غسيل الأموال أو تبييض الأموال مصطلحان مشتركان في الدلالة والمفهوم، فهما يعبران عن ظاهرة سلبية نشأت حديثا في عالم المال والاقتصاد. وغسيل الأموال إنما يراد به تلك العمليات التي تهدف إلى تنظيف وتطهير للأموال القذرة بفعل مصادرها الغير مشروعة أو المجرّمة شرعا وقانونا وعرفا وخلقا، وذلك عن طريق تمويه أو إخفاء هذه المصادر بإقامة شركات أو مؤسسات ربحية وهمية كواجهة تبرر الأرباح الطائلة التي تدرها المصادر غير المشروعة. ومن ثم إدخال وتوظيف هذه الأموال بعد غسلها في القنوات الاقتصادية الشرعية لسهولة تحريكها وإدارتها وإجراء التعاملات بها في النور وتحت أعين القانون بعدما تم تعميته عن المصادر الأصلية لها، وكذلك للإجابة عن السؤال المعهود: من أين لك هذا؟
وتتعدد تلك المصادر الربحية المجرّمة التي تفرض على المتربحين منها إجراء عملية غسيل الأموال هذه. ونذكر على سبيل المثال لا الحصر: تجارة المواد المخدرة أو زراعتها، تجارة الأدوية الغير مرخص بها لأي سبب، تجارة السلاح غير المرخص، التمويلات الأجنبية التخريبية، المكافآت الواردة من العدو للجواسيس، تجارة الأعضاء البشرية، الإتجار بالرقيق الأسود وبالرقيق الأبيض، الرشاوي الكبرى التي تُتكسب بحكم المنصب الوظيفي، النصب والتدليس وخيانة الأمانة، الدعارة والقمار، اختلاس المال العام، تهريب الآثار والإتجار بها… إلخ.
ما هي عملية غسيل الأموال وكيف تتم؟
أصل المصطلح
بالرغم من إطلاق مصطلح غسيل الأموال على كل أنواع عمليات تطهير الأموال القذرة مجرمّة المصادر، إلا أن هذا المصطلح قد نشأ بشكل عيني مادي محدد ليصف عملية التطهير لدى لون بعينه من ألوان التجارة، قبل أن يتم إطلاقه وتعميمه على باقي أنواع التجارة الغير مشروعة، وهذه التجارة هي تجارة المخدرات.
فشيوع المخدرات والتهالك على تعاطيها جعلها سوقا رائجة تُجني أرباحا فلكية، وهي إن كانت تقوم على مغامرات المغامرين من رجال مافيا متخصصة، إلا أنها تستقر آخر الأمر في أسواق بعينها ليتم بيعها بالتجزئة (قطعة بقطعة)، وذلك ليسهل تداولها بين البائع والمشتري الذي يريد تناولها يوميا.
أمسى للمخدرات أسواقا مخصصة موصوفة للزبائن فقط، يتم بيع قطع الحشيش قطعا صغيرة وبشكل يومي، وهذا يتطلب أن تتناولها الأيادي البائعة والمبتاعة على السواء قطعا مجزّءة قد استخرجت من أغلفتها. ونظرا لطغيان رائحة هذه المواد المميزة والتصاقها بأيدي بائعيها التي بدورها تنقل هذه الرائحة إلى النقود المتحصّلة ثمنا لها، فإن آخر اليوم يحل وقد جمعت كميات كبيرة من أوراق النقود محملة بهذه الرائحة المميزة والمعروفة، فلا يستطيع أصحابها تصريفها أو التعامل بها أو إرسالها إلى البنوك بهذه الحال، فيقومون من ثم بعملية غسل وتنظيف لها من هذه الروائح لئلا ينكشف سرها. وعملية غسل الأوراق المالية هذه إنما تتم بوسائل يعرفها تجار المخدرات جيدا، هذه الوسائل لا تؤثر بدورها على هذه الأوراق النقدية تأثيرا سلبيا، فعملية الغسيل هذه إما يكون قوامها عملية التبخير، أو بعض المواد المزيلة لهذه الروائح ولا تؤثر بدورها أيضا على الأوراق المالية. وبالانتهاء من عملية غسل الأموال هذه يتم الدفع بها إلى حساباتهم في البنوك والمصارف أو في أي من أغراضهم التي يقرها الشرع والعرف والقانون بصورة طبيعية… هذا هو أصل مفهوم غسيل الأموال الذي جرى عليه ما يجري على كثير من مفردات اللغة، أي لغة، من عمليات المد الدلالي. هذا المد الدلالي إنما اتسع ليطال كل عملية تهدف إلى إخراج الأموال المتربحة من مصادر، أي مصادر، غير مشروعة، إخراجها في صورة يقرها الشرع والعرف والقانون، وهذه العملية إنما يكمن في جوهرها مفهوم التنظيف.. الغسل. وهكذا فإننا نرى أنه وكما جرى على هذا المفهوم ما جرى من عمليات المد، فإنه قد جرى أيضا عليه ما يجري على الكثير من المفاهيم في أي لغة من عمليات التجريد، أي إطلاق المفهوم من إطاره العيني المادي إلى معنى عام ومجرد.
المراحل الرئيسة التي تمر بها عمليات غسيل الأموال
تمر عمليات غسيل الأموال في الغالب بثلاث مراحل أساسية، وتتعدد خلال هذه المراحل صور التطبيق والتنفيذ، وهذه المراحل الثلاث هي:
مرحلة الإيداع
وهي المرحلة الأولى التي يتم فيها توظيف أو إحلال الأموال، إذ بموجبها يتم التخلص من كميات كبيرة من الأموال غير المشروعة بأساليب متعددة، إما بإيداعها في مصرف من المصارف أو في أحد المؤسسات المالية أو من خلال تحويلها إلى عملات أجنبية أو شراء سيارات فارهة وعقارات ويخوت باهظة الأثمان، ومن ثم تتيسر عملية بيعها والتصرف فيها فيما بعد.
ومرحلة الإيداع هذه تعد من أصعب المراحل الثلاثة بالنسبة لأولئك الذين يقومون بعملية غسيل الأموال لأنها لا زالت معرضة لأن تنكشف وتنكشف مصادرها غير الشرعية، لاسيما وأنها تتضمن عادة كميات ضخمة من الأموال السائلة، ومن ثم فإن التعرف على القائم بعملية إيداع هذه الأموال ليس بالأمر الصعب، وبالتالي علاقته بهذه الأموال وكيفية تربحها وتتبع أصول هذا التربح وصولا إلى الأصل والأساس… المصدر غير الشرعي.
مرحلة التمويه
وهي المرحلة الثانية من عملية غسيل الأموال التي تفيد التجميع أو التعتيم، والتي تبدأ بعد دخول الأموال غير الشرعية في قنوات ومنافذ النظام المصرفي الشرعي، ومن ثم يقوم غاسل الأموال بالخطوة التي تليها، والمتمثلة في التفريق أو الفصل بين الأموال المراد غسلها ومصدرها الغير شرعي، وذلك من خلال سلسلة معقدة من الإجراءات المصرفية الطبيعية القانونية نظرا لدخولها ضمن هذا النمط المصرفي المشروع. وتهدف هذه السلسلة من الإجراءات المصرفية داخل الإطار المصرفي الشرعي_ إلى جعل تتبع مصدر هذه الأموال غير المشروعة أمرا عسيرا يشوبه التشويش والضبابية. وتنحصر أهم هذه الوسائل المصرفية في تكرار عمليات تحويل هذه الأموال من مصرف إلى آخر، وكذلك التحويل الإلكتروني للأموال. ومما يضيف لتعقيد هذه الإجراءات ومن ثم تتبعها وصولا إلى مصادرها الأولى_ تحويل هذه الأموال إلى بنوك في بلاد خارجية معروف عنها تبنيها لقواعد صارمة من سرية الإيداعات، ويطلق على هذه البنوك: “الملاذات المصرفية الآمنة”. وتتميز هذه الملاذات بتساهل قوانينها، كما تتميز بجودة وسائل النقل من سفن وطائرات وسهولة تأسيس الشركات.
مرحلة الإدماج
وهي المرحلة الختامية في عملية غسيل الأموال، ويترتب عليها صبغ هذه الأموال غير المشروعة بطابع الشرعية؛ لذلك فهي يطلق عليها: “مرحلة التجفيف”. وبهذه المرحلة تُدمج الأموال المغسولة في النظام المصرفي والدورة الاقتصادية لتبدو وكأنها مكتسبات أو عوائد طبيعية لصفقات تجارية من مثل القروض المصطنعة والشركات الوهمية أو الكرتونية إن جاز التعبير، وتواطؤ البنوك الأجنبية، وكذا الحال الفواتير الصورية في مجالات الاستيراد والتصدير. وعند بلوغ هذه المرحلة يكون من العسير جدا تمييز هذه الأموال عن نظيرتها الشرعية، اللهم إلا إذا تحرت الأجهزة الأمنية هذه الأموال تحريا دقيقا سريا عن طريق زرع المخبرين بين أفراد عصابات غسيل الأموال لتتبع خطاهم خطوة بخطوة.
أنواع غسيل الأموال
هناك نوعين يمكن أن ينظر إليهما باعتبارهما غسيل أموال صريح، وهذان النوعان يسيران في اتجاهين متعاكسين: غسيل الأموال العادي وغسيل الأموال العكسي. أو بمعنى آخر: غسيل الأموال القذرة، وتقذير الأموال النظيفة.
غسيل الأموال العادي/ غسيل الأموال القذرة: وهي العملية التي تهدف إلى إعادة تدوير الأموال المتربحة من أعمال غير مشروعة في قنوات ومنافذ استثمارية شرعية بغية إخفاء المصدر الحقيقي لها ولتظهر كما لو كانت شرعية المورد. ومن الأمثلة الصارخة على ذلك شروع بعض الأطباء منزوعي الذمة والضمير، والذين يقومون بالإتجار في الأعضاء البشرية، شروعهم في فتح متاجر لبيع التحف والأنتيكات في منطقة راقية، وشراء العديد من الأنتيكات والتحف من الأفراد وبدون فواتير بطبيعة الحال عندهم، ومن ثم يقومون بتسجيلها بمبلغ أقل من قيمتها ليبيعونها بعد ذلك بمبلغ أعلى بكثير من قيمة الشراء المسجلة، وبالطبع يغلب على فواتير البيع الطبيعة الوهمية الصورية، ثم يقومون بدفع الضرائب عن هذه الأرباح حتى تكتمل الصورة وتصطبغ بالصبغة الشرعية، وتسجل فروقات الأسعار بالملايين، والتي أساسها عمليات إتجار وزراعة الأعضاء البشرية.
غسيل الأموال العكسي/ تقذير الأموال النظيفة
وهي أن تكون الأموال مشروعة المصدر نظيفة التربح، ثم يتم إنفاقها في منافذ غير مشروعة، مثل شراء أسلحة محرمة دوليا، كذلك تمويل العمليات الإرهابية، أو تمويل عمليات العنف والفوضى المنظمة أو الإضرار بأمن الدولة والأمن العام… إلخ.
صور متعددة من عمليات غسيل الأموال
إن من أهم السمات التي تميز عمليات غسيل الأموال هي التطور والمواكبة، فهي كما الفيروسات التي تهاجم البدن، كلما واجهتها المضادات والعلاجات بألوان من الممانعة، قابلتها الفيروسات بالتحور والتطور الذي يتيح لها فرص النفاذ إلى الجسم للنيل منه. كذلك كلما واجهت أجهزة الدولة الأمنية هذه العصابات بالترصد والملاحقة وكشف أوراقها، لاقتها هذه العصابات بابتكار حيل دفاعية جديدة ليصعب على الأجهزة الأمنية اكتشافها وتتبعها. وسوف نستعرض بعضا من صور غسيل الأموال التي تقوم بها عصابات الإتجار في المواد الغير مشروعة.
شركات الدمى
وهي شركات مستترة تمثل واجهات قانونية من غير هدف تجاري ربحي، وإنما هي تهدف إلى تبرير الأموال الطائلة التي تجنيها العصابات من المصادر غير المشروعة بطريقة مشروعة، ومن ثم تحويل هذه الأموال إلى أموال شرعية ونظيفة تتيسر سبل تداولها والتعامل بها. وتتم عمليات التضليل من خلال طريقين: إما الصفقات النقدية وإعادة الهيكلة، وإما اتفاقيات القروض.
فأما الأولى (الصفقات التجارية وإعادة الهيكلة)، فهي بأن تقوم شركات الدمى هذه بتحقيق أرباح شكلية عن طريق أنشطتها المختلفة كالاستثمار في العقارات والأراضي المعرف عنها شدة التذبذب في أسعارها، ومن ثم تعذر تحديد مدى منطقية واتساق الأرباح المحققة مع المصادر المزعومة. وقد تتمثل شركات الدمى هذه في شركات قائمة بالفعل قد أفلست أو تعثرت، فيقوم غاسل الأموال بشرائها كلها أو جزء منها ومن ثم يقوم بإعادة هيكلتها ليحقق من خلالها أرباحا صورية تُظهر أنه حول هذه الشركة إلى شركة ناجحة وأنه قد أنقذها من الوقوع. ويتم لغاسل الأموال ذلك من خلال التضخيم الصوري للإيرادات التي تحققها الشركة من ناحية، وتقليل المصروفات والتكاليف التي تكبدتها من ناحية أخرى، فبعِظَم هذا الفرق تعظم الأرباح (الصورية)، مع ملاحظة أن هذه الشركات تحرص الحرص كله على سداد التزاماتها الضريبية عن هذه الأرباح أولا بأول لئلا تشوب الشبهات أنشطتها من ناحية، ولإثبات جدية معاملاتها من ناحية أخرى.
وأما الثانية (اتفاقيات القروض)، فهي تتمثل في الإجراء الذي يهدف به أصحاب الأموال الغير مشروعة_ إلى إعادة أموالهم إلى بلادهم مرة أخرى مصبوغة بالشرعية بعد أن رحلوها إلى بنوك خارجية بهدف التعتيم. فهم في سبيلهم لإرجاعها إلى بلدانهم مبرّءة من الآثام، يلجأون إلى إبرام اتفاقات اقتراض من بوك أجنبية، ولا تقوم هذه البنوك بإبرام هذه العقود إلا بعد حصولها على تعهدات من بنوك أخرى في بلدان الملاذ المصرفي _والتي أودع فيها غاسل الأموال ودائعه النقدية_ تضمن فيه الشخص أو الشركة التي تريد الحصول على قرض لدى البنك المقرض. وبالطبع فإن البنك الضامن _ومن خلال الضمانات التي تحت يديه متمثلة في ودائع أو أصول أو حسابات جارية_ يبرم هذا التعهد. وبعد كل هذه المراحلة المعقدة، فإن الأموال تعود إلى الوطن في صورة قرض، وهذا القرض يجيب عن سؤال: من أين لك هذا؟
الإقرار الجمركي
استخدم المهربون هذا النوع من غسيل الأموال في الآونة الأخيرة، إذ يدخل هذا المهرب إلى بلد ما بهدف عقد صفقات تجارية، وفي الإقرار الجمركي يعلن هذا المهرب رقما معينا هو مقدار ما في حوزته من مال (وليكن مليون دولار)، بينما في واقع الأمر هو في حوزته أقل من هذا المبلغ بكثير (وليكن مئة ألف دولار)، وذلك إما اتفاقا مسبقا مع موظف الجمارك أو على أمل ألا يعدهم، فإذا ما كان هذا الموظف من يقظي الضمير وقام بعدهم وكشف أن المبلغ الحقيقي أقل من المعلن عنه، تعلل المهرب بأي شيء كأن يقول مثلا أنه قد نسي أو أخطأ. وفي حال لم يتم كشف هذا الفرق بسوء نية أو بحسنها، فإنه يتسنى للمهرب دخول البلاد ومعه ما يثبت أن بحوزته مليون دولار، ثم تكون الأموال القذرة التي يحصلها هي التي تسد الفجوة المالية بين ما بحوزته وما أعلن عنه (900 ألف دولار في هذه الحالة)، وعند مغادرته لهذا البلد ومعه نفس المبلغ الذي أعلن عنه وهو المليون دولار، يعلل ذلك بعدم استطاعته إمضاء الصفقة إلى نهايتها.
تجارة المجوهرات
من المعروف أن محال تجارة المجوهرات تقوم بالاحتفاظ باحتياطات نقدية ضخمة في صورة سائلة بهدف الاستعداد لأي من صفقات البيع والشراء التي تتطلب أموالا ضخمة في هذه السلع، إذ قد يصل حجم المشتريات والمبيعات لتجار المجوهرات في العام الواحد لمئات الملايين من الدولارات، وبالأخص في الصين وهونج كونج. وآلية غسيل الأموال في هذا المجال تكون كالتالي: تبدأ مثلا هذه العملية في إحدى مدن جنوب شرق آسيا، حيث يذهب تاجر مخدرات إلى تاجر مجوهرات وبحوزته ملايين من الدولارت التي يريد غسلها وتبييضها، فيسلمها لتاجر المجوهرات هذا ليقوم بدوره بخلطها مع احتياطاته النقدية من المال والتي يستخدمها في صفقات الشراء والبيع، ثم يتسلم المهرب (تاجر المخدرات) أمواله الغير شرعية بعد فترة من الزمن على أنها ثمرة عمليات مضاربة فعلية تمت على المجوهرات.
اقتناء ما خف وزنه وغلا ثمنه
يخفي ذوي الدخول الغير مشروعة أموالهم أحيانا فيما خف وزنه وغلا ثمنه، مثل الحلي والتحف والمجوهرات والقطع الفنية رفيعة القيمة باهظة الثمن. وهم يلجأون عادة إلى هذه الطريقة لأسباب عدة، لعل أهمها أن بائعي هذه المقتنيات القيمة يقبلون ثمن بضاعتهم نقدا دون طرح أية سؤال يتعلق بمصدر هذا المال المدفوع ثمنا لبضاعتهم. بهذا يكون المشتري قد غسل أمواله من غير معرفة البائع. ومن الأسباب الأخرى التي تدفع بغاسلي الأموال إلى الالتجاء لهذه الطريقة، هي أنهم يضمنون وجود أصول أموالهم تحت أيديهم بعيدا عن الرقابة والقانون الذي يمتد سلطانه لحسابات البنوك. كما في ذات الآن يستطيعون تحويل هذه المقتنيات إلى نقود سائلة والتصرف فيها وقتما شاءوا، أو الهروب بها إلى خارج البلاد إذا ما تم تجريمهم في أي من أعمالهم الغير مشروعة.
الاستثمارات الوهمية
في هذه الصورة من صور غسيل الأموال يلجأ بعض غاسلي الأموال إلى بنك حكومي أو وطني لدولة أخرى نامية أو متخلفة وفقيرة لإيداع مبالغ كبيرة بزعم الاستثمار، واختيار بلد نامٍ أو متخلف يغرض إلى سهولة الإغراء؛ فخليقٌ ببلد يسيل لعابه من أجل العملات الصعبة ألا يدقق أو يحقق فيما يأتيه من هذه العملات، من أين أتت وما الغرض الحقيقي من إيداعها في بنوكها؟ المهم أنها أتت وصبت في بنوكها الوطنية. المهم يذهب هذا الذي يزاول أعمالا غير شرعية إلى هذا البلد مدعيا إقامته لمشاريع استثمارية تفيد هذا البلد، وبعد عدة أشهر من قبول البنوك لهذه الدولارات يتقدم المودع (الغاسل) بطلب لتحويل المبلغ الذي أودعه إلى بلده الأصلي، وذلك بحجة عدم جدوى الدراسات التسويقية والمالية التي قام بها، أو بحجة تعرضه لأزمة مالية مؤقتة. وبعد أن تتم عملية التحويل لبلده الأصلي بأحد البنوك، يعلل مصدر هذه الأموال بالصفقات والمضاربات التجارية أو النشاط التجاري الذي قام به في البلد الذي أودع فيه أمواله القذرة. وفي واقع الأمر فهو لم يعقد أية صفقات ولم يقم بأية أعمال تجارية، ولكنه زار هذا البلد فقط من دون أية أهداف تجارية.
أسباب تجريم غسيل الأموال
ليست عمليات غسيل الأموال بالتي تنحصر آثارها في مجرد مزاولة أنشطة غير مشروعة أو مجرّمة (بالرغم من فداحة هذه الآثار)، وإنما هي ممتدة لفداحات أبعد من ذلك أثرا، أبعد بكثير. ومن أبرز هذه الآثار والنتائج ما يلي:
- استقطاعات من دخل الدولة القومي، واستنزاف الاقتصاد الوطني لصالح اقتصاديات دول أجنبية.
- تشويه عملية المنافسة الذي يؤدي بالتالي إلى إفساد مناخ الاستثمار.
- نظرا لشيوع الرشاوي وانخفاض كفاءة أجهزة الدولة الإدارية وفسادها؛ فإن معدل الادخار العام للدولة يتجه نحو الانخفاض.
- نتيجة لشراء القائمين بعمليات غسيل الأموال لذمم رجال القضاء والشرطة والسياسة وكبار موظفي أجهزة الدولة؛ فإن كيان الدولة يتجه نحو الضعف والتدهور نظرا لاستشراء خطر جماعات الجريمة المنظمة فيه.
- ارتفاع معدلات التضخم نظرا لتدهور العملة الوطنية الذي تتسبب فيه زيادة السيولة المحلية بالشكل الذي لا يناسب زيادة إنتاج الخدمات والسلع.
وهكذا فأنت ترى أن ذمما تُشترى، وكيانات دول تصاب بالترهل والتدهور، واقتصاديات قومية تستنزف لصالح اقتصاديات أجنبية… إلخ. فإذا ما نظرت من مستوى أكثر علوا واتساعا فلسوف ترى أن القائمين بعمليات غسيل الأموال إنما هم في حقيقة الأمر يتلاعبون بالبشر على كل المستويات، أفرادا وجماعات ومؤسسات ودولا؛ ذلك أن هؤلاء العصابات من المافيا المتاجرين بالأسلحة إنما هم في واقع الأمر يتلاعبون بسياسات دول بأكملها وينفذون في مجتمعاتها بغية إثارة الفتن والحروب، ذلك لتكون هذه الجماعات المحتربة بيئة استهلاكية للسلاح، فيزيد الطلب عليه من خلالهم ويصب في جيوب أولئك المتاجرين به… سماسرة الموت. وكذلك الأمر إذا تحدثت عن مافيا المخدرات الذين يهيئون مناخا مناسبا وسوقا رائجة من الاحتياج لسلعهم، وذلك بالنفاذ أيضا إلى هذه المجتمعات من خلال الساسة وكبار الموظفين والأجهزة الأمنية؛ وذلك لإجراء عمليات متعددة من إحباط الشباب وتجهيلهم وإفقارهم وإقفال آفاق الأمل في وجوههم… كل ذلك من أجل تنشيط تجارتهم القذرة من خلال هذه البيئة. وقس على ذلك العديد والعديد من الآثار الوخيمة التي تتسبب فيها عمليات غسيل الأموال المختلفة. فالأمر يتجاوز عمليات تضليل وإغواء الأفراد للإيقاع بهم في براثن الإدمان مثلا من خلال توفر السلع أمامهم_ يتجاوز الأمر ذلك إلى عمليات ضخمة من تهيئة مناخات وبيئات عن طريق تخريبها وإفسادها بالجملة، وليس فردا فردا. وقس على ذلك العديد من صور التجارات المحرمة الأخرى.
أضف تعليق