“أذا أردت أسمى ما في الوجود عش في خطر” فريدريك نيتشه ، هكذا يمكننا أن نبدأ استهلالنا في الحديث عن أكثر الشخصيات أثارة للجدل على مر التاريخ، فريدريك نيتشه الفيلسوف المعاصر الذي عاش في القرن التاسع عشر، القرن الذي يعتبر العصر الذهبي للفلسفة في ألمانيا وأوروبا، فجل الأفكار والفلسفات التي شكلت مخيلة القرن العشرين وبعضها حتى اليوم، قد نشأت داخل ألمانيا على أيد روادها أمثال؛ هيجل وكارل ماركس وآرثر شوبنهاور وفيلسوفنا اليوم فريدريك نيتشه . نيتشه الذي عاش جل حياته يخاطب في المجهول ويصدح بفلسفته للعدم، حتى أنه قال بأن الجيل الذي سيفهم كتابته لم يأتي بعد، فشهرة الشاب الألماني المتقد الذهن لم تتخطى في بدايات مراحل حياته أكثر من المجتمعات الأكاديمية التي أضمرت له الكثير من الإعجاب والاهتمام جراء أطروحته في الفلسفة الإغريقية في كتابه الذي يعرف ب “مولد التراجيديا”. لكن ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية وتحقق نبوءة فريدريك نيتشه -فيما يتعلق بمصير أوروبا ومستقبلها- التي قالها قبل نحو أربعين عاما من ذلك، نبه النخب المثقفة للبحث في القديم ونبش الماضي في محاولة لفهم ما كان يرمي إليه نيتشه وبذلك تحققت نبوءة أخرى بمولد الجيل الذي سيفهم نيتشه وكتاباته.
استكشف هذه المقالة
فلسفة فريدريك نيتشه
لعل سردنا عن فريدريك نيتشه وفلسفته إنما هي محاولة للبحث في أكثر الأمور جدلا في تاريخ الفلسفة، فأن فريدريك نيتشه منفردا تحدى كل فلاسفة أوروبا المثاليين ليعلن انتهاء عصر العقل ليدعو لتمجيد الجسد والإرادة والقوة. فبالنظر الدقيق لنيتشه وأفكاره نجده يعج بالكثير من المتناقضات، فكيف لرجل ينكر الأخلاق الوضعية التي وجدت في زمنه أن يكون أكثر الناس مسالمة، وكيف لرجل يستنكر الشفقة ويحث على نبذها أن يبكي عندما يرى حصانا يضرب. لعل من رحم كل هذه التناقضات الغريبة ولدت فلسفة نيتشه. فريدريك نيتشه الذي يؤمن بالتفرد وتقديس القوة كان القشة التي قصمت ظهر الأخلاق الوضعية بل والفلسفات النسقية على حد سواء، حتى أن الإنسان من وجهة نظره ليس محل أي اهتمام أو تقديس، فما هو إلا حلقة وصل لما يعرف بالإنسان الأعلى “”Superman. وعلى الإنسان أن يسعى جاهدا لانتهاء عهده والتعجيل بظهور الإنسان الأعلى.
إرادة القوة
يعتبر فريدريك نيتشه أكثر الفلاسفة الذين نادوا بسطوة القوة وتمجيدها، أن الأخلاق التي فرضتها الأديان والتي يناديها أخلاق العبيد أغرقت أوروبا في النفاق والازدواجية. فكان يرى في القوة الأمل الأكبر في توحيد أوروبا وتقدمها، وسرعة معالجتها من الأخلاق السلبية التي تحض على الشفقة وتمجيد الضعف والشعور بالذنب.
فريدريك نيتشه والأخلاق
تتبدى فكرة أخلاق السادة والعبيد بوضوح لدى نيتشه، فكان يرى أن الأخلاق القائمة أو التي تداولتها المسيحية في العصور القديمة خاصة التي تسممت بفكرة الخير والشر هي أخلاق العبيد؛ كالتباهي بالفقر والضعف وحب الشفقة وما هي إلا صناعة أرستقراطية تطورت فيما بعد لتأخذ شكلها المعروف. ورأى أن أساس الأخلاق وجدت للجيد والسيئ. فالجيد أن تكون سعيدا ولديك ما يجعلك سعيدا مثل؛ القوة والمال والصحة والسلطة وهكذا. لذا فأن نيتشه رأى في الأخلاق التي تدعي إلى التسامح والإحسان إلى الأخر وإن كان سيئا، ما هي إلا وهما أخترعه العبيد للتغلب على طغيان سادتهم وتملكهم للأشياء التي تجعلهم سعداء. ورأى أن هذا لم يساعد العبيد على التخلص من مشاكلهم بل زادهم احتقارا وهو ما سعى فريدريك نيتشه جاهدا لمواجهته.
فريدريك نيتشه وفكرة موت الإله
“لقد مات الله ونحن الذين قتلناه” لعل تلك العبارة هي العبارة الأخطر في تاريخ الفلسفة. فنيتشه الذي تربى تربية دينية كاثوليكية في صغره، صاغ هذه الفكرة التي تنافي التصور المسيحي لمقتل المسيح وقيامته. لعل هذه الفكرة نشأت بالأساس من كره نيتشه للأخلاق المسيحية المتسامحة لأقصى الحدود وكذلك الضعف الإنساني، وكذلك كرهه لرجال الدين الذي وصفهم أنهم المنافقين والمسؤولين عن تحويل الدين لطقوس عبادية خاوية.
فريدريك نيتشه والحب
أنكر فريدريك نيتشه فكرة التفاني من أجل الأخر ونكران الذات، كما رأى انه بالأولى حب النفس أولا قبل التفكير في حب الأخر، وإذا كان من بدا من حب لأحد ما فليس القريب الأولى بالحب بل البعيد ويقصد بهذا المستقبل أو كما رآه يتمثل في حب الإنسان الأعلى وبذل أيما محاولة للوصل إليه وإن كانت بالفناء الذاتي فالإنسان في النهاية ليس إلا جسرا للإنسان الأعلى. رأي نيتشه في الحب العاطفي خطوة مهمة للتعرف على المرأة كما ارتآه هاما لأن هدفه الأخير هو الزواج بالطبع والزواج إذا تم يجب أن يتم بين متكافئين أحدهما مثل الأخر في تفوقها العقلي والجسدي، وذلك لإنتاج جيل أفضل يتمتع بصفات أفضل وجينات أنقى والذي من شأنه التعجيل بقدوم الإنسان الأعلى.
فريدريك نيتشه والمرأة
“إذا ذهبت للمرأة فلا تنسى السوط” هكذا يختم فريدريك نيتشه وصفه للمرأة في حديثه عنها في كتاب هكذا تكلم زرادشت. ربما ينضم نيتشه لفلاسفة آخرين فيما يخص نظرته السلبية للمرأة؛ فقد سبقه إلى هذا أرسطو وشوبنهاور وآخرون؛ ويرجع هذا في أغلب الأحيان لطبيعة العصر التي ساعدت على تهميش القيادات النسوية وكذلك عدم الاهتمام بالاستعانة بالمرأة في ميادين هامة كالعلم أو الأدب أو السياسة. لكن قصة فريدريك نيتشه تختلف قليلا فتجاربه المتعددة في الحب وخذلناه من العديدات من الذي تقدم لخطبتهم أو زواجهم جعله يحمل حقد دفين للمرأة فلا عجب أن يقول أن ” المرأة “فخ نصبته الطبيعة للرجل”. أما عن تجربته الأكثر إثارة وهي حبه للكاتبة الروسية لو سالومي، فقد أثرت كثيرا في شخصيته وتصوره للمرأة. فلو سالومي رفضت حب نيتشه له رفضا شديدا وأصبح نيتشه أكثر تعلقا بها حتى أصابه الغرام، حتى أن هناك صورة مشهورة تجلس لو سالومي فيها على عربة يجرها الحيوانات ويقف نيتشه مكان الحمار وتمسك لو سالومي فيها بالسوط في يدها، كأن نيتشه أراد أن يلخص معاناته في الحب معها في هذه الصورة. الأمر لا يتوقف على هذا فقد كان نيتشه معقدا من العلاقات الغرامية والحب بشكل عام، قد يرجع هذا أيضا إلى نفور النساء منه بسبه هيئته الغريبة وعينيه الحادة وشاربه الأشعث.
فريدريك نيتشه هكذا تكلم زرادشت
يعتبر كتاب هكذا تكلم زرادشت درة أبداع فريدريك نيتشه، فنيتشه يدعي بأنه كتابه هذا هو الإنجيل الخامس والمتمم للعهد الجديد، فقد استعان نيتشه في روايته الفلسفية بطابع أدبي مميز لسرد أهم أفكاره، فبطلها الذي يمثل نيتشه شخصيا هو زرادشت الذي سطع نجمه في أوروبا في القرن الثامن عشر كنبي وفيلسوف فارسي أسس لبعض الأفكار التي نادت بها المسيحية والديانات السماوية الثلاث لاحقا. فنجد أن زرادشت المتوحد الذي أنحدر من أعالي الجبال بعد انقطاع دام لعشرة سنوات، أتى ليدعو الناس لتمجيد القوة والتبشير بالإنسان الأعلى. والإنسان الأعلى من منظور نيتشه هو أنسان متفوق في أخلاقه التي مجدها نيتشه مثل الذكاء والقوة والغضب والضحك وكذلك فبإمكانيته الجسدية، فقد قدما طرحا كاملا للأخلاق والفضائل الإنسانية كما يراها، ثائرا على الأخلاق التقليدية التي نادت بها المسيحية والتي يراها محل خزي للبشرية التي يجب أن تسعى بكل ما تملك إلى تجاوز ذاتها والسعي للوصل للإنسان الأعلى الذي لا يعيقه شيء. ويتبدى هنا تأثر واضح بالتطور البيولوجي الذي طرحه دارون في نظريته الشهيرة، لكن نيتشه صاغ فكرة الطور من منحى إنساني خالص عن طريق فكرة الإنسان الأعلى. ورغم الخذلان الكبير الذي لاقاه نيتشه جراء طباعة الجزء الرابع من كتابه والذي لم يصدر من طبعته الأولى سوى أربعون نسخة وزعت على الأصدقاء، ألا أن هكذا تكلم زرادشت يعتبر اليوم أحد العلامات الفارقة في تاريخ البشرية.
فريدريك نيتشه والنازية
يعتبر العديد من المفكرين أن فريدريك نيتشه كان المحرك الفكري الأول للفاشية والنازية الألمانية على وجه الخصوص، التي سببت موجة التعصب والراديكالية الفكرية التي ضربت أوروبا في أوائل القرن العشرين وتسببت في حربين هما الأعظم في تاريخ البشرية؛ الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية. فأفكار أدولف هتلر عن تفرد الجنس الألماني الآري وعظمة قوته وأبداعه، هي التطور الوطني الراديكالي لفكرة تقديس القوة وتجاوز الإنسان لأهداف أسمى. لكن فات على الكثيرين أن نيتشه لما يكن عنصريا أطلاقا بل على العكس من النازية كان يرى نيتشه في اليهود أهل صناعة وفن وأمتدح أيضا تفوقهم في الحسابات وتجارة الأموال. وأيضا فريدريك نيتشه وفلسفته على النقيض قد تركت أثرا عميقا في العديد من المباحث الإنسانية الأخرى مثل علم النفس والدراسات اللسانية، كما يعتبر نيتشه هو الأب الروحي للفلسفة الوجودية وفلسفة ما بعد الحداثة. يرجع البعض أن ترتيب كتابه الأخير الذي أشرفت عليه أخته وتم تجميع العديد من القضايا والمقالات به أن اللغط أصاب عدم الدقة في التجميع.
فريدريك نيتشه هذا هو الإنسان
أحيا فريدريك نيتشه فكرة إعلاء قيمة الجسد وتمجيد الإرادة الإنسانية، مخالفا بذلك الفلسفة المثالية التي تمجد العقل والتي روج لها بني جلدته الفلاسفة الألمان في وقت سابق، فكان نيتشه لا يتوانى عن إظهار احتقاره لأفعالهم رغم انه يخبرهم دوما بأنهم أمة عظيمة. في كتابة هذا هو الإنسان يبدع لنا نيتشه قطعا أدبية مزخرفة على الطريقة النيتشوية في الأدب فالكتاب الذي يعتبر في الأساس سيرة ذاتية يتحدث نيتشه فيه عن ذاته ورحلته في الحياة إلا انه يرمي إلينا جملة غاية في الغرابة تعتبر عينة عما يحوي الكتاب، فيقول ” أطالبكم أن تضيعوني وأن تجدوا أنفسكم”. يستعرض نيتشه في “هذا هو الإنسان أهم المحطات التي مر بها وتفضيلاته الشخصية ومخاوفه وتوصياته فتارة نجده يحتقر أفعال الشعب الألماني وتارة أخرى يمتدح ويمجد موسيقى الموسيقي الألماني فاجنر وهكذا كأنما ندور في دولاب من الزهور.
حصان تورينو ووفاة نيتشه
يحكى أن السبب في انتكاسة فريدريك نيتشه في نهاية حياته بلا رجعة كانت بسبب حادثة حدثت في مدينة تورينو. ترجع الرواية المتداولة أن نيتشه شاهد حوذي يقوم بضرب حصانه بشدة من فوق عربته حتى يتحرك، الغريب أن نيتشه لم يحتمل مشاهدة الموقف فهرول مسرعا يبكي وقام بحضن الحصان لتفادي الضربات حتى أصابته الضربات وسقط صريعا. يقال إنه ظل في مرض مستمر بعد الحادثة المذكورة حيث بدأ المرض العقلي ومرض السفلس يتفاقم معه حتى توفى فريدريك نيتشه في 15 من أغسطس 1900.
فريدريك نيتشه الأكثر جدلا على مر العصور عاش ومات كما لم يفعل أحد فلا زلنا إلى اليوم نرى أطروحات أكاديمية متضاربة تتقدم لنيل الدرجات العلمية به ومحاولة متجددة لأعاده فهمه وتفسيره. ربما قد نختلف مع نيتشه في كثير من آراءه، لكن من الصعب إنكار عظمة أثره في التاريخ الإنساني وتأثير كتابته في مصائر الشعوب.