في الواقع فإن المنهج التجريبي في العلم مر بالكثير من التطورات خلال القرون الماضية، وكان له جذور في الفلسفة اليونانية القديمة والفترات الأولى من تاريخ ظهور العلم، لكن أخذ البشر الكثير من الوقت ليبدؤوا باعتناق فكرة التجربة وترك التفكير الذهني في التحقق من الظواهر العلمية، لكن لتعرف المراحل التي انتقل بها العلم من الخرافة إلى اعتناق المبادئ الأساسية في البحث والاعتماد على التجربة العلمية بشكل أساسي، لابد أن تعرف ما هي التجارب التي أثرت على هذا التحول الكبير في منهجية البحث ومن هم العلماء الذين قاموا بتلك التجارب، في المقال التالي ستتعرف على كل هذا وستتمكن من فهم كيف تطور المنهج التجريبي في العلم عبر التاريخ.
المنهج التجريبي في العلم
التفكير المنطقي في مواجهة المنهج التجريبي في العلم
هل يمكنك معرفة ما حدث في اللحظات الأولى لنشوء الكون بالتفكير المنطقي؟ هذا ما فعله أسلافنا القدماء من الفلاسفة والعلماء، هذا ما فعله الفيلسوف اليوناني طاليس، الذي كان يتمدد على شاطئ مدينة ميليتوس ويخرج بأفكاره، وفي يوم من الأيام خرج بفكرة أن الماء هي أصل كل شيء. هذا ما كان يفعله العلماء الإغريق، يتأملون ويتباحثون في مختلف المواضيع العلمية بالاستدلال المنطقي، وكان هذا هو اتجاه المنهج التجريبي في العلم لقرون طويلة. لكن هل المنطق قادر على حل مشكلة كأصل الكون أو تفسير تناسل الحشرات؟
مرحلة أرسطو ونظرية التوالد الذاتي كمثال
هذا ما اعتقده الفلاسفة والعلماء قديمًا، أن العقل البشري بالتأمل والمنطق بإمكانه الوصول إلى المعرفة الدقيقة. وفي يوم ما، خرج أرسطو بنظريته التي استمرت أكثر من عشرين قرن عن التوالد الذاتي. وتعني أن الكائنات الحية تتخلق من المادة غير الحية، فمثلاً قد يتولد الذباب من اللحم العفن. كان التفكير العلمي وقتها مرتبطًا بأسئلة واتجاهات لم يعد العقل البشري يفكر بها، كل التأملات والتباحثات والسجالات المنطقية طوال تلك القرون كانت في اتجاه خاطئ، احتاجت البشرية أكثر من عشرين قرن ليستخدم البشر التجربة للقضاء على نظرية التوالد الذاتي. واحتاجوا الآلة المعقدة للوصول إلى أصغر المكونات لمحاولة الوصول إلى أصل الكون
مرحلة القرون الوسطى والعلماء المسلمين
خلال قرون طويلة، كانت المناهج الاستدلالية والاستنباطية هي الغالبة على التفكير العلمي، لكن كان هناك بصيص نور يظهر ويخفت طوال قرون. فظهرت إضافات جيدة في المنهج التجريبي في العلم ، مثل العالم الإنجليزي روجر باكون والعالم العربي الحسن بن الهيثم الذي قدم الكثير من التجارب العلمية التي أثرت على الثقافة الأوروبية في القرون الوسطى وما بعدها واعتمد عليها الكثيرون مثل فرانسيس بيكون، ويعتبر ابن الهيثم صاحب التأثير الأكبر في تحول الاتجاه العلمي من الخرافة إلى اعتماد التجربة العلمية. لكن تأثيرهم لم يكن قويًا بالدرجة كافية، ولم يقم أي منهم بوضع قواعد عامة للمنهج التجريبي، إلى أن ظهر الفيلسوف الإنجليزي فرانسيس بيكون في بداية القرن السابع عشر. وسار على نهجه بعض الفلاسفة مثل الفيلسوف الألماني الشهير إيمانويل كانت والفيلسوف الإسكتلندي ديفيد هيوم.
مرحلة عصر التنوير
لكننا مازلنا في القرن السابع عشر، ولم يستخدم أي عالم التجربة في التحقق من نظرية التوالد الذاتي التي سنأخذها كمثال في تطور المنهج التجريبي في العلم ، إلى أن جاء العالم الإيطالي فرانشيسكو ريدي، بكل بساطة قام بوضع بعض اللحم العفن في حاويات زجاجية، كانت بعض الحاويات بدون غطاء والأخرى مغطاة تمامًا. انتظر عدة أيام وكانت النتيجة ظهور بعض اليرقات في الحاويات غير المغطاة. قام ريدي بتجارب بسيطة أخرى عبر ملاحظة اليرقات والذباب وتزاوجهم ومراحل تحولهم، وأثبت بالتجارب اليدوية البسيطة بطلان نظرية التوالد الذاتي. لكن تجاربه لم تكن مقنعة للكثيرين من مؤيدي النظرية. الآن في القرن السابع عشر، بعد الموجة القوية للمنهج التجريبي، نجد العالم الإيطالي الشهير جاليليو ينظر من التلسكوب إلى السماء، والعالم الإيطالي توريشيلي يخترع البارومتر، والعالم الألماني جوريكا يخترع أول مضخة هواء.
بدأ اتجاه المنهج التجريبي في العلم يختلف، بدأت التجربة باتخاذ مكانها بدل التأمل، بدأ البشر بعمل الآلات التي تساعدهم في معرفة ما لا يمكن ملاحظته بالعين المجردة، ففي بداية القرن الثامن عشر، اخترع أنطوني ليفينهوك العالم الهولندي، أول مجهر ضوئي بسيط استطاع عبره رؤية كائنات حية دقيقة. وبتلك الأداة، وعبر ملاحظة اليرقات والديدان وغيرها وعرف أنها تمارس الجنس كي تتناسل، استطاع ليفينهوك أن يثبت بالتجربة القاطعة بطلان نظرية التوالد الذاتي. لكن ظل للنظرية بعض الأنصار المتعصبين لها.
التطور الكامل في المنهج التجريبي في العلم
بدأ العقل البشري يتخذ منحنيًا جديدًا، أصبح الفلاسفة أكثر مادية، فالمعرفة الآن أصبحت تجريبية، وبدت الكثير من المواضيع الميتافيزيقية أنها قابلة للدراسة بطريقة منهجية، مثل سلوك الإنسان الذي ارتبط دومًا بالتفسيرات الغيبية، فبدأ علم النفس بالظهور. أصبحت كل القضايا الفلسفية الآن معرضة للنقد التجريبي أو إرساء نظريات تجريبية عنها. وعلى مدى قرون، بدأت الأسطورة بالانسلاخ عن الحقيقة، بدأ تفكيك العلوم الأساسية إلى فروع متعددة ومن ثم البحث الدقيق فيها بالتفكير العلمي الجديد. بدأ العلماء يدعون إلى التمحيص في النظريات السابقة، يستبعدون المنطق ويستخدمون أعينهم في التجربة، وإن لم يكن باستطاعتهم عمل التجربة بأنفسهم، فعليهم اختراع آلة لإنجاز التجربة. وهنا كانت الانطلاقة الكبرى لعلم الميكانيكا.
الآن، في منتصف القرن التاسع عشر، أصبح بإمكان لويس باستير النظر في مجهره الدقيق إلى المواد العفنة وإخبار العالم أن الحشرات تقوم برمي بيضها بجوار المواد الحية العفنة ومنها تتوالد اليرقات التي تتحول إلى حشرات. الآن باستطاعة أي شخص أن ينظر خلال المجهر ويتحقق بنفسه من خطأ النظرية. وهذه كانت هي الضربة القاضية لنظرية التوالد الذاتي. بعد ظهورها منذ أكثر من عشرين قرن على يد أرسطو.
عصر العلم
لكن هل تلك الآلات والتجارب كافية للبحث العلمي؟ هذا ما أجاب عنه علماء القرن العشرين بالنفي، فبدؤوا باختراع العقول الإلكترونية، ولأول مرة في التاريخ بدأ العلماء ينظرون إلى الإنسان على أنه آلة مُتقنة، وبدؤوا في محاولة محاكاة عقل ذكي كعقل الإنسان أو ربما أكثر ذكاء منه أو ذو قدرات أعلى. فبدأت العقول الإلكترونية بالظهور.
الآن، في القرن الحادي والعشرين، اتخذ المنهج التجريبي في العلم منحنى مختلف تمامًا عما كان يفكر فيه العلماء في القرون الماضية، فأصبحت التجربة هي الأمر الأول الذي يفكر به العلماء، وبدلاً من التفكير الذهني في النظريات، أصبح العلماء يعتمدون على بناء الأجهزة التكنولوجية التي تساعدهم على تحليل أبحاثهم ومعرفة نتائج تجاربهم قبل أن يقوموا بعمل أي شيء، فبدلاً من أن يحاول العلماء الإجابة عن فكرة أصل الكون مثلما فعل طاليس، قام عشرة آلاف عالم ومهندس في مركز سيرن ببناء جهاز بالغ التعقيد يصل طول أنبوب اختباره إلى أكثر من 26 كم، لسحق أصغر الجسيمات للوصول إلى الجسيم المسبب للكتلة ليكون مفتاحًا للوصول إلى المكونات الأولى واللحظات الأولى للكون. وهذا نموذج على الانتصار الكبير الذي حققه المنهج التجريبي في العلم .
في النهاية، لتكون قادرًا على فهم الخيط الواصل في تطور المنهج التجريبي في العلم يجب أن تفهم تجارب العلماء السابقين الذين قمنا بتوضيح أعمالهم والتي أثرت في تطور المنهج التجريبي في العلم عبر التاريخ، وأن تفهم أدوار العلماء المؤثرين بالدرجة الأولى التي جعلت العلم يتجه اتجاهًا مغايرًا مثل أعمال العالم الإسلامي الحسن بن الهيثم والإنجليزي فرنسيس بيكون.