أفلام السينما أصبحت أحد أهم وسائل التأثير في العالم اليوم، قيل قديمًا “صدق نصف ما ترى، ولا تصدق كل ما تسمع” كنا نتساءل ونحن صغارٌ إن كنت أرى شيئًا بعيني الاثنتين رؤيا اليقين أوتطلب مني أن أصدق نصفه فحسب!! أي منطقٍ هو ذاك؟! لكن في عصرنا الحديث صدقني ستكون محظوظًا لو وجدت نصف ما تراه على الأكثر حقيقيٌ وصادق، العالم صار مخادعًا وكل شيءٍ صار له أكثر من وجه، الحقيقة ضاعت ملايين المرات في قلب الوهم والخدع أصبحت أسلوبًا للحياة، العالم ببساطةٍ ملّ الواقع وملّ الحقيقة وملّ البساطة والوضوح، العالم صارت به رغبةٌ عارمةٌ بالجديد والمجهول، يريد أن يرى أشياء يعرف في قرارة نفسه أنها غير حقيقية ولا واقعية وأنها لا تمت لعالمه بصلة وذلك بالضبط هو الشيء الذي يمتعه ويسعده، أصبح الواقع مملًا الواقع الذي لن تستطيع الطيران كالعصافير وتعرف أنه منطقيًا لن تكون أبدًا قادرًا على امتلاك جناحين ينضبان بالحياة ولن تكون قادرًا على التحليق في السماء بدون آلات، لكن الفكرة تُمتعك وتداعب خيالك لذلك تُحب أن تراها في الأفلام وتدفع لأجلها المال.
الأفلام! ذلك العالم الذي لم يعد فيه مجالٌ لتعرف الحقيقة من الخيال والصدق من الكاذب والواقع من الوهم، دوامةٌ كبرى من الخدع والوهم والخيال ونحن سعداء بركوب قطارها ونقف بالساعات على رصيف المحطة بانتظاره، نعرف أن ما يتم تقديمه لنا ليس حقيقيًا وأننا بعد انتهاء الفيلم سنعود لواقعنا الجامد الكئيب بجانب بريق ذلك الخيال لكننا أصبحنا أشبه بالمدمنين نتحرى جرعة الخيال وقيسًا من نور الوهم نحاول أن نضيء به درب الحياة المظلم، وكلما زاد الخيال جموحًا وزادت الخدع حبكةً وزادت الكذبة واقعيةً كلما أحببناها أكثر وأكثر، لا مشكلة في ذلك ولا عيب أبدًا لكن المشكلة الحقة هي كون الخيال سلاحًا ذو حدين استُخدم مرةً لصالحنا لكننا لم نأمن شر أن يُستخدم ضدنا.
أفلام السينما : سلاح ذو حدين
الحقيقة ليست كما ترى
محاولة استيعاب هذه النقطة عزيزي القارئ سيفسد عليك أكثر من نصف متعة مشاهدتك الأفلام كما أفسدها عليّ يومًا فإن كنت مصرًا للتمسك بمتعتك بأكملها فلا تقرأها وانتقل للفقرة التالية، هي فكرةٌ واقعيةٌ بحتة وتفكيرٌ فلسفيٌ لا أهمية له في الواقع لكن مجرد كوننا نحب أن نُخدع فنحن نترك حقيقةً كتلك الحقيقة تمر علينا وتُخزن في عقلنا الباطن دون التوقف عندها ودراستها وتمحيصها عن قصدٍ منّا، فلتستدعِ من ذاكرتك مشهدًا مؤثرًا رأيته في أحد الأفلام وعلق بذهنك وربما بكيت فيه، دعنا نتخيل مشهدًا يموت فيه أحد الأبطال بسبب انفجارٍ كبيرٍ وتتناثر حوله الأشلاء والدماء والركام والحطام ويتصاعد الدخان بينما شخصيةٌ أخرى من الشخصيات تحادث البطل في لحظات احتضاره وترجوه بالبقاء ويموت البطل وتنتحب الشخصية الأخرى وننهار جميعًا بالبكاء، أمرٌ مؤثرٌ جدًا لكن تعال معي أصطحبك لما وراء الشاشة وآخذك للمشهد الحقيقي الأوسع هناك ستجد بدلًا من مشهد المكان المهجور الذي مات فيه البطل شريدًا وحيدًا بلا عونٍ أو مساعدة ما لا يقل عن مائة شخصٍ من طاقم التصوير وفريق عمل الفيلم واقفين من حولهم جميعًا لكن خارج انتباه الكاميرا، وستجد الأشلاء ما هي إلا دمى محشوة والركام والحطام مجرد خلفيةٍ خضراء والدم صبغة وتم إيقاف التصوير لوضع قطرة دموعٍ صناعية في عين الشخصية المنتحبة لتبكي! وبعد انتهاء المشهد قام البطل الميت يضحك ويمزح، لم يعد الأمر مؤثرًا بعد الآن أليس كذلك؟ رغم أنك في أعماقك تعلم كل ذلك وتعلم أن الممثل لم يمت وأنه نهض بعد تأدية دوره لكنك تختار تنحية تلك الفكرة عن عقلك تمامًا ودفنها لتستمتع بكذبةٍ تعرف حقيقتها، إنه فن الوهم يا سادة ومجرد التفكير في شيءٍ كهذا كلما شاهدت فيلمًا سيفسد عليك واحدةً من متع حياتك، لكننا ما زلنا نختار الخدعة على الحقيقة، يا لعجب الإنسان!
خدع أفلام السينما
إن جربت أن تشاهد فيلمًا قديمًا وفيلمًا جديدًا خرج للضوء من فترةٍ قصيرة ستجد الفارق جبارًا بين الاثنين في كل شيءٍ بدايةً من القصة والحبكة والخيال وحتى الخدع السينمائية العديدة، جاءت التكنولوجيا بالنعيم على صنّاع الأفلام السينمائية وأعطتهم من الآليات والإمكانيات ما لم يكن يحلم بها من الأساس صُناع الأفلام القديمة، صرت اليوم قادرًا على تقديم خدعٍ كأنها واقعٌ موجودٌ فعلًا على أرضنا وعلى تقديم محتوى خيالي شيق بجهدٍ بسيط وتكاليف أقل من الحد الأدنى لأي فيلمٍ عادي، وستجد المفاجأة أن بعض تلك الأفلام يحقق أرباحًا عاليةً جدًا قد تفوق تكاليف إنتاجه بعدة أضعاف، الخدعة الأكبر والأوسع والتي لم يعد هناك فيلمٌ تقريبًا إلا وتُستخدم فيه هي خدعة الغرفة الخضراء، فصار طاقم الفيلم بدلًا من أن يُجبروا على الانتقال لموقع تصويرٍ معين أو على بناء ديكورٍ كاملٍ للماكن الذي يريدون إدخاله في الفيلم فهم يجعلون الأبطال يدخلون في الغرفة الخضراء أو ما تُعرف باسم الكارما وبعد التصوير يتم تركيب المشهد المصور على المواقع والأماكن وبهذا يخرج لنا مشهدٌ شديد الواقعية بدون جهدٍ يُذكر، ليست تلك الخدعة للأماكن الجامدة فحسب وإنما يمكن تنفيذ مشاهد الانهيارات والانفجارات وكل المشاهد القوية والعنيفة عن طريقها بمنتهى السهولة، كما أنها تساعدهم في بناء الشخصيات الخيالية فعلى سبيل المثال من منّا لم يُشاهد فيلم توايلايت؟ وكلنا عرفنا جايكوب عندما كان مستذئبًا وبالطبع لا توجد ذئابٌ بهذا الحجم فهل فكرت يومًا كيف صوروا ذلك الذئب؟ بزة ذئبٍ مثلًا؟ كلا للأسف إن بحثت عن كواليس التصوير ستجد أنه رجلٌ يرتدي بزةً ضيقةً خضراء وتم ببساطة تركيب صورة الذئب عليه فبدت حقيقية! عالم الخداع في تصوير الأفلام واسعٌ ومتشعبٌ جدًا والخدع فيه لا تنتهي بل إن بعضها يكون نتاج إبداع الطاقم في لحظة تصوير الفيلم بتقديم حلولٌ ارتجاليةٍ في التصوير، بينما من ناحية أخرى شكلت المعدات والبرامج المختلفة للتركيب والتعديل فارقًا هائلًا في عمل وجودة إنتاج تلك الأشياء وأعطتها دراتٍ خارقة، كل ذلك يحدث بينما أنت جالس ترى الرجل يطير وهو معلقٌ بأسلاكٍ تم محوها من المشهد أو الكرسي يتحرك من تلقاء نفسه وهو مثبتٌ بمسارٍ غير مرئيٍ في الأرض، مرةً أخرى فن الوهم!
سلاحٌ ذو حدين
يأتي التساؤل بريئًا هنا ما المشكلة في كل ذلك؟ نحن لسنا حمقى ونعرف أن ذلك كله تمثيلٌ وأداء وندري أن البشر لا يطيرون والكراسي لا تتحرك من تلقاء نفسها فأين المشكلة؟ لماذا نفكر في ذلك من الأساس؟ المشكلة تكمن في كوننا اعتدنا على الخداع وتقبل الوهم دون فلترته على عقولنا، في كوننا أحيانًا يتم تقديم صورٍ خاطئةٍ لنا لكننا لا نفكر فيها ولا نبحث في حقيقتها وإنما نتقبلها كما هي، المشكلة ليست في الأشياء التي نعرف أنها خاطئة وأنما في الأشياء التي لا نعرف إن كانت صحيحةً أم خاطئةٍ فنؤمن ونسلم بها دون تفكير، أحيانًا تكون الحقيقة غير كافيةٍ ببساطة أو غير مثيرة بما يكفي كحقيقةٍ علميةٍ مثلًا أو تاريخية فلو كانت تلك الحقائق مثيرةً في حد ذاتها لكنا تسابقنا لمعرفتها دون الحاجة لأخذها من أفلام السينما، لكنها تكون مملةً وعلميةً بحتة غير مثيرة ولا مغرية بالبحث والنظر فيها، فيأتي صُناع الأفلام وهم مدركون تمام الإدراك لتلك الحقيقة فيعمدون لتحريف الفكرة، لجعلها أكثر إثارةً وحسب لا أكثر ولا أقل، لجعلها جذابةً أكثر قد تُضاف للحقيقة أسطورة أو كذبة لجذب انتباه المشاهد وتحقيق أعلى معدلات الأرباح الممكنة للفيلم، وأنت مشاهدٌ تفتقر للحقيقة العلمية أو التاريخية ولم تسمع عنها سوى من الفيلم فتأخذها بدون بحثٍ ولا تدقيق، كثيرون هم من يفعلون ذلك وفي النهاية لا ينتج عندنا إلا أناسٌ مشوهو الثقافة ناقصو الحقيقة عقولهم معبئةٌ بكذباتٍ كثيرة، أعرف شخصيًا أناسًا فقدوا القدرة على التفرقة بين الحقيقة والكذب كأثرٍ سلبيٍ لأفلام السينما تلك.
أشخاصٌ وأدوارٌ حقيقيون شوهتهم أفلام السينما
أكبر الأفلام التي تُعطينا أكاذيب وانطباعاتٍ لا حصر لها هي تلك الأفلام التي تتحدث عن التراث والحياة الاجتماعية والمجتمعية لبلدٍ أو شعبٍ معين، مهما حاولت البحث فيها فصدقني لن تجد فيلمًا واحدًا ينقل الحقيقة بصراحة، هل تصدق حقًا إذًا أن البلاد الأوروبية حياتهم ماهي إلا سكرٌ وعربدة وأن شعب الهند يرقصون في الشارع طوال اليوم وأن المصريات كلهن راقصاتٌ عاريات وبلطجية سفاحون؟ هل هذه هي الحقيقة فعلًا؟ إن تصديق الصورة المجتمعية التي تحاول الكثير من الأفلام عرضها عن شعبٍ بعينه ماهي إلا بداية تشوهٍ عنيفٍ في الفكر والنفس، الاطلاع على ثقافة شعبٍ والنظر إليه من منظور عدسة الكاميرا ماهو إلا ظلمٌ بينٌ لهؤلاء الناس، لكن الأفلام لا تتوقف عن ذلك لماذا؟ لأنها تقوم على الفنتازيا سيدي وتقتات منها، تحب الملحميات وتعطي المشاهد ما يجذب عينه ويلعب على أوتار مشاعره ليس حبًا في المشاهد نفسه وإنما رغبةً في تحقيق المال الذي يعتاشون منه، المجتمعات والبشر وحتى بعض الأعمال والوظائف حصلت على سمعةٍ إما شديدة القبح وإما شديدة الجمال بسبب أفلام السينما رغم أن الصورة التي تعرضها الأفلام لا تمت للواقع بأي صلة لكن المشاهد لم يعِ ذلك وسلم عقله لصناع الأفلام، إن أردت أن تشاهد فشاهد لكن لا تأخذ أي شيءٍ من أفلام السينما باعتباره حقيقةً مسلمًا بها بل ابحث وتأكد من المصادر الصحيحة حتى لا تتحول المتعة إلى نقمةٍ تفسد عليك عقلك.
وفي النهاية تزوج الأمير الأميرة وعاشا في سعادة
واحدٌ من أكبر ضحايا أفلام السينما كان الحب والعلاقات العاطفية بشكلٍ عام، الحب فطرةٌ فينا وميلٌ غريزيٌ وحاجةٌ ثلبية لا غنى لنا عنها وهي موضوعٌ جذابٌ وشيق لا يصيبه القدم أبدًا ويعزف على أوتار القلب كما يشتهي صانعوا أفلامه ويحلمون، خاصةُ على قلوب المراهقين والفتيات، لكن تلك الأفلام كانت بلا مبالغةً سببًا في دمار مجتمعٍ وخراب بيوتٍ كثيرة، القلوب المراهقة الصغيرة البكر لم تعرف بعد معنى الحب ولم تذقه قط لكنهم يبدؤون بمشاهدة الأفلام الرومانسية فببساطة مع الوقت تترسخ فيهم صورة الحب وهيئته كما يشاهدونها في الأفلام، تختفي بالتدريج الصورة الواقعية للحب وتبقى الصورة الحالمة البراقة للفيلم، قد يبدو ذلك أمرًا تافهًا لناضج لكنه أمرٌ جللٌ للمراهق الذي لم يعرف الحب إلا بتلك الطريقة فينشأ قلبه وعقله بفكرةٍ غير حقيقية ولا واقعية بل إنه أحيانًا يحاول تقليدها أو البحث عنها ويقدمون تضحياتٍ تدعو للندم ظنًا منهم أن ذلك هو الحب الذي يسعون إليه ليصطدموا حين غرةٍ بأرض الواقع، بحقيقة الحب الذي نعيشه في هذا البعد من العالم بعيدًا عن بعد الأفلام، إن صدمةً كهذه الصدمة وفكرةً غير واقعية ولا مسئولة كتلك الأفكار التي تعرضها أفلام السينما الرومانسية كفيلةٌ بتحطيم إنسان وهدم بيتٍ كامل بلا مبالغة، إن تلك الأفلام ببساطة تقدم لنا وهم وفانتازيا واندفاع وجنون الوقوع في الحب وبداية اشتعال ناره ثم تأتي المشكلة كحبكة ثم يحلها البطلان وفي النهاية يتزوج الأمير الأميرة ويعيشان في سعادة! تلك بحد ذاتها فكرةٌ خاطئة والنظر للزواج بأنها النهاية وأن الرسالة تمت في حين أنه هو بداية الكفاح والرسالة، فكيف ستقول ذلك لشخصٍ لم يعرف في حياته سوى الأفلام؟!
أضف تعليق