إن نظرت إلى علم الاقتصاد تبحث عن مهمته الرئيسية والأساسية والملموسة في المجتمع ستجدها قضية عدالة توزيع الدخل وإيجاد أفضل سياسة قادرة على تحقيق ذلك بدون مشاكل أو تأثيراتٍ جانبيةٍ سيئة على بقية أركان سياسة الدولة، السياسة الاقتصادية واحدةٌ من أعمدة الأساس لدى أي دولة وضعفها أو سوءها لا يخل بميزان السياسة والاقتصاد فحسب وإنما بالحياة الاجتماعية الملموسة لدى الأفراد بالمقام الأول وهو ما يؤثر على كل الجهات بالسلب بعد ذلك، أو على الأقل تلك هي الحال من منظور الفرد البسيط في مجتمعه الذي لا يريد شيئًا سوى السعادة والاستقرار والحياة الجيدة والأهم من كل ذلك أن يجد مقابل كل عملٍ يقوم به عائدًا ماديًا مجزيًا مستحقًا للمجهود الذي بذله يكفي احتياجاته واحتياجات أسرته ويكفل لهم مقومات وأساسيات الحياة ومبادئ رفاهياتها.
عدالة توزيع الدخل ليست مجرد قضية سياساتٍ عليا لا يفهمها ولا يمسها سوى الساسة والاقتصاديون ولا يتم التعبير عنها إلا بالأبحاث والدراسات والإحصائيات وإنما يعتبر الفرد الواحد هو أكفأ دليلٍ على عدالة توزيع الدخل أو ظلمها وغبنها لحقه وحاجاته وحياته.
كيف تساهم عدالة توزيع الدخل في الرخاء الاقتصادي ؟
التفاوت في توزيع الدخل
عندما بدأت المجتمعات وعلوم الاقتصاد في إيجاد مصطلح عدالة توزيع الدخل وتطبيقه في المجتمعات بعد الحرب العالمية الثانية كانت نظرتها أو نظريتها تفيد بوجود نوعين من توزيع الدخل، أحدهما هو توزيع الدخل الوظيفي والآخر كان توزيع الدخل الشخصي.
ينص توزيع الدخل الوظيفي على أن تنظر السياسة الاقتصادية إلى كل مجموعةٍ من الأفراد وتبدأ في تحديد وتوزيع الدخل عليهم حسب دوره في عملية الإنتاج ومدى مساهمته في خروج الناتج، أما الدخل الشخصي فكان تقسيم أفراد المجتمع لفئاتٍ محددة وتحديد الدخل الذي سيتم توزيعه على كل فئة ولذلك معاييره ومقاييسه المختلفة والتي تتفاوت عليها نسبة الدخل الموزع، لكن بشكلٍ رئيسي وفي كل الأحوال فإن العامل الأكبر المؤثر في توزيع الدخل هو الحالة الاقتصادية التي يقع فيها المجتمع، فمجتمعٌ منهارٌ اقتصاديًا بالطبع لن يستطيع كفاية حاجة أفراده وتوفير دخلٍ مناسبٍ لهم لأن فاقد الشيء لا يعطيه، وبالتالي فإن كل مرحلةٍ من النمو الاقتصادي سيختلف فيها توزيع الدخل وفي نفس الوقت فتوزيع الدخل سيختلف من فئةٍ لأخرى خلال مرحلةٍ اقتصاديةٍ واحدة حسب منصب تلك الفئة أو عملها أو تصنيفها.
غياب عدالة توزيع الدخل
غياب عدالة توزيع الدخل تعني أن العجلة الإنتاجية قد تعطي إنتاجًا كبيرًا أو صغيرًا والدخل القومي قد يكون كافيًا أو غير كافٍ لكن المشكلة هي عدم وجود ميزانٍ في توزيع الدخل، خلال أي مرحلةٍ يكون رؤساء العجلة الإنتاجية أي أصحاب المصانع والتجارات وهم الرأسماليون هم أصحاب العائد الأكبر سواءً في الضيق أو الرخاء الاقتصادي، وهم أصحاب الدخل الأكبر في حالات التوتر والاضطراب في اقتصاد الدولة بينما يحصل كل من يعملون في خدمتهم كالموظفين والعمال على دخلٍ يكاد يكفيهم.
من المفترض أنه في حال اعتدال النمو الاقتصادي والدخل القومي يجب توزيع الزائد بالعدل بين الرأسماليين وموظفيهم لأن غياب ذلك التوزيع سيجعل الموظفين أصحاب دخلٍ ثابتٍ لا يكفيهم والرأسماليين أصحاب دخلٍ متزايدٍ وأرباحٍ متصاعدةٍ بلا حدود وهنا تحدث الفجوة الاقتصادية والمعيشية بين الفئتين وتتكون طبقات المجتمع المتباينة بشكلٍ مرعب ما بين طبقةٍ تتقلب في الثراء الفاحش وطبقةٍ لا تجد قوت اليوم.
العلاقة بين توزيع الدخل والنمو الاقتصادي
من الطبيعي أن الدول في بداية أي عملية إنتاجية أو أي فردٍ يبدأ بالمساهمة في الإنتاج بمشروعٍ يكون له كميةٌ محددةٌ من رأس المال الذي يضعه في مشروعه لبنائه ومساعدته على الإنتاج، الربح العائد من تلك العملية الإنتاجية يتم تقسيمه على قسمين الأول هو الدخل والأجر الذي يحصل عليه العمال والموظفون لقاء جهدهم وعملهم، والقسم الثاني يدخل في توسعة وتكبير المشروع لزيادة الإنتاج.
توسعة المشاريع الإنتاجية ستعني بلا شكٍ ربحًا أكبر وهي ضروريةٌ رئيسيةٌ لحدوث النمو الاقتصادي فبدونها لن ينمو الاقتصاد، لكنها على قدم المساواة ستعني عمالةً أكثر وتوزيعًا أكبر للدخول مع مراعاة زيادة دخل الفرد سواءً كان قديمًا أو جديدًا بما يتناسب مع جهده، لكن الفكرة هنا تكمن في سياسة وعدالة توزيع الدخل بما لا يمس الربح والتوسعة لأن الربح لو تساوى مع توزيع الدخل سيتوقف توسع المشروع وتطويره وزيادة حجمه، ما سيعني بالتالي توقف النمو الاقتصادي.
فروقٌ عادلة في عدالة توزيع الدخل بين الأفراد
هنالك فروقٌ يتفاوت فيها الأفراد في الدخل الذي يحصلون عليه وتكون فروقًا عادلة أو فروقًا إجبارية، الفروق العادلة مثل اختلاف الدخل بين سكان المدن وسكان القرى والريف وتكمن العدالة في أن مستوى المعيشة الاقتصادي في المدن أعلى منه في القرى، لذلك لن يكون من العدل أن تقوم الدولة بالمساواة بين دخل الاثنين حيث أن الدخل الذي يكفي ساكن المدينة بالكاد قد يكون أكبر من حاجة ساكن القرية، وبالتالي يكون الأولى بالدولة أن تعطي كل شخصٍ ما يكفي مستواه المعيشي.
وهناك فروقٌ إجبارية مثل اختلاف المهنة واختلاف مساهمتها في النمو الاقتصادي والناتج القومي، ومن المعروف أن مساهمة العامل في المصنع في الدخل القومي أكبر من مساهمة العامل في الزراعة لذلك من الطبيعي أن يحدث تفاوتٌ بينهما في الدخل.
أي مجتمعٍ بالطبع يطمح أفراده للوصول إلى عدالة توزيع الدخل ليحصل كل فردٍ على حقه كاملًا لكن الحقيقة الاقتصادية تقول أن الدولة لا تكون قادرةً على القفز من الصفر إلى العدالة في خطوةٍ واحدة، وإنما يحدث الأمر بالتدريج خلال مراحل النمو الاقتصادي حتى يصل للعدالة، لذلك لا مفر أحيانًا من المرور بمرحلةٍ في النمو الاقتصادي تعاني من عدم عدالة في توزيع الدخل في الطريق إلى العدالة على شرط ألا تصبح مرحلة عدم العدالة دائمةً أو ثابتةً بينما النمو الاقتصادي في ازديادٍ واضح.
دراسة الدولة لحياة الشخص في توزيع الدخل
من أهم نقاط تحقيق عدالة توزيع الدخل أن تقوم الدولة بدراسة الحياة التي يعيشها الفرد نفسه فمثلًا المساواة في الدخل بين أعزبٍ وبين شخصٍ يعيل أسرةً لها خمسة أطفالٍ لا تكون عدلًا، لذلك تبدأ الدولة بدراسة الأحوال المحيطة بحال الفرد بشكلٍ عامٍ لتتمكن من أن تكفل له حياةً كريمةً مقبولة.
من ناحيةٍ أخرى تتوقف أعداد الأشياء التي تراعيها الدولة في دخل الفرد حسب النمو الاقتصادي، فدولةٌ اقتصادها بسيط أو لم يتقدم تمامًا ودخلها يكاد يكفي أفرادها لن تستطيع وضع اعتبارٍ لوسائل الترفيه والمتعة عند دراستها عدالة توزيع الدخل وإنما ستكتفي بأقل أساسيات حياة الفرد، أما في دولةٍ أخرى حيث يكون الاقتصاد متطورًا ومتقدمًا يكفي الأفراد وحاجاتهم الأساسية بل ويكون قادرًا على توفير الحد الأدنى من رفاهيات الحياة لكل الأفراد وإعطائها له كحقٍ من حقوق حياته لا نقاش فيه.
بالطبع في بعض الأحيان تحدث دراساتٌ ومحاولاتٌ تطبيقية لتنفيذ عدالة توزيع الدخل من طرف بعض الجهات والشركات الخاصة، بحيث يقوم أحد الرأسماليين باتباع سياسة توزيع الدخل بين موظفيه وجميع الأفراد العاملين في مؤسساته وشركاته حتى لو لم تكن الدولة نفسها قادرةً على تنفيذ تلك السياسة بشكلٍ عامٍ لكل أفرادها.
أضف تعليق