية مثل مراسم الجنازات ولكل ذلك أهمية كبيرة في حياة المصري الفرعوني القديم.
- ثالثاً بعد موت وإيحاء أوزوريس أصبح الفراعنة وبعضاً من العامة خارج الأسرة الملكية يتمنون لو كان بمقدورهم حقاً فعل ما فعله أوزوريس وأن بصالحه انتهت قصته نهاية طيبة وكان حاكم عالم الموتى، فبالتالي دفع ذلك المعتقد للإيمان بأهمية أعمال الفرد في الدنيا حتى تكون الأخرة طيبة، بغض النظر عن التفكير نفسه إلا أن ذلك الأسلوب جعل الحياة المصرية القديمة أكثر رقياً وأمناً والناس تعمل وتجتهد ويحاولوا البعد عن الشر وعن الأفعال السيئة وهذا كافي لبناء مجتمع قوي.
- رابعاً في أيام الدولة الوسطى كانت عبادة أوزوريس على أجدها وكانت تقام له الاحتفالات والمواكب وتزرع في شهر الاحتفال به بعض البذور وينمو الرخاء على البلد كلها، وكان ذلك في شهر “كيهك” حسب التقويم الفرعوني.
- خامساً تداخلت الأقاويل مع القصص وأصبح المصريين يعتقدوا أن إيزيس وأوزوريس وحورس حدثت بالفعل في زمن سحيق لم تكن عرفت فيه الكتابة، فأصبح التجسيد لأحداث القصة أمراً مهماً خاصة في حفلات التتويج الملكي، يجب أن يقيم الملك الجديد العقائد الجنائزية للملك القديم ويهتم بما كان يرغب تماماً كما اهتم حورس بأبيه أوزوريس، حتى يصير مُلكه جيداً ولا تلعنه الآلهة.
- سادساً أصبحت صورت إيزيس التي ترضع فيها ابنها رمزاً أساسياً خاصة بالعصور المتأخرة، وكانت مصدر إلهام لكل أمهات المصريين في تضحياتهم، وكانت تعتبر أماً لكل الملوك المصريين، ومثلت إيزيس دور الزوجة والأم المضحية التي تهتم بعائلتها وهي قدوة لكل المصريات. حتى اعتبرها هي ونيفتيس حماة الموتى في الأخرة (أي إعلاء لمكانة الأم والنساء بالمجتمع) فكانت فكرة متأصلة في عقول المصريين.
- سابعاً لم تتوقف قصة إيزيس وأوزوريس عند تأثيرها على المجتمع المصري بل امتدت لتصل إلى ما وراء البحر المتوسط وتؤثر وتتأثر بالثقافة، وأصبحت جزء من العقائد ومعبودة كبيرة، حتى غطت عليها المسيحية فتأثرت بثقافتها، فاشتهرت رسومات العذراء مريم وهي تحمل الرضيع، وكانت تلك الفكرة بالأصل صورة لإيزيس وغيرها من التأثيرات الثقافية والفنية.
أصل أسطورة إيزيس وأوزوريس
بعد تعرفنا على القصة سنعرف الآن من أين جاءت وكيف وصلت لنا. أسطورة إيزيس وأوزوريس بدأنا رؤيتها مع نصوص الأهرام وهي أقدم نصوص فرعونية دينية وهي موجودة داخل الإهرامات لحماية الفرعون ومساعدته في الآخرة وفي الانبعاث مرة أخرى، وعمرها يتعدى الألفي عام قبل الميلاد أي إن القصة قديمة جداً ومن أولى أساطير الحب في العالم، ولكن من المرجح أنها كانت معروفة لدى الشعب المصري قبل كتابتها بكثير كقصص منفصلة، أي لم تجمع القصة كواحدة وتحتوي على كل تلك الشخصيات سوى في نصوص الإهرامات.
وهذه الأسطورة الرائعة جاءت من وحي ثقافة المصريين وملاحظتهم للطبيعية في طريقة موت النبات وإعادة إحياؤه فجاءت من هنا فكرة موت وإيحاء الإله، كذلك إيمانهم بدور الأعمال الطيبة وفكرة المحاسبة ودور الزوجة والأم، فالمصريين تمتعوا بعين ثاقبة للطبيعية مكنتهم من بناء هذه الحضارة العريقة.
حورس وست
التضارب والخلاف بين حورس وست كان دائماً محور تفكير وتفسير علماء المصريات، لأنهم يرجحون أن الأمر هو صور مرموزه لانقسامات داخلية في العصور الماضية بين شمال وجنوب مصر، وتختلف مع الزمن فيمن كان تابع لحورس ومن كان تابع لست. توجد التناقضات بين قصة حورس وست في أماكن مختلفة، لأن في بعض البرديات الأحدث تجد أن قصتهما منفصلة وانهما أخويين يتسارعان على عرش مصر، لهذا استنتج العلماء أن قصتهما لم تدمج في قصة إيزيس وأوزوريس في فترات ما من العقائد المصرية، فلم يكن حورس ابناً لأيزيس وإنما تحورت القصة لتصل لنا مشمولة بالنهاية.
إذاً الصراع الأساسي الحقيقي سواء الذي دار بين حورس وست أو قصة الملك الصالح أوزوريس وأخيه الشرير، فإن كلها تبقى مجرد غموض، هل حقاً كان هناك صراعات سياسية داخلية في فترة ما في التاريخ كانت بين عبدة حورس وعبدة ست، مما دفع الخيال الأدبي لتصوريها في هذه القصة؟ أما إنها محض شرائع وقصص وهمية ولم يكن لها وحي سوى الخيال وفقط تم ترتيب الأمر لتتمشى مع الشرائع الدينية والطقوس وتثبيت بعض المفاهيم الدينية داخل عقول العامة، بألوهية الملك وعبادة الآلهة وتقديم القرابين والمفاهيم الجيدة للحفاظ على مجتمع جيد ومتماسك؟
القصة في الأدب الفرعوني
بعد ذلك نجد ذكر القصة في نصوص التوابيت وكتاب الموتى وتمثيلية منف وأيضاً الترانيم الكبيرة لأوزوريس التي تعتبر أغنى مصدر للقصة كاملة، وكلهم تحتوي على مجموعة من النصوص الدينية والطبية بالإضافة إلى القصة ولكنها دائماً تكون مختلفة حتى تناسب ذلك العصر في المفاهيم المطلوبة، وقصتها المفككة تمثل مادة خام للتحوير ولزيادة غنية بالمفاهيم والرموز الدينية المعقدة.
حتى إن الكتب الهزلية كانت تحتوي على أجزاء من الأسطورة أشهرها كتاب الصراعات بين حورس وست، وهو كتاب يجسد القصة ولكن بطريقة هزلية كوميدية تابع للأسرة العشرين.
أما أحدث النسخ للقصة فوجدت عند الكتاب اليونانيين والرومانيين فيما بعد مثل هيرودوت وتيودور الصقلي وأخيرهم وأشهرهم هو بلوتارخ التي قصته احتوت على تفاصيل كثيرة لم تكن في النسخ الأصلية المصرية فتشوهت القصة على أيدي هؤلاء المؤرخين مما أنتج قصة تختلف تماماً عن القصة الأصلية، لأن القصة الأصلية مفككة وغير متماسكة وكأنها متروكة للقارئ ليحدد بها بعض الأجزاء ولكن قصص هؤلاء محكومة ومضبوطة ومكتملة التفاصيل من وحي خيالهم، حتى إن الكتب الجديدة تتبع نفس قصصهم ولكنها أبداً ما كانت هي القصة الأساسية.
أخيراً عزيزي القارئ قصة إيزيس وأوزوريس رمز من رموز الأدب المصري القديم الذي يمتلئ بالحكم والمعاني الجميلة والطريقة الأدبية الفريدة في صياغتها، وإنها بالفعل أولى قصص الحب والتضحية بالعالم.
أضف تعليق