أحلام اليقظة هي تذكرة ذهابٍ وعودةٍ يملكها كلٌّ منا تحمله إلى مدينته الفاضلة الخاصة به، شأنها شأن أحلام النوم تحمل جزءًا من داخلنا وتعرضه في رؤوسنا كفيلمٍ سينمائيّ، لكن هذا الفيلم من تأليفنا الخاص ومن لغة أفكارنا وخيالاتنا المحضة، بل إن أحلام يقظتنا تحمل لنا مميزاتٍ تجعلها أجمل وأفضل من أحلام النوم لأننا في يقظتنا نمتلك القدرة على التحكم في الحلم وسيره وأحداثه كيفما نشاء، وكيفما يشبع رغباتنا وحاجاتنا وعطشنا النفسي لتلك الأشياء التي نريدها، فما حلم اليقظة إلا رغباتنا التي نعجز عن تحقيقها أو التي نريد بشدةٍ أن تتحقق لكننا نستبق أوانها بالحلم، كذلك فهي تعتبر بابًا من أبواب التفكير والتخطيط بلا شك! فالأفكار تأتي لنا وتزورنا فنفكر فيها وندرسها من كل النواحي ويكون الحلم أحد تلك النواحي، أن تأتي لك الفكرة فتحلم بما سيحدث إن نفذتها وإن تحققت خططك فيها وتغرق في أسر جمال مستقبل تلك الفكرة إن أصابت وتحققت، بل إنك تبدأ في تأمل حياتك وأحوالك والحلم بها بعد أن تتحقق فكرتك وخطتك.
من ذلك فإننا سنعتبر أحلام اليقظة رغم اختلافها عن بقية الأحلام بأنها وسيلة تواصلٍ مع العقل الباطن هي أيضًا وطريقةٌ في التعبير عن اللاوعي ولكن بشكلٍ أكثر غموضا من حلم المنام، لأنك في يقظتك تحمل إرادتك كاملةً وتتجول في لاوعيك ووعيك وخيالك وأفكارك برغبتك بعكس النوم حين يسيطر لا وعيك على رأسك ويستطيع إبراز ما يجاهد وعيك في اليقظة على كبته وكبحه، لكن رغبات اللاوعي المختلفة طالما يوافق عليها وعيك ستظل تظهر على هيئة أحلام اليقظة.
أحلام اليقظة والطريقة المناسبة من أجل التعامل معها
الإشباع النفسي
إن أحلام اليقظة هي إحدى وسائل الإشباع النفسي والتعبير عن الحاجة ومحاولة علاج الإلحاح النفسي لتلك الحاجة التي لا تستطيع تحقيقها لأي سبب، فتحلم أنك تحققها وقد يشعرك ذلك بالتحسن أو بأن إلحاح حاجتك ورغبتك يقل، لكنه في بعض الأحيان يزيد من رغبتك ويبلور تلك الحاجة في عقلك حتى أنك قد لا ترى سواها، وربما يُشعرك بالحزن والقنوط على حياتك لعجزك عن جعلها كما تريد أو لعجزك عن جعلها تتضمن ما تريده وترغبه بتلك الشدة.
من تراود
ومن الجدير بالذكر أن تلك الأحلام طبيعيةٌ وتراود الجميع من كل الفئات والأعمار والأجناس والصغار والكبار والمراهقين والفقراء والأغنياء والعاطلين وأصحاب المناصب، إن قدرتنا على الحلم تكاد تكون هي ما تصنعنا وبلا شكٍ أننا سمعنا وتحدثنا بكلمة الحلم كثيرًا والتي كنا نقصد بها الهدف والأمنية لا النوم وأحلامه الباطنية، إن مجرد تخيل عجزنا أو توقفنا عن الحلم سيبدو وكأننا سنتوقف عن الرغبات والطموحات وسنعجز عن إيجاد الأهداف والمساعي، أننا سنتحول إلى آلاتٍ لا تريد ولا ترغب ولا تحلم ولا تطمح، الحلم نافذتنا التي ننظر منها إلى المستقبل ونبحث فيه ونخطط له ونفتش عنه عبرها، بدونه نصبح أسيري الحاضر فحسب وربما نعجز عن تذكر الماضي والتفكير فيه والاستفادة منه، حين نفكر في الماضي ونغرق فيه فإننا نغرق في نوعٍ آخر من أحلام اليقظة يحفظ لنا ذكرياتنا الحلوة التي نعيدها على أنفسنا مرارًا وتكرارًا لاحتياجنا لها ولرغبتنا في الاحتفاظ بتلك اللحظات السعيدة للأبد فينا، أو ربما نتذكر الألم والحزن، صحيحٌ أننا لا يجب أن نبقى أسرى في ألم الماضي ونتجاوزه لكن بعض الألم لا يجب أن يمحى أو يُنسى لأنه سيظل دافعنا للتقدم كلما تذكرناه أو راود أحلامنا، حلم اليقظة كما هو رغبةٌ نريدها فهو خطرٌ أو ألمٌ نتجنبه ويظل ماثلًا أمامنا حتى نجد الطريق البعيد عنه.
المراهقة
المراهقون من أكثر فئات البشر حاجةً وغرقًا في عالم الأحلام حيث يشهدون الفترة العصيبة من حياتهم بين الاضطرابات النفسية والاجتماعية والهرمونية والفسيولوجية، في الهوة بين الطفولة والكبر وفي المساحة الزمنية الضئيلة التي ترتفع فيها الأماني والأحلام والرغبات والأفكار والطموحات والأهداف من بساطة الطفولة لتعقيد الكبار، حين ينضج العقل وتتغير نظرة المراهق نحو الحياة فيرى الذي كان مغلفًا بالضباب واضحًا ويعي ما رفضت بساطة عقله الطفولي أن تعيه من قبل، أثناء هذه الاضطرابات الكثيرة داخل المراهق وفي بيئته ومع أهله وأصدقائه وبين المراهق ومراحل حياته تبرز له نافذة أحلام اليقظة ليستريح فيها من قلقه واضطرابه وأحيانًا تعبه واكتئابه.
سبب أحلام المراهق
قد يأتي بؤس المراهق من نقطةٍ عصيبةٍ تتمثل في علو الحلم وعجز الجسد، فالعقل نضج ليحلم وليفكر بشكلٍ أوسع وأكبر لكن الجسد والعمر لا يزالان أصغر من تحقيق الحلم، وأيضًا يظل العقل في طريقه إلى النضج عاجزًا عن إيجاد سبل تحقيق الرغبات الصحيحة والسليمة، فيمتلئ المراهق بالأحلام والطموحات والأفكار والانفجارات العاطفية والنفسية والفكرية بداخله حتى يكاد ينفجر رأسه منها لكنه لا يقدر على إخراج وتحقيق أي شيءٍ منها والعمل عليه، حينها يلجأ لأحلام اليقظة ينفس فيها عن طاقته ويحقق فيها كل أحلامه تلك بطريقةٍ منطقيةٍ أو خياليةٍ لا يهم طالما أنها تتحقق وتصل به إلى لحظاتٍ من الإشباع النفسي.
أحلام اليقظة بين الصحي والمرضي
ويختلف المراهقون والناس جميعًا بعضهم عن بعض في درجات استيلاء أحلام اليقظة على الوقت في حياتهم الواقعية ويأتي اختلافهم من اختلاف ظروفهم وواقعهم وحياتهم، فكلما وجد الشخص ما يفعله أو من يرشده ويساعده أو ما يخرج به الطاقة المضطربة داخله يقل لجوءه إلى عالم اليقظة والعكس بالعكس، فالمراهق المكبوت والذي لا يجد من يمد له يد المساعدة يغرق بنفسه في أحلام اليقظة أكثر بأكثر حتى تسيطر على حياته ويصبح يومه عبارةً عن أحلامٍ في يقظته وأخرى في منامه بل إنه يفضل حلم اليقظة على المنام لإنه يتحكم فيه كيفما يشاء ويطوف العالم ويصعد للفضاء ويحقق المعجزات وهو جالسٌ في مكانه بشرود.
لطالما كانت أحلام اليقظة ظاهرةً طبيعيةً بل وصحيةً كما أسلفنا تراود الجميع لكن الإغراق فيها والاستسلام لها يصبح مرضًا مستعصيًا وسجنًا يقيد صاحبه للأبد، وتتحول أحلام اليقظة من حافزٍ وتفكيرٍ لتحقيق الأفضل في واقعه إلى نوعٍ من الإدمان يسحبه بعيدًا عن الواقع الذي يبدأ بالتلاشي والانهيار من حوله وهو لا يشعر بذلك لأنه مستسلمٌ تمام الاستسلام له.
علاج الإسراف في أحلام اليقظة
العمل والاجتهاد يعالجان ذلك الإدمان ويخرجان الإنسان من هوته قبل أن يصبح ذلك مستحيلًا، فالحلم موجودٌ طالما وُجد الفراغ والوقت المهدر بلا فائدة، لكن الإنسان المنشغل والذي يجد في حياته ما يفعله ويسعى فيه ويستنزف طاقته الذهنية والبدنية في الجد والكد فيه لا يجد وقتًا ولا حتى طاقةً ذهنيةً ونفسيةً للاستغراق في أحلام يقظته أكثر من المعدل الطبيعي، كما أنه لا يجد الحاجة الملحة للاستغراق في الحلم لإنه يعمل على تحقيق حلمٌ في واقعه بعمله، ولذلك فالمراهقون بحاجةٍ إلى شغل أوقاتهم وإيجاد ما يفعلونه ومن يساعدهم على ذلك ويتفهمهم لا ينحيهم جانبًا ويدفع بهم إلى الركن الشاغر الذي يبدؤون فيه إدمانهم.
منبع إلهام
المعدل الطبيعي من أحلام اليقظة قد يكون منبع إلهامٍ للبعض في حياتهم أو أعمالهم أو مجالاتهم، فجميعنا شاهدنا تلك اللحظة التي يشرد فيها الشخص ويبدو لنا هائمًا يحلم منفصلًا عن عالمنا ثم يخرج من شروده فجأةً صائحًا بفكرةٍ وجدها واستوحاها من حلمه أو حلٍ للمشكلة كان عاجزًا عن رؤيته وحين استغرق في حلمه وجده!
إنني لا أتخيل عالمًا لا يحلم فيه الناس بشيءٍ بل إنني سأكون وقتها عاجزةً عن التخيل لإنه وليد الحلم الذي ما عاد موجودًا، سنظل موجودين ما ظل الحلم.
أضف تعليق