تسعة
الرئيسية » اعرف اكثر » تعرف على » كيف بدأت نهضة ألمانيا بعد هزيمة الحرب العالمية الثانية؟

كيف بدأت نهضة ألمانيا بعد هزيمة الحرب العالمية الثانية؟

نهضة ألمانيا قصة واقعية مليئة بالكفاح نرى فيها جميع صور البطولة ومهارة امتصاص الكوارث والحلول العبقرية التي انتشلت ألمانيا من عار الهزيمة إلى مجد التقدم.

نهضة ألمانيا

نهضة ألمانيا في النصف الثاني من القرن العشرين تُعَد واحدة من أهم تجارب الأمم الجديرة بالدراسة والفحص والتأمل نظرًا لكثرة الدروس المستفادة منها؛ حيث صارت لاحقًا نبراسًا ودليلاً لجميع الدول النامية والرامية إلى التقدم وذلك على المستوى السياسي والاقتصادي والإنساني. لقد واجهت ألمانيا العديد من الصعوبات والتحديات بعد أن حلت بها هزيمة فادحة في أعقاب الحرب العالمية الثانية حيث قُسِّمَت أرضُهَا وتصارعت عليها القوى العظمى آنذاك وتشتت شعبها بعد أن شهد مختلف صور المهانة والذل. وعلى الرغم من ذلك استطاع الشعب الألماني أن يتماسك ويستعيد هويته من جديد ويبدأ من تحت الصفر لينهض ببلاده على الأصعدة كافة لتصبح ألمانيا اليوم نموذجًا للدولة المتقدمة وتحجز لنفسها مكانة مرموقة ضمن دول العالم الأول ويُضرَب بتجربتها المثل في الصبر والاجتهاد. وفي السطور التالية نسلط الضوء على أبرز ملامح نهضة ألمانيا في العصر الحديث وأهم العقبات التي واجهتها.

تقسيم ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية

بعد أن وضعت الحرب أوزارها صارت ألمانيا غنيمة للقوى العظمى الممثلة في المعسكرين الشرقي والغربي، فتكالبت عليها القوتان وقسما الدولة الألمانية لتصبح دولتين منفصلتين هما ألمانيا الشرقية التي سيطرت عليها الكتلة الشرقية ونظامها الشيوعي وألمانيا الغربية التي استولت عليها الكتلة الغربية ونظامها الرأسمالي، وضُرِبَ بينهما سور عظيم أطُلِقَ عليه اسم سور برلين الذي شهد العديد من القصص الإنسانية الناجمة عن ذلك الانقسام. وأضحت ألمانيا تعاني من هذا الفصام الجغرافي والتاريخي والإنساني لمدة 45 عامًا إلى أن أعُيد توحيد الدولة مجددًا في عام 1990 ويُهَد سور برلين في مشهد إنساني خالد لا يزال محفورًا في ذاكرة التاريخ وتعود ألمانيا الاتحادية إلى الوجود.

نهضة ألمانيا بعد الهزيمة

بعد أن لحقت الهزيمة بألمانيا في أعقاب الحرب العالمية الثانية كان وضعها السياسي والاقتصادي سيئًا للغاية وكان حال الشعب الألماني يُرثَى له، بيد أن نهضة ألمانيا من جديد كانت لا يزال حلمًا شاخصًا في أعين ومخيلة شعبها العظيم الذي ما لبث أن تماسك وصمم على إحياء بلاده من جديد وإعادته إلى خارطة العالم. وعلى الرغم من تلقي ألمانيا الدعم الخارجي في بادئ الأمر ليكون بمثابة بذرة لإعادة الإعمار، فإن الدافع الحقيقي للنهوض أتى من الشعب ذاته حيث تغلب على محنته النفسية وبدأ في توجيه جميع طاقاته من أجل استعادة مجده من خلال الاهتمام بالقطاع الصناعي والاكتفاء الذاتي في معظم موارده، وقد أدى ذلك إلى التخفيف من مشكلة البطالة نظرًا للحاجة للأيدي العاملة وبدأن مستوى المعيشة في الارتفاع، وزاد الإنتاج تدريجيًا في معظم السلع الأساسية بل وامتد ذلك النهوض إلى مجال الرياضة حيث شاركت ألمانيا الغربية في مسابقة كأس العالم لكرة القدم وفازت بالبطولة.

نهضة ألمانيا بعد الحرب

بعد أن استعاد الشعب الألماني الحد الأدنى من مقومات الحياة الطبيعية بدأ يفكر في نهضة ألمانيا على مستوى أعلى ليضمن وجود دولته في مصاف الدول المتقدمة. وتجسدت بداية هذه النهضة في الاهتمام بالبنية التحتية وإقامة شبكات الطرق والأنفاق وإنشاء محطات الكهرباء ومنظومة للصرف الصحي. وبعد هذه المرحلة جاء الاهتمام بقطاع الصناعات الثقيلة التي صارت ألمانيا أحد روادها على مستوى العالم. وبدأ الاهتمام بتصنيع الآلات والسيارات بجميع أحجامها وأغراضها. ونتيجة لذلك التوسع في قطاعات الأعمال المختلفة صارت ألمانيا سوقًا مغريًا للعمالة ما أدى إلى الاستعانة بالأيدي العاملة التركية ليحدث الاندماج لهذه الجالية على الأراضي الألمانية إبان هذه الحقبة التاريخية وتبدأ ألمانيا في ترسيخ آليات ومفاهيم جديدة لقطاع الأعمال لدرجة أن أُطلِق على هذه التجربة اسم المعجزة الاقتصادية الألمانية.

اقتصاد ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية

بطبيعة الحال وصل اقتصاد ألمانيا إلى الحضيض بعد أن لحقت بها الهزيمة وتقسيمها اللاحق، بيد أن العقول الألمانية أدركت أن نهضة ألمانيا لن ترى النور إلا من خلال نهضة اقتصادية حقيقية. ومن هذا المنطلق بدأ التخطيط لإعادة إعمار البلاد ووضع برنامج دقيق للإصلاح الاقتصادي بقيادة رئيس الحكومة آنذاك كونراد أديناور ووزير الاقتصاد والعقل المدبر لودفيج إبرهارت. وكانت الخطوة الأولى هي إلغاء العملة القديمة الرايخ مارك التي تهاوت قيمتها بعد انتهاء الحرب وأصابها التضخم. وقد طُرِحَ المارك الألماني بدلاً منها ما أدى إلى الحد من التضخم واستعادة جزء كبير من القيمة وتحقيق بعض النمو الاقتصادي والتطور السريع. ومن أجل ضمان سرعة تداول العملة وتقبلها سوقيًا صدر قرار بمنح كل مواطن ألماني منحة قدرها 50 ماركًا ألمانيًا واستبدال العملة الجديدة بالقديمة من خلال مقايضة كل 10 رايخ مارك مقابل مارك ألماني واحد. ومع مرور الوقت تم ضخ العملة الجديدة وتسارع تداولها وأُتبِعَت هذه الخطوة بإصدار العديد من الوثائق والاتفاقيات التي تضمن انتعاش السوق الاقتصادي.
ومن ناحية أخرى بدأت الحكومة في خلق ما أُطلِقَ عليه اسم اقتصاد السوق الاجتماعي الذي يجمع بين مميزات الاقتصاد الحر ووجود صلاحيات محدودة للدولة تضمن بموجبها التدخل في الحالات الضرورية ما يضمن إضفاء المركزية على بعض القرارات والسيطرة على زمام الأمور من أجل القضاء على الاحتكار وضمان منافسة تجارية عادلة.

ونتيجة لهذه القرارات الجريئة والرشيدة تجلت نهضة ألمانيا وظهرت ملامحها وأتت ثمارها الأولى في الثورة الصناعية التي شهدتها البلاد في المرحلة التالية؛ حيث أُحرِزَ تقدم ملحوظ في مجال الصناعات الإلكترونية والميكانيكية وتصنيع السيارات. وقد أدى ذلك إلى إمكانية تصدير منتجاتها خارج البلاد ليخلق ذلك عائدًا كبيرًا يصب في الدخل القومي لألمانيا.

نساء ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية

لا شك أن للمرأة الألمانية دورًا كبيرًا في نهضة ألمانيا حيث ساهمت السيدات، لا سيما في الحقبة الأولى بعد الهزيمة، بالكثير من الجهود من أجل الخروج من كبوة بلادهم. وعلى الرغم من المعاناة الشديدة التي أصابت النساء بعد الهزيمة من ذل ومهانة وقتل واعتداءات غير إنسانية إلا أنهن استطعن التماسك وتنظيم أنفسهن وبدأن بالأعمال اليدوية الشاقة الممثلة في رفع الركام وإزالة الأنقاض، وبعد تجاوز المراحل الأولى القاسية بدأت السيدات، بما في ذلك الأمهات منهن، في المشاركة في جميع الأعمال والوظائف، وقد أدى ذلك إلى ابتكار دور الحضانة لضمان الرعاية النهارية للأطفال في الوقت الذي تعمل فيه الأمهات. وشاركت المرأة في جميع مجالات الحياة لتساهم في نهضة ألمانيا وارتقت في جميع القطاعات حتى وصلت إلى أعلى المناصب القيادية الوظيفية والسياسية، ولا عجب أن من تقود ألمانيا حاليًا ومنذ أكثر من ثلاثة عشر عامًا هي المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ليجسد ذلك الأمر الدور الفعال الذي لعبته المرأة في المجتمع الألماني.

لا شك أن نهضة ألمانيا تجربة إنسانية وتاريخية فريدة تستحق التأمل والاعتبار من أجل استخراج المزيد من الدروس المستفادة ولا تزال تلك التجربة حتى يومنا هذا واحدة من أهم القصص التاريخية الواقعية التي يتعلم منها كل الشعوب وزعمائهم ويستدلون بها دومًا من أجل النهوض ببلادهم والوقوف على بداية طريق التقدم والرقي. وهكذا استطاعت ألمانيا العودة مجددًا بعد كل المحن التي أصابتها لتضرب لنا أعظم الأمثلة في الصبر والاجتهاد والتفوق وعبقرية إدارة الأزمات.

أحمد علام

كاتب ومترجم، أحب القراءة في المجالات الأدبية بشكل خاص.

أضف تعليق

واحد × واحد =