من منا لم يقم في حياته كلها بعملية نقل الدم على الأقل مرة واحدة! إنها عملية سهلة ولا تتطلب مجهود كبير. قد يصدف أن تبرعت بدمك لمستشفى أو جمعية خيرية وأنت تعلم أن هذا الدم سيصل إلى من يحتاجه. ولكن بالطبع لم تكن عملية نقل الدم بهذه السهولة في بداية التفكير بها في القرن الماضي. بل إن الأطباء قطعوا شوطًا كبيرًا من التجارب الغريبة والمرعبة وحتى المقززة والمعقدة، لإتمام أول عملية نقل دم بنجاح. نستعرض معكم أولى التجارب التي أقيمت في مجال نقل الدم بالقرون الماضية. وحقائق غريبة لا تعرفها عن تلك العملية.
استكشف هذه المقالة
الكلب المخمور
في القرن السابع عشر، لم يكن معروفًا مدى أهمية الدم في جسم الإنسان. وكان يعتبر كجوهر للحياة ولكن لا يصلح نقله سوى لأغراض نفسية فقط. وقبل 200 عام فقط، تمت أول عملية نقل دم ناجحة تمامًا لامرأة بريطانية تعاني من نزيف ما بعد الولادة. ولكن تجارب نقل الدم سبقت هذه التجربة بكثير. ففي عام 1657 في لندن، حقن كريستوفر رين كلبه بالخمر عن طريق الوريد. وكانت الأدوات المستخدمة بدائية وصعبة، وتلك هي أول مرة يحقن فيها كائن حي. وقد استخدم الخمر ليرى ما إذا سيتحول الكلب إلى مخمور أم لا. وعندما سُكر الكلب عرف أن تجربته ناجحة. العديد من العلماء حاولوا فعل المثل بالعديد من السوائل الأخرى، ولكن تجربة كريستوفر أثبتت فاعلية لأن نتائجها كانت مرئية.
بعد ثمان سنوات من تجربة الكلب المخمور، قام ريتشارد لور باستخدام كلبين لتكون تلك أول تجربة نقل الدم بين كائنين حيين بالتاريخ. فقطع وريد واحد منهم وترك دمه يصفى إلى أن وصل قرب نقطة الموت. ومن ثم أوصل ما بين وريد الكلب المنهك وشريان من كلب أخر قوي. وبالفعل عادت الحياة إلى الكلب الذي أوشك على الموت. ومن هنا عرف العالم أن نقل الدم يعيد الدورة الدموية مرة أخرى وينقذ الحياة. فتوالت التجارب في هذا المجال في القرون القادمة.
نقل الدم من الجثث
بعد اكتشاف عملية نقل الدم واستخدام أدوات أكثر سهولة وأمان، واجه العلماء كارثة كبيرة في موت بعض الأفراد. حتى تم اكتشاف فئات الدم المختلفة وما يناسب نقله للفئات الأخرى، على يد العالم النمساوي كارل لاندستينر عام 1901. هذه العملية أنقذت عدد لا يحصى له من الجنود في الحرب العالمية الأولى. ولكن المشكلة الثانية كانت الحاجة لكميات كبيرة من الدم الجاهز لنقله إلى الجنود في ساحات الحرب. وفي العقدين التاليين، اتجه التفكير حول مصدر جاهز ومطابق ومتوفر، لتخزين كميات من الدم لجنود الحرب.
في عام 1930، قدم علماء السوفياتية فلاديمير شاموف وسيرجي يودين، فكرة غريبة ومقززة كمصدر للدم. فقد اكتشفوا أن دماء الجثث يمكن المحافظة عليها لفترة قصيرة من الزمن، ولكنهم لم يعلموا مدى صحة نقل الدم وهل سيساعد على البقاء على قيد الحياة. في 23 مارس 1930، قام سيرجي بنقل دم إلى مريض من جثة قاربت على التآكل. ورغم العملية المقززة ولكنها نجحت بالفعل. وقد سببت التجربة غضب عارم واستياء الكثير من الشعب الروسي. فتوقف العمل بتلك الطريقة، واتجه العلم للبحث عن خطة للدماء المعلبة من مصدر أدمي.
أول عملية نقل الدم إلى إنسان
في فرنسا عام 1667، كان هناك طفل يبلغ من العمر 15 عام يعاني من نزيف شديد، في محاولة مغلوطة منه لتحسين حالته الصحية. وهو الآن يعاني من فقدان شديد بالدم إلى جانب أمراضه الأخرى. هذا الأمر سمح لدكتور جان باتيست دنيس لإجراء أول عملية نقل دم إلى إنسان في التاريخ الموثق. واستخدم دم الأغنام لإنقاذ الطفل. وبغرابة شديدة نجح بالفعل. ثم قام بنفس العملية لشخص أخر، كان قد دفع له مسبقًا لإجراء التجربة.
أما المرشح الثالث لتجارب جان كان أنطوان موروي. وهو مريض عقلي يمشي عاريًا في شوارع باريس يصرخ على الجميع. فقام جان بنقل دم العجل إلى أنطوان ثلاثة مرات. ولكن هذه المرة مات أنطوان. وتم اتهام الدكتور جان بالقتل. على الرغم من إطلاق سراح الطبيب ببراءة كاملة، إلا إنه مُنع من إقامة تجارب نقل الدم مرة أخرى بدون موافقة مسبقة من كلية الطب في باريس.
كيفية حسن اختيار المصدر
في القصة السابقة، قد تعتقد أن اختيار دم الأغنام كمصدر لنقل الدم هو أمرًا اعتباطيًا. أو بسبب توفر الدم بكمية مناسبة ورخيصة، ولكن هذا ليس الاعتقاد الصحيح. ففي القرن السابع عشر كان الاعتقاد السائد هو أن الدم ينقل الصفات النفسية من المتبرع إلى المتلقي. بمعنى أن المتلقي ستظهر عليه صفات وعقلية المتبرع وأكثر سماته تميزًا، وقد تغير من روح المتلقي إلى الأسوأ أو الأفضل بحسب حسن اختيار المصدر. فحاول الأطباء إيجاد توازن في نفسيات الحيوانات المتبرعة والأشخاص المتلقية. بمعنى لو أن الإنسان عصبي وسريع الانفعال، سيبحث الطبيب عن خروف لطيف وهادئ ليجلب الهدوء والسكينة لأعصاب الإنسان. أما لو كان الإنسان خجولًا ومنطوي على ذاته، سيبحث الطبيب عن حيوان اجتماعي متفاعل مع قطيعه ليعطي روح اجتماعية أكبر للإنسان بعد نقل الدم له.
نقل الدم طمعًا في الذهب
قبل اكتشاف ويليام هارفي للدورة الدموية عام 1628، كان المعتقد السائد هو أن تناول الدم من شخص عظيم يفيد في الحالة الصحية والنفسية للمتناول. وفي أيام الرومان، كانوا المتفرجون يهجمون على حلبة المصارعة ويحاولون شرب دماء المصارع المقتول، حتى تسري شجاعته وقوته في أجسامهم. ولعل السيناريو الأكثر سخافة على أساس هذا الاعتقاد القديم والخاطئ، جاء في عام 1492. عندما قام ستيفانو إنفيسورا بأول محاولة مسجلة في التاريخ لإنقاذ إنسان بنقل دم إنسان أخر إليه.
بعد أن سقط البابا إنوسنت الثامن، بابا الكنيسة الكاثوليكية في روما، في غيبوبة. قام ستيفانو بدعوة ثلاثة صبيان يبلغون من العمر العشر سنوات، ووعدهم بقطع ذهبية مقابل التبرع بدمائهم. تم توصيل دماء الصبيان بفم البابا المغشى عليه، بالطبع لم تنجح العملية. ومات البابا وكذلك الثلاثة صبيان.
أكبر عمليات نقل الدم الجماعية
في عام 1938، بدأت طلائع الحرب العالمية الثانية، فتم تكليف ليونيل ويتبي كمدير لخدمة نقل الدم في الجيش البريطاني. لتوفير كميات الدم المطلوبة للجنود في ساحات الحرب. بعد ثلاثة سنوات، وجدت الحكومة الأمريكية أن محاولات نقل أكياس الدم جوًا إلى ساحات الحرب في أوروبا أو أفريقيا لجنودها، أمرًا مرهقًا ويقلل من الطائرات العسكرية وقوتها الجوية. فوقع على عاتق ليونيل مهمة صعبة لتوفير الدم لجنود الحلفاء، وكان الجنود البريطانيين الأكثر أهمية وأولوية بالطبع.
لضمان عدم موت الجنود الأمريكيين بالنزيف في ساحات الحرب، هدد الرئيس فرانكلين روزفلت رئيس وزراء بريطانية وينستون تشرشل بإفلاس الإمبراطورية البريطانية إن لم يوفر الدماء الكافية للجنود. وبالفعل جاء التهديد بفاعلية، ومن هنا بدأ ليونيل بعمليات ضخمة من نقل الدماء بين جنود الحلفاء في أوروبا. وحتى عام 1945 تم نقل ما يقرب من 50 ألف لتر دم إلى الجنود. وبدأ العمل على خدمة نقل دم وطنية وعالمية. وفي النهاية كسب ليونيل مرتبة الفروسية.
نقل الدم سبب في انتشار مرض الإيدز
في 1984، تم تحديد فيروس نقص المناعة كمسبب لمرض الإيدز، وكان قد مر على أول حالة معروفة ثلاثة سنوات. فبدأت بنوك الدم الأمريكية في الكشف عن الفيروس في الدماء المخزنة عندهم. ولكن الاختبارات المتوفرة لم تكن متقدمة كفاية لالتقاط الفيروس، خاصة الذي يحمل جينات متطورة وأجسام مضادة جديدة. بحلول عام 1993، أصبح عدد المصابين بالإيدز جراء عمليات نقل الدم في أمريكا، 1098 شخص. فواجهت الخدمات الصحية غضب عارم من الشعب الأمريكي، وبدأ التشكيك في فاعلية هذه المؤسسات. وتضررت العديد من المنشآت الصحية ومراكز البحوث العلمية.
إلى يومنا هذا، تفشل تقنيات الكشف عن الفيروس في أجهزة التبرع بالدم، إذا كانت العدوى في أسبوعها الأول. وطبقًا لتصريح مركز مكافحة الأمراض، فمن بين 16 مليون عملية تبرع بالدم يوجد أكثر من 20 تبرع معدي بفيروس نقص المناعة في بنوك الدم العامة. وقد يصاب عدد كبير من المتلقين بالإيدز من خلال نقل الدم.
نقل الدم كمخدر للإدمان
في بلدة دلماس في مبومالانجا بجنوب أفريقيا، ستجد تجار المخدرات يتجولون بحرية في النهار والليل، يوزعون المخدرات على الشعب الأفريقي وأعداد المدمنين تتزايد بعشرات الآلاف. التزايد نتيجة قوة المخدر الذي يتم توزيعه وثمنه البخس، إذ تحتاج إلى دولارين فقط من أجل جرعة واحدة. والمادة المخدرة لا تؤخذ عن طريق الأنف، وإنما الدم. يتم خلط خليط من الماريجوانا ونوع رديء من الهيروين وسم الفئران وبعضًا من المنظفات مع الماء، وتقدم عن طريق الوريد لمفعول يمتد طويلًا. ويسمى هذا الخليط ” nyaope”. من لا يستطيعون تحمل تكاليف المخدر، يتجهون للأصدقاء المستعدين للمشاركة. فيتم نقل الدم من مدمن أخذ جرعة بالفعل، إلى مدمن ينتظر المخدرات في دم المتبرع ليشعر بمفعول المخدر، بدون إنفاق الأموال.
أعداد الموتى من الجرعة الزائدة لا تقارن مع أعداد المصابين بفيروس نقص المناعة بسبب هذه التقنية الجديدة للإدمان الرخيص. وفقًا لدكتور ديفيد بايفر من الهيئة المركزية للمخدرات، فإن 15% من شعب جنوب أفريفيا يتعاطون المخدرات.
إكسير الحياة الأبدية والشباب الأبدي
في القرن السابع عشر، اقترح طبيب ألماني أن المفتاح إلى الشباب الأبدي والخلود يكمن في نقل دم الشباب الطازجة ومنعشة إلى كبار السن. أكثر من اقتنع بتلك الفكرة وبدأ في ممارستها بشكل فعلي هو الطبيب السوفياتي ألكسندر بوجدانوف في عام 1924. عندما بدأ حقن دماء الشبان في عروقه بنفسه. وقام ألكسندر بعمل أول مؤسسة بالعالم متخصصة تمامًا لمجال نقل الدم. وقال ألكسندر بأنه وجد فعليًا الطريق نحو الخلود وزيادة عمر الإنسان. وكان يصر على إن صحته تتحسن بالفعل مع كل مرة يحقن دماء الشباب في عروقه، وأنه يشعر كمن يعود إلى شبابه من جديد.
نفذ الحظ السعيد مع ألكسندر بالأخير، عندما نقل إلى دمه دم ملوث بالملاريا والسُل، ومات في سبيل تجربته الخاطئة. بعيدًا عن قصة ألكسندر وجهله بالأمراض المنقولة عن طريق الدم، نشرت دراسة بعام 2014 قد تعيد هذا المفهوم بطريقة أكثر واقعية. كما هو مبين في الدراسة، فإن العلماء قاموا بنقل بلازما الدم من فأر شاب إلى فأر عجوز. فتحسنت ردود فعل الفأر العجوز تجاه الخوف، كما تنشطت منطقة الذاكرة والتعلم لديه. خلُصت الدراسة إلى أن الدم قد يمتلك في الواقع خصائص تجدد قدرة الفرد على التعلم والتذكر والتفكير. ومازالت الدراسات المكثفة جارية في هذا المجال، لفهم أعمق لقدرات دماء الشباب وتأثيرها الحقيقي في كبار السن.
ختام
عملية نقل الدم واحدة من أهم العمليات الطبية التي تعتمد عليها العديد من إجراءات الطوارئ والعمليات. بدونها لم يكن للطب أن يتقدم، ولكن ذلك لا يعني أن البشرية قطعت شوطًا كبيرًا من تجارب عجيبة وحقائق مرعبة حتى نصل إلى ما نحن عليه اليوم.
أضف تعليق