تأتي ليلة القدر في العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك ،الذي ينتظره المسلمون كل عام بفارغ الصبر، بل ويدعون ربهم أن يرزقهم العمر الكافي للحاق به وبكل ما فيه من خير وبركة ومغفرة، فلهذا الشهر خير جم، وفضل كبير، وكلمة رمضان كانت موجودة قبل الإسلام بفترة كبيرة حيث كان الشهر معروفا، فكان العرب يقسمون الأشهر بأسماء تصفها، حيث كان الناس يسمُّون أشهر السنة حسب وقت وقوعها في الوقت الذي تمت فيه التسمية أو حسب نوع الشهر فشهر ذي الحجة مثلا سمي بذلك لوقوع موسم الحج فيه، ورمضان تأتي من الرمض وهو الحر الشديد الذي صاحب ذلك الشهر عند التسمية.
علامات ليلة القدر وما يستحب القيام به فيها
ليلة القدر في التاريخ
أما فضل هذا الشهر تاريخيا فلأنه بدأ فيه الوحي وأول ما أنزل على النبي من القرآن كان في ليلة القدر من هذا الشهر عام 610 من الميلاد حيث كان الرسول صلي الله عليه وسلم في غار حراء يتعبد عندما أتى له جبريل بأول الوحي بآية “اقرأ” فقال صلى الله عليه وسلم “ما أنا بقارئ” فكررها عليه جبريل حتى أنزل عليه الآية الأولى من القرآن الكريم “اقرأ باسم ربك الذي خلق”.
وإن كان لشهر رمضان فضل علي المسلمين، فلأنه فيه ليلة القدر، الليلة التي تعدل ألف شهر من العبادة، تلك الليلة الأكثر تقديسا في العام كله، حيث يتحراها ملايين المسلمين كل عام رغبة في الفوز بالمغفرة وبرحمة الله الواسعة في تلك الليلة.
سبب التسمية
اختلف العلماء في سبب تسمية ليلة القدر بهذا الاسم ولكن قد أجمع معظمهم أن الاسم يأتي من التقدير الكبير والشرف العظيم الذي تمثله هذه الليلة وقال الآخرون أن فيها يقدر كل أحكام السنة كما قال تعالى: (فيها يفرق كل أمر حكيم) سورة الدخان.
تكريم ليلة القدر في القرآن والسنة
ومن معاني تعظيم تلك الليلة المقدسة ذكرها في القرآن الكريم في أكثر من موضع، بل تفردها الله سبحانه وتعالى بسورة خاصة بها يحفظها كل مسلم فقال فيها (وما أدراك ما ليلة القدر) حثا على قيمتها العالية جدا، (ليلة القدر خير من ألف شهر) أي من يوافقها ويتعبد لله فيها تعدل عبادته ألف شهر أي أكثر من ثلاث وثمانون عاما، بل ذكرت فيها أحاديث كثيرة تعظم من أجر عبادتها فروت عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه».
وعن ميعاد ليلة القدر قد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن نتحراها في الليالي العشر الأواخر من شهر رمضان ولليلة القدر علامات نعرف منها إن كنا قد وافقناها أم لا، وقسم العلماء علامات ليلة القدر إلى قسمين: علامات مقارنة، وعلامات لاحقة.
العلامات المقارنة
هي العلامات التي تسبق الليلة والتي تحفز المتعبدين للتعبد فيها وقال النبي صلى الله عليه وسلم عن تلك العلامات “إن أمارة ليلة القدر أنها صافية بلجة كأن فيها قمراً ساطعاً، ساكنة ساجية، لا برد فيها ولا حر، ولا يحل لكوكب أن يرمى به فيها حتى تصبح” ويقصد صلى عليه وسلم أن تلك الليلة تتميز بقوة النور وبسبب الأنوار المنتشرة في الوقت الحالي عن وقت النبي فأصبح من الصعب تمييز تلك العلامة والشعور بفاروق وجوده، وأخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: تذاكرنا ليلة القدر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: “أيكم يذكر حين طلع القمر وهو مثل شق جفنة” قال بعض العلماء: فيه إشارة إلى أنها تكون في أواخر الشهر، لأن القمر لا يكون كذلك عند طلوعه إلا في أواخر الشهر. ومن علاماتها أيضا شعور المؤمن براحة القلب والطمأنينة وانشراح الصدر وهو شعور قل وجوده في باق الليالي سواء في رمضان أو غيره، ومن علاماتها أيضا خلو تلك الليلة من الرياح والعواصف الشديدة فيكون الجو معتدلا مقربا من النفس ويظهر أثره على نفسية المتعبد فيها.
العلامات اللاحقة
وهي العلامات التي تظهر بعد انقضاء الليلة لتبشر المتعبد بأنه قد لاقى تلك الليلة وتعبد فيه ويسأل الله أن يتقبل فيها منه وفيها حسرة لمن تكاسل تلك الليلة عن العبادة والقيام وقراءة القرآن والدعاء وتتلخص العلامات في أن تطلع الشمس في صبيحة يومها بيضاء لا شعاع لها كما ثبت ذلك في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي بن كعب. فكأن الشمس يومئذ لغلبة نور تلك الليلة على ضوئها، تطلع غير ناشرة أشعتها في نظر العيون. أفاده النووي في شرح مسلم.
ولذلك فمن الواجب على كل مسلم ومسلمة البحث والجهد المضني في البحث عن تلك الليلة حتى ينالوا من خيرها ومن عظيم ثوابها وذلك عن طريق قيام رمضان كله والزيادة في العبادة في العشر الأواخر من ذلك الشهر الكريم، فبجدة البحث عنها وصدق الرغبة في قيامها ينولها لنا الله سبحانه وتعالى.
أحب الأعمال في ليلة القدر
ومن الأعمال المستحبة في تلك الليلة الكريمة بل وأفضلها هو قيام الليلة بالعبادة حيث قال النبي محمد صلى الله عليه وسلم (مَن قام ليلةَ القدرِ إيمانًا واحتسابًا، غُفِرَ له ما تقدَّمَ من ذنبِه، ومَن صام رمضانَ إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تقدَّمَ من ذنبِه) ومن ثم أثناء القيام الزيادة في الدعاء بما كل ما يتمناه المسلم وقد سألت السيدة عائشة رضي الله عنها النبي صلى الله عليه وسلم عن أفضل الدعاء في تلك الليلة فأخبرها أن تقول (اللهم انك عفو تحب العفو فاعف عني) والعفو اسم من أسماء الله الحسنى، واختصاص الرسول صلى الله عليه وسلم الدعاء بذلك الاسم فيه بشرى لنا، فالعفو هو مسح الذنب نهائيا مختلفا عن المغفرة فالعفو أن يرفع الذنب الذي عفا الله عنه فلا تذوق مر سؤالك الله عنه.
وأداء الفرائض في تلك الليلة فيه خير كثير عظيم والحفاظ على صلاة الجماعة بخاصة المغرب والعشاء فقد ذكر في الحديث الشريف (دخل عثمانُ بنُ عفانَ المسجدَ بعد صلاةِ المغربِ، فقعد وحدَه، فقعدتُ إليهِ، فقال: يا ابنَ أخي! سمعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يقول: من صلى العشاءَ في جماعةٍ فكأنما قام نصفَ الليلِ، ومن صلى الصبحَ في جماعةٍ فكأنما صلى الليلَ كلَّه) ومن أفضل الأعمال أيضا في تلك الليلة الاعتكاف بالمسجد للعبادة ولقضاء تلك الليلة المباركة وذلك أسوة بالحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم.
فبتلك الأعمال المستحبة نتقرب من الله عز وجل في تلك الليلة المباركة عسى أن ننال من خيرها فضلا ورحمة ومغفرة نحن في أمس الحاجة إليها، وعسى أن يستجيب الله دعاءنا في تلك الليلة وتكون سببا في دخولنا الجنة، ونبذل فيها وفي رمضان كله قدر استطاعتنا فنحن لا نضمن بأن نبلغ رمضان القادم وكم من أحبة غادروا قبل أن ينالوا من فضله.
سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم