حين نتحدث عن قصور الأمراء من الأسرة العلوية يكون من الضروري التحدث عن مؤسسها محمد علي باشا، كان قائد عثماني ألباني، نال لقب باشا ثم عين والي مصر واطلق على نفسه لقب خديوي مصر والسودان بموافقة مؤقتة من الدولة العثمانية، والخديوي هو نائب السلطان أو الملك في حكم ولاية معينة أو مستعمرة، يعتبر محمد علي يعد مؤسس مصر الحديثة كما حرص أن يطلق عليه هذا المسمي، وهو من أسس الأسرة العلوية الحاكمة لمصر والسودان والحجاز وأجزاء من ليبيا والشام في أوج قوتها، وأستمر حكم الأسرة العلوية لمصر قرابة قرن ونصف، مما ترتب عليه ترك ارث ثقافي عظيم في صورة قصور الأمراء وما بها من متاحف ومقتنيات، عاشت مصر عصر تقدم وازدهار اقتصادي وعلمي وثقافي ومعماري بسبب الإصلاحات التي قام بها محمد علي، وقام بحمل الراية من بعده حفيده الخديوي إسماعيل وخاصةً في المجال المعماري، حيث قام بحفر قناة السويس وشيد دار أوبرا الخديوي وقصر عابدين الذي أصبح مقر الأسرة الحاكمة.
استكشف هذه المقالة
قصر عابدين
قصر عابدين هو أشهر قصور الأمراء من أسرة محمد علي، وأشتهر كمقر للعائلة المالكة. كان قبل تشيده منزل كبير لاحد قادة محمد علي الألبانيين المسمي بعابدين بك الأرناؤوطي، بعد وفاته وبمجرد تولي الخديوي إسماعيل الحُكم قام بشراءه وهدمه وبنى مكانه قصر عابدين وسماه باسمه تكريمًا له. إذا قلنا أن قصر عابدين تحفه فنية فلن نوفيه حقه، فهو يعد من أفخم القصور في العالم باسره من حيث الزخارف والرسومات والنقوش، وعدد كبير من الساعات المتواجدة في غرف القصر والمُزين معظمها بالذهب الخالص. بدأ تشييد القصر عام 1863 واستمر لمدة عشرة أعوام، وتم افتتاحه رسميًا عام 1874، قام بتصميم القصر المعماري الفرنسي ليون روسو بمساعدة عدد كبير من النقاشين المصريين والأتراك والإيطاليين والفرنسيين، في أول الأمر شُيد القصر على 24 فدان، ثم أضاف الملك فؤاد الأول الحديقة للقصر على مساحة 20 فدان، ووصلت تكاليف بناء القصر إلى 700 ألف جنيه مصر وتكلفة الأثاث وصلت إلى 2 مليون جنيه مصري.
قصر عابدين بعد الثورة
بعد قيام ثورة 23 يوليو، ومصادرة مجلس قيادة الثورة قصور الأمراء من أسرة محمد علي الذين لاذ أغلبهم بالهرب من مصر، وقع علي عاتق مجلس قيادة الثورة التصرف في القصور التي أصبحت قصور رئاسية ومتاحف، وعلى رأسهم قصر عابدين الذي أصبح قصرًا من القصور الرئاسية الرسمية الثلاث، وأُسُتخدم في استقبال الوفود الدبلوماسية والملوك والرؤساء، وجزء منه تحول متحف، ويذكر أيضًا في حادثة أن القصر كان يحوي على أطقم فضيات تاريخية لا تقدر بثمن، وقد طالب بعض قادة القوات المسلحة حينها أن تصرف بعض هذه الأطقم لمطاعم الضباط، حينها رفض الرئيس جمال عبد الناصر قائلًا: أن هذه الأطقم لها قيمة تاريخية عريقة، ولابد من بعد أن تستقر الأمور للرئاسة أن تقوم بشراء احتياجات مطاعم الضباط.
قصر القبة
قصر القبة أحد اهم وأفخم قصور الأمراء من أسرة محمد علي، يقال أن الخديوي إسماعيل هو من بناه، ولكن المرجح أنه كان ملك لأخوه مصطفي فاضل باشا الذي كان من المفترض أن يرث الحكم من بعد الخديوي إسماعيل ولكن نشب بينهم خلافات أدت إلى إصدار فرمان 1866 بترحيل مصطفي باشا إلى إسطنبول بعد شراء كل ممتلكاته التي منها هذا القصر، وقد كان القصر في الأصل محاطًا بقرى وأراضٍ زراعية، وأشتهر قصر القبة بمساحته الشاسعة، فقد كان يغطي ما يقارب 77 فدان، أشتهر أيضًا بحدائقه الخلابة الخاطفة لعيون القادمين من وفود دبلوماسية لرؤية الملك، وقد خصص الخديوي إسماعيل هذا القصر للأميرة شوق نور والدة الخديوي توفيق، وقد ولد بهذا القصر الخديوي توفيق واستقر فيه بعدما تولى الحكم، وكان يقام فيه أكبر وأرقى الحفلات الباذخة التي كان يقيمها لضيوفه وأيضًا الزواجات الملكية في عصره، وفي عهد ابنه الخديوي عباس حلمي الثاني أصبح قصر القبة موازيًا لقصر عابدين من ناحية الرسمية.
قصر القبة منذ تولي الملك فؤاد وحتي ثورة 23 يوليو
حين تولي الملك فؤاد الحكم أصبح قصر القبة هو المقر الملكي الرسمي، وأمر الملك فؤاد بالعديد من التحسينات والإضافات على القصر منها سور بارتفاع ستة أمتار يحيط بمساحة القصر الكلية المقدرة بسبعة وسبعين فدان، وأضاف أيضًا بوابة جديدة وحديقة خارجية بالإضافة لمحطة قطار ملكية بداخل حدود القصر لنقل الوفود الدبلوماسية من محطة قطار القاهرة أو الإسكندرية إلي القصر الواقع شمال وسط القاهرة، وفيه توفي الملك فؤاد ونقل جثمانه من قصر القبة إلى قصر عابدين، وتولى من بعده ابنه الملك فاروق وكان عنده حينها 16 عامًا وقام بإلقاء خطاب إذاعي جلل حيا فيه رعاياه، وفي ذاك القصر أحتفظ الملك فاروق بمقتنياته الثمينة التي كان يجمعها والتي لا تقدر بثمن، منها مجموعة طوابع ثمينة وعدد هائل من الميداليات والعملات النقدية والساعات المرصعة وساعات اليد أيضًا والعديد من المقتنيات الأثرية الرائعة وعلى رأسها طاقم قهوة من الذهب الخالص وبيضة فابريجيه التي كان يهديها أخر القياصرة الروس لزوجاتهم وأمهاتهم في عيد الفصح كهدايا.
بعد ثورة 23 يوليو وحال قصر القبة كحال كل قصور الأمراء من العائلة الحاكمة تمت مصادرة القصر وأصبح احد القصور الرئاسية الثلاث، وبيعت مقتنيات الملك فاروق المتواجدة فيه والمذكورة سابقًا بمزاد علني سنة 1954، وخصص جزء من القصر لكلية الزراعة بجامعة عين شمس، وكان يفضل الرئيس الراحل جمال عبد الناصر استضافة الضيوف، وفيه كان يقبع جثمانه بانتظار الجنازة. وظل قصر القبة مقر استضافة الضيوف الدبلوماسيين قبل وبعد الثورة، وفيه نزل شاة إيران أثناء منفاه بمصر، وفيه أيضًا أستقبل الرئيس مبارك رئيس الولايات المتحدة الأمريكية باراك أوباما عام 2009، ويظل قصر القبة منزل الضيوف الدبلوماسيين الرئيسي حتي يومنا هذا.
قصر المنتزه
أحد اروع وأجمل قصور الأمراء العلويين قصر المنتزه، بُني على هضبة منخفضة واقعة شرق وسط الإسكندرية مطلة على البحر الأبيض المتوسط، في أول الأمر كان هناك قصر السلاملك الذي أمر ببنائه الخديوي عباس حلمي الثاني عام 1892، وكان يستخدمه كاستراحة أثناء صيده وكنزل لرفاقه، ثم قام بعده الملك فؤاد بإضافة قصر الحرملك والحدائق الملكية إلي قصر المنتزه كقصر مصيفي عام 1932، قصر الحرملك عبارة عن تحفة فنية معمارية مذهلة تجمع بين الفن المعماري العثماني والفن المعماري الفلورنسي الإيطالي، يميزه برجان احدهما على الأسلوب العثماني والأخر على الأسلوب الإيطالي المرتفع بصورة ملحوظة عن نظيره العثماني ويحوي على نقوش مفصلة اشتهرت بها الفن الإيطالي في حقبة النهضة، وللقصر ممرات طويلة مفتوحة تجاه البحر في كل طابق.
وبعد ثورة 23 يوليو تمت مصادرة القصر مع بقية قصور الأمراء بالإسكندرية، وشيد به الرئيس الراحل جمال عبد الناصر فندق هلنان فلسطين ليستقبل به ملوك ورؤساء الدول العربية في أول قمة عربية عام 1964، وفي عهد الرئيس محمد أنور السادات تم ترميم قصر السلاملك بأمر منه، وأصبح مقر رئاسي رسمي، وأخر من استخدمه من الرؤساء كان الرئيس محمد حسني مبارك.
قصر رأس التين
قصر رأس التين يعتبر من اقدم قصور الأمراء من الأسرة العلوية فقد شهد تاريخ الأسرة منذ تأسيسها على يد محمد علي باشا وحتي نهايتها في عهد الملك فاروق، يقع قصر رأس التين على ساحل البحر الأبيض المتوسط بمدينة الإسكندرية، وقد أمر ببنائه محمد علي باشا شخصيًا وكلف بتصميمه وتشييده العديد من المعماريين والمهندسين الأجانب، بدأت أعمال البناء عام 1934 واستغرقت 11 عامًا لإنهاء التصميم الأصلي، واستمرت لعامان أخران لإنهاء بعض الأعمال التكميلية وافتتاحه الرسمي. بُني على أرض مرتفعه عن الميناء، وهو أحد الإنشاءات القليلة التي أمر بتشييدها محمد علي باشا بنفسه في الإسكندرية، ويقال انه كان الموقع الذي جرت فيه المفاوضات بين محمد علي والأدميرال الانجليزي المخضرم شارلز نابير أثناء أزمة المشرق، حين أراد محمد علي تأسيس دولة مستقلة له عن الدولة العثمانية وعارضته القوي الأوروبية آنذاك وحاصرت ميناء الإسكندرية حتي خضع محمد علي لشروطهم.
أخَذت الهيئة المعمارية للقصر الطابع الإيطالي لحقبة النهضة، بعناصر معمارية وزخارف ونقوش مستوحاة من تلك الحقبة وأيضًا متأثرة بالفن المعماري الأندلسي، أقيمت أساسات القصر علي ما يقارب الأربع فدادين، وكان المكان محاط بحدائق أكثرها من التين تصل مساحتها إلي 12 فدان ومنها أخذ اسمه، طوال تعاقب الملوك من الأسرة الحاكمة تم أستخدام القصر كمقر ملكي وحكومي أثناء موسم الصيف. قام العديد من الحكام بإجراء تعديلات على القصر حتى عهد الملك فؤاد الذي قام بإعادة بناء القصر تمامًا وأضاف إليه خدمات وزخارف معاصرة وجعله نسخه مصغرة لقصر عابدين، الديكور الداخلي للقصر يجمع بين الفن المعماري لحقبة التطور والفن البيزنطي والفن الفرنسي المعاصر وأشرف علي إعادة التصميم والبناء المهندس الإيطالي إرنستو فيروتشي بك، وبعد قيام ثورة 23 يوليو هرب الملك فاروق إليه وتم حصاره به إلى أن وافق على التنازل عن العرش ونفي من مصر، وأصبح قصر رأس التين أحد القصور الرئاسية، ويستخدم حتي الآن كمنزل للضيوف الدبلوماسيين وكقاعدة بحرية.
بعض قصور الأمراء الأخرى
ذكرنا قصر عابدين وقصر القبة وقصر رأس التين وقصر المنتزه لشهرتهم ولكن هذا لا يعني أن هذا هو كل ما كان في مصر من قصور الأمراء العلويين، ففي حقبة الأسرة العلوية منذ عصر محمد علي باشا إلي عصر الملك فاروق عاشت مصر ازدهار ثقافي وحضاري ليس له مثيل! أختلط فيه الفن المعماري الإسلامي القديم كالأندلسي مع الفن المعماري التركي مع الإيطالي النهضوي مع الفرنسي الشهير وصنع لنا تحف خطفت أبصار الناس قديمًا وحديثًا، كقصر محمد علي باشا الذي شيدت حوله مدينة شبرا الخيمة وأمر محمد علي ببنائه بعد توليه ولاية مصر بثلاث سنين، وكان بمثابة قصر للراحة بعيدًا عن العاصمة ومشاكل الحكم والإدارة، واحتل مساحة 50 فدان تقريبًا، وبعد الثورة استخدمته وزاره الزراعة وكلية الزراعة.
وهناك أيضًا قصر الأمير طاز الذي يعد من أقدم القصور الإسلامية بمصر، فتاريخ القصر يعود إلى ما قبل محمد علي، بالتحديد عصر المماليك البحريين فقد بناه أحد مماليك السلطان الصالح زين الدين حاجي الأمير سيف الدين طاز الذي سمي على اسمه، ويعيش القصر حتي الآن ما يزيد عن 600 عام وناله من الإهمال ما ناله، ولكن تم تجديده مؤخرًا في عهد الرئيس محمد حسني مبارك وتم فتحه للسياح، وهناك أيضًا قصر البارون، بناه المهندس ورجل الأعمال البلجيكي فاحش الثراء إدوارد لويس جوزيف، وكان معروف بهوسه بمصر القديمة وقد بنى القصر على الطراز الهندوسي، وهناك قصر المنيل الذي بناه الأمير محمد علي توفيق ابن الخديوي توفيق وحفيد الخديوي إسماعيل وقد جمع ما بين الفن المعماري الأوروبي الحديث والعديد من الفنون المعمارية الإسلامية كالأندلسي والعثماني والفارسي، مات محمد علي خارج مصر عام 1954 أي بعد قيام الثورة، وأصبح قصره أحد قصور الأمراء التي صادرتها الثورة وتحول قصرة إلي متحف.
لا ينتهي رونق مصر التاريخي وجاذبيتها الحضارية بانتهاء عصر الفراعنة، فقد شهدت مصر عهد ازدهار ثقافي وحضاري في 148 سنة من حكم الأسرة العلوية التي زالت ولكن بقي اثرها في صورة قصور الأمراء الفاخرة وزخارفها الأثرة وحدائقها الخلابة، منه ما استطاعت الثورة الحفاظ عليه وتجديده وتحويله إلى متاحف وتحويل حدائقه إلي محميات ومنه من لم تحسن تقدير قيمته أو وصلت يد الفساد إليه أولًا. ولكن يكفي أنه إلي يومنا هذا لا تزال هذه القصور تتحدث عن عراقة مصر وتاريخها الذي لا ينتهي بزوال حضارة أو أسرة حاكمة ولكن يبقي مدى الزمان.
الكاتب: عبد الله نادي
أضف تعليق