قليلة هي تلك الروايات التي غيرت وأحدثت أثراً في التاريخ بشكل عام، ورواية اليوم هي إحدى روايات هذا النوع، التي غيرت في تاريخ دولة مهمة للغاية، فإن لم تكن هذه الرواية قد وجدت بالتأكيد فإن آثار وتفاصيل التاريخ الذي سمعناه عن هذه الدولة، كنتيجة لتلك الرواية لم يكن ليحدث. كوخ العم توم هي رواية العبودية بامتياز، التغيير والصرخة التي تطلب بالمساواة، والتي تنادي باعتبار العبيد بشراً مثل أي شخص، بيضاً كانوا أو سود.
استكشف هذه المقالة
هاريت بيتشر ستاو
مؤلفة رواية كوخ العم توم هي فتاة لم تعرف من الحياة إلا أبسطها، فقد كانت هذه الفتاة تعيش حياة متواضعة كما كان إحساسها بأنوثتها شديد البساطة والتواضع، ولم تعرف من الأدب ، إذا اعتبرناه كذلك، سوي كتابة المذكرات، وبعض الأشعار، والتي كانت تخفيها عن الكل، فقد كانت تعبر عما تحس به في وحدتها، كانت صامتة، حياتها هادئة خالية من أي أحلام ولو صغيرة، كانت تدرب نفسها دائماً على الرضا بنصيبها المتواضع.
في سن السابعة والعشرين تعرفت هاريت على أستاذ في علم اللاهوت اسمه كالفن ستو، وأصبحت صديقة حميمة لزوجته “إلزا”، وبعد فترة توفيت زوجته إثر وعكة صحية مفاجئة، ثم بعد فترة تقدم لها زوج صديقتها طالباً الزواج منها، ذلك عندما أحس بأخلاقها الرفيعة، وسلامة نفسها وصفائها.
وتزوجت هاريت وبعد فترة رُزقت بستة أطفال، كانوا هم كل همها وشغلها الشاغل في الحياة، وازدادت مسؤولياتها العائلية بهم، خلال فترة مسؤولياتها العائلية في بعض الأحيان كانت تكتب بعض الأشعار والمقالات وترسلها للصحف المحلية، ولكن بعد فترة من التعود على الأمر شعرت بأنه ينقصها شئ ما، وبأنها تحتاج لأن تجعل لحياتها معنى.
في ذلك الوقت كان نظام الرق منتشراً بكثرة في الولايات المتحدة، في المناطق الجنوبية تحديداً، وكان الأسياد “من يملكون العبيد”، قساة لا يعرفون الرحمة، بل كانوا يعاملون الحيوانات بشكل أفضل منهم.
سمعت هاريت حكايات كثيرة عن العبيد وعن طرق معاملتهم القاسية، وكانت تعاني مما تسمع أشد المعاناة، ويُذكر أن زوجها كان في سفر لإحدى الولايات، فزارها زنجي عجوز تحدث معها عن حياته كعبد، ومما يعاني، وأخبرها عن سيده وكيف يعذبه، وأخبرها بأن سيده جلده حتى تكسرت عظامه وتحول إلى كسيح، ورغم ذلك طلب السيد مبلغ ٦٠٠ دولار حتى يمكنه تحريره، تحركت الموهبة الكامنة في كاتبتنا الموهوبة، وأرادت أن تثور بقلمها، واستطاعت أن تفعل ذلك، وبدأت في كتابة قصة تجسد حياة العبيد ومعاناتهم، وبدأت تروي لأبنائها كل يوم جزءاً منها، عندما تنهي كتابها، ولاقت القصة أشد التأثير على أسماع أبناءها، كانوا يذرفون الدمع بغزارة عندما تروي لهم أمهم تفاصيل الرواية، وتمنت لو أنها تستطيع أن تؤثر على الشعب الأمريكي، بنفس القوة التي أثرت بها على أبناءها، لأنه إن حدث ذلك فسيكون له وقع كبير في الكشف عن مأساة العبيد ومحاولة المساهمة في حل قضيتهم، ونتيجة لهذا الحماس قدمت نسخة من أحد أجزاء روايتها إلى أحد الصحف المحلية. وهناك ألقي الناشر أهتماماً كبيراً وحماساً بالرواية، ” حيث أنه كان ضد العبودية ونظامها القاسي”، وهناك قرر أن ينشر الرواية على حلقات متسلسلة، ولاقت رواية كوخ العم توم إقبالاً كبيراً بين القراء، و انتظرها الجميع بشغف، وحققت مبيعات قياسية، في وقت قصير، وبعد فترة نشرت الصحيفة خبراً بأن الكاتبة ستتوقف عن نشر الأعداد المتسلسلة من أجزاء الرواية، وساعتئذ خرجت جماهير عريضة تقتحم مبنى الجريدة وتطالب بالاستمرار في نشر حلقات الرواية.
ثم صدرت الرواية ” كوخ العم توم ” بعد ذلك، كاملة، في جزأين كل جزء من ٣٠٠ صفحة، وحققت الرواية مبيعات عظيمة، ونجاحاً مبهراً، فقد كانت تصدر الطبعة وما تلبث أن تنفذ بسرعة قياسية جداً، ووزعت الرواية أربعين ألف نسخة في أقل من ثلاثة شهور.
بكت أمريكا كلها واهتزت جموع الناس على رواية كوخ العم توم وانهمرت الدموع بشدة على كل ما سطرت هاريت بيتشر ستاو.
عم تتحدث رواية كوخ العم توم ؟
تتحدث الرواية عن العبيد ومعاناتهم، وكيف استطاعوا بإرادتهم وعزيمتهم تحقيق أحلامهم وآمالهم، رغم كل ما رأوا وعاشوا من عناء وتعب.
بطل الرواية هو العبد العجوز “توم”، والذي يعيش مع زوجته “كلو” وأطفاله في كوخ صغير، عند أحد السادة، حيث يدير العمل بمزرعة سيده، كان العم توم مخلصاً قوي البنية، شديد السواد والطول، وأيضاً كان متواضعاً ومشاعره تدل على الثبات والإحساس بالكرامة واحترام الذات، ويتعرض للتعذيب والأذى على يد سيده الأبيض، وهو رجل صادق ومخلص وبه كثير من الخير رغم كل ما يتعرض له من شر وأذي.
قرر السيد شلبي “مالك توم”، أن يبيع العم توم لرجل غريب يدعى “السيد هالي”، لتسوية دين كان بينهما، على أن يسترده مرة أخري حينما يتوفر له المال لفعل ذلك، وافق السيد هالي مقابل أن يأخذ عبد صغير أيضاً مع توم، يدعى “جيم” أبن عبده أخري تدعي إليزا، ولما سمعت إليزا بالخبر، أمرت العم توم بأن يأخذ ابنها ويهربان، حيث أنها فقدت زوجها واثنين من أبنائها، بهذه الطريقة القاسية التي تفرضها العبودية، ولأن توم كان مخلصاً ووعد سيدة بالوفاء على كل شئ، لم يوافق بالهرب مع ابن إليزا، ومن الجدير بالذكر أيضاً، أن السيد شلبي له ابن كان يحب توم كثيراً، ولم يكن موجوداً عندما تم بيع توم.
هربت إليزا مع أبنها، وعبرت النهر وحيدة بابنها، وقد واجهت صعوبات ومخاطر كثيرة أثناء رحلة الهرب، وجاء حظها جيداً حيث وقعت تحت رعاية أسرة خيرة، تقف ضد مشروع العبودية فقدموا لها المساعدة، وأرسلوها لتعيش عند صديق لهم في الغابة حتى تختفي عن الأعين، وهناك تقابل إليزا زوجها الهارب، ويقرران جميعاً الهروب إلى كندا، حتى يتمكنوا من العيش بحرية وسلام. أما توم فقد بيع لعائلة غنية وهي عائلة “سانت كلير”، وقد تم شراؤه بعد إصرار إحدى فتيات العائلة الغنية، على شراء توم إذ أنها ستعتني به كثيراً، وتم الشراء وعاشت الفتاة الصغيرة مع توم، وكان أسها إيفا، واعتنت إيفا به فعلاً كما وعدت، وقد أحبته كثيراً واحبها هو أيضاً وتحولت العلاقة بينهما إلى صداقة حميمة، كما أخبرته برغبتها في أن تحرره وأن تنهي مشكلة العبيد في أمريكا كلها، ولكنه اخبرها أن الموضوع أعقد من ذلك بكثير، فهذا النظام متأصل له جذوره منذ سنين، ولا يمكن أن يختفي بالبساطة التي تتحدث بها.
بعد فترة ليست ببعيدة مرضت إيفا مرضاً شديدا وحزن عليها والدها كثيراً، وكذلك حزن عليها العم توم أيضاً، وحينما علمت أن أجلها قد أقترب، طلبت من والدها أن يحرر توم. وقد حدث المتوقع وماتت إيفا ذات الابتسامة الطفولية، والبراءة، حزن أبوها وتوم عليها كثيراً جدا عليها، وبعد أيام من وفاة إيفا، توفي والدها أيضاً أثر حادث، حيث كان يحاول أن يفض مشاجرة ولكنه مات للأسف. طلب العم توم من مربيه إيفا أن تحرره كما أوصت إيفا قبل وفاتها، ولكنها قالت أن الأمر ليس بيدها، وأخبرت والدة إيفا بالأمر، وجاء الرد صادماً حيث رفضت ذلك بتاتاً، حيث أنها ولدت في عصر كانت فيه حركة العبودية نشاطاً رائجاً، ولذلك فقد كانت من أنصار العبودية، وباعت العم توم، وبذلك بيع العم توم، مرة أخرى.
في ذلك الوقت وقبل أن يباع توم، كانت عائلة السيد شلبي ” مالك توم الأول”، قد سمعت بما حدث له وتمنوا أن يستطيعوا شراء العم توم مرة أخري، فقد كانت الأسرة بأكملها تحبه وتقدره وتعتبره أباً لها، وقرروا جمع المال الذي يمكنهم من استعادة توم، مرة أخري ولكن للأسف لم يحدث هذا، وكان توم قد بيع بالفعل للمرة الثانية.
بيع توم هذه المرة بيعة غير موفقة، وقع تحت يد سيد من الجنوب أساء معاملته كثيراً، رغم إخلاصه وفنائه في العمل، إلى أنه تعذب وعوقب كثيراً، بلا سبب، وجراء ذلك العذاب لزم توم فراشة لعدة أيام، أثناء كل ذلك العناء، قام جورج بالبحث عن العم توم مراراً وتكراراً، حتي علم طريقه، وعندما تمكن من الوصول إليه، ذهب إلى فراشه، وعندما رآه توم والتقيا للمرة الأخيرة أسلم العم توم روحه لبارئها في حضور جورج الذي طالما أحبه كثيراً طيلة حياته، واستلم جورج جثمان العم توم وعاد به إلى منزله حيث يوجد كوخ العم توم وقص على أهله والخدم والعبيد قصة العم توم وكيف مات وعاني، بعد دفن جورج للعم توم أقسم وهو على قبره ألا يمتلك عبداً مرة خري أبداً طيلة حياته، وحرر كل العبيد الذين امتلكهم، وقال لهم تذكروا توم وتذكروا حريتكم وكيف أن توم كان هو السبب في تحريركم، أحسنوا إلى أسرته وتذكروا كوخ العم توم كلما مررتم به. وهكذا تنتهي قصة من أهم وأشهر قصص الأدب الأمريكي على الإطلاق.
كانت رواية كوخ العم توم صرخة للتعبير عن آلام العبيد ومعاناتهم، استطاعت من خلالها هاريت بيتشر ستاو أن تعبر عن مشكلة العبودية، وقد لاقي سعيها نجاحاً كبيراً، تغيرت حياة الكاتبة العظيمة بعد كتابة هذه الرواية ، وتحولت حياتها المتواضعة في منزلها المتواضع، إلى حياة أخري أفضل بكثير وذلك نتيجة لأرباح طبعات الرواية المختلفة التي نشرت، وسكنت في منزل فخم هي وزوجها وأطفالها، وأصبحت حياتها مختلفة منذ ذلك اليوم، لم تتغير حياة الكاتبة المادية فحسب، بل تغيرت معامله الناس لها أيضاً، فبعد نجاح رواية كوخ العم توم والتي ترجمتها الدول الأوربية إلى كل لغاتها في ذلك الوقت، تغير تعامل الناس مع هاريت وأصبحوا يعاملونها كقديسة، فمثلاً إن ذهبت إلى السوق أو إلى محل ملابس، رفض الباعة أخذ نقود منها، تقديراً لمكانتها وقيمتها وما قدمته للمجتمع الأمريكي، ليس هذا فقط بل لهذه الشهرة جزء سلبي أيضاً، ففي الولايات الجنوبية لاقت سخط الناس لها، حيث أن الشعب الأمريكي والنظام في الجنوب يؤيدون العبودية وبالتالي فهم ضد أي محاولة لإلغاء نظام الرق هذا، وصُدرت رواية كوخ العم توم في الجنوب الأمريكي، وأصبحت ممنوعة هناك، بل كان خطراً كبيراً على أي شخص يمتلك الرواية أو يقرأها، إذ أن قراءتها تعني أن ذلك الشخص مجرماً ويجب القبض عليه، ومع ذلك فقد كانت الرواية تلقي قبولاً كبيراً بين كل أبناء للمجتمع الأمريكي في ذلك الوقت، سواء في الشمال حيث كانوا يقرؤونها بحرية أو في الجنوب حيث يقرؤونها سراً.
بعد تسع سنوات من صدور الرواية قامت الحرب الأهلية في الولايات المتحدة الأمريكية، بين الولايات الجنوبية والولايات الشمالية الشرقية بأمريكا، ومن الأسباب الرئيسية للحرب في ذلك الوقت هو التوسع في الولايات الأمريكية، وإنشاء ولايات جديدة في غرب الولايات المتحدة، وقد كان محط سؤال الجميع وقتها، أي نظام ستسير عليه الولايات الغربية الجديدة، هل سيستمر فيها نظام العبودية كما هو الحال في الولايات الجنوبية، أم سيتم إلغاء التعامل بهذا النظام كما هو قائم بالفعل في الولايات الشمالية.
وبناءا على ذلك قامت الحرب الأهلية والتي كانت من أخطر الحروب التي مرت على تاريخ الولايات المتحدة، والتي استمرت أربع سنوات “١٨٦١_١٨٦٥” وقد مات خلالها ستمائة ألف رجل، والذين كانوا من سكان لا يزيد مجموعهم الأصلي عن عشرة ملايين مواطن، في ذلك الوقت، وقتها انفصلت الولايات الجنوبية وأعلنت استقلالها عن باقي الولايات المتحدة، ولكن هذا لم يستمر طويلاً.
في تلك الفترة كان الرئيس الأمريكي هو “أبراهام لينكولن”، والذي أصدر قراراً جريئاً بعد ذلك بإلغاء نظام الرق نهائياً وإلي الأبد، وتوحيد أمريكا كلها، تحرر كثير من العبيد في تلك الساعة، وكثيرين سخطوا على الرئيس وقراره، ونتيجة لكل هذا تم اغتيال الرئيس أبراهام لينكولن برصاصة أطلقها عليه أحد المتعصبين.
وفي أثناء حياة الرئيس لينكولن، كان قد دعي مؤلفة رواية كوخ العم توم هاريت بيتشر ستاو في البيت الأبيض تقديراً لها ولمكانتها، وقال لها “هذه المرأة الصغيرة هي التي أشعلت الحرب الأهلية في البلاد”. وقد كان كلامه صادقاً فقد جعلت هذه السيدة تحرير العبيد مطلباً ضرورياً لا يمكن الحياد عنه، وأيقظت ضمير الكثيرين من الشعب الأمريكي، حتى لاقى هدفها نجاحه.
وفي عام ١٨٩٦ وفي سن الخامسة والثمانين، توفيت العظيمة هاريت بيتشر ستاو بعد أن حققت هدفها ورؤيتها في الحياة، وساهمت في الكشف عن مأساة العبيد وتحريرهم، حتى الآن ومنذ نشر رواية كوخ العم توم لأول مرة بيع منها أكثر من أربعين مليون نسخة حتى الآن، وبالرغم من أن الرواية قد أدت رسالتها والدور المكتوبة من أجله، إلا أنها لا تزال عملاً أدبياً رائعا وعظيماً.
فيلم كوخ العم توم
كعادة أي قصة أو رواية ناجحة فإن السينما تساعد في توثيق هذا بالنجاح وتأكيده، فليس كل الناس قادرين على قراءة الروايات، خاصة وإن كانت رواية طويلة، كرواية كوخ العم توم فذلك يشق على الكثيرين أيضاً مهما كانت الرواية مشهورة وتلقي شهرة ورواجاً كبيراً، لذلك تم تجسيد رواية كوخ العم توم في فيلم من إخراج “ستان لاثان”، بطولة كل من أيفري بروكس، كيت بيرتون،بروس ديرن، الفيلم حاصل على تقييم ٦.٣ في برنامج تقييم الأفلام الشهير IMDb.
تعتبر قصة كوخ العم توم من الروايات المهمة جدا تاريخياً، لإنسانة لم تعرف أي شئ مختلف في بداية حياتها سوى كتابة بعض الخواطر والأشعار، وعندما رأت أختها الكبري ذلك صفعتها على وجهها، ظناً منها أن هذا الكلام موجه لأحد الشبان، ولما الحقيقة لم تكن كذلك، أقلعت هاريت عن ذلك الفعل، وعادت له بشكل نسبي بعد زواجها، وقد عملت أقصى ما تستطيع حتى تستطيع توصيل رسالتها للعالم، بكتابتها لروايتها العظيمة كوخ العم توم غيرت مجرى حياتها، وساهمت في تحويل النظام الأمريكي للأفضل.