صنعة الخيمياء هي من أقدم العلوم في التاريخ البشري، قبل أن يتخذ صفة العلم ومسماه بالطبع، فكان يختلط بأعمال السحرة والمنجمين والكهنة، وقد ابتدأ تاريخه القديم الغامض جدا مع بداية الحضارات البشرية خصوصا الحضارة المصرية القديمة وحضارة الصينيين، وكانت ممارسة هذا العلم تحوطها السرية نظرا لما تحمله عقول ممارسيها من خيال رهيب، خيال يختصر مستقبل الجنس البشري كله في قفزة واحدة تجعل كل بعيد سهل المنال تماما، فبقفزة واحدة يمكن الحصول على إكسير الحياة الذي بإمكانه شفاء كل الأمراض ومنح الخلود للأبد، وحجر الفلاسفة أو روح المعدن التي تستطيع تحويل أيّ معدن إلى ذهب … الخلود والثروة، محاكاة الحياة، الحرية الكاملة، الإنسان المتحكم في كل شيء؛ كانت ولا زالت هي الأحلام الرائعة التي تدفع العلم وتقوده إلى الأمام.. هذه الأحلام التي لم يتوفر لها الأدوات اللازمة للحصول على المعرفة الكافية وتمييز مكاننا الحقيقي في العالم ومكان المخلوقات والجمادات من حولنا، فحاولت ليّ ذراع الواقع وجعله يخضع لسلطان الخيال وسرعة بساطه السحري والفانوس الذي يخرج منه روح جني يستطيع تحقيق أيّ شيء ترغب فيه!
صنعة الخيمياء : وهل هي علم حقيقي أم لا ؟
ما هي صنعة الخيمياء؟
يعتقد أن هذا اللفظ مشتق من لغة المصريين القدماء حيث كلمة “كمت” تعني الأرض السوداء (الأرض التي تنبع منها الحياة بكاملها) أو من آثار اليونان والكلمة اليونانية chio التي تعني السبك، أو بعد ذلك بكثير، من الكلمة العربية “كمى” وتعني يستر ويخفي.
وكما قلنا سابقا بدأ هذا العلم مع بداية الحضارات البشرية، لكن لم ينفصل عن أساسه السحري الكهنوتي إلا مع الحضارة اليونانية، الحضارة التي بدأت تكوين العلوم أصلا وإعطائها هذه الصفحة، فهي الحضارة التي نحتت كلمة الفلسفة وأتبعتها بباقي العلوم. بالتأكيد لم تحصل صنعة الخيمياء حينها على ذات مستقلة وربما لم يحصل على اسمه الخاص وقتها، لكن الأكيد أن هذا الاسم حاضر بقوة في الكتابات العربية والإسلامية.
صنعة الخيمياء الإسلامية
صنعة الخيمياء هو من أهم العلوم المميزة للحضارة الإسلامية، حيث بدأ يتخذ فيها شكلا يبرر حصوله على لقب “علم” يعتمد على التجريب أكثر من تأليف النظريات والقصص المفسرة للظواهر، بالطبع لم يتخلص من الشوائب السحرية الغامضة التي سيطرت عليه طويلا، وحتى لقد ساهم العلماء العرب في إضافة تفسيراتهم النظرية الغامضة كذلك، لكن كان هذا حال كل العلوم حينها؛ الغرق في الميتافيزيقا والغموض وشوائب السحر والتنجيم والكهانة. لكن يحسب للحضارة العربية أنها شكلت حلقة الانتقال الضرورية لهذا العلم من مجرد التنظير والتأليف الخيالي إلى التطبيق العملي وإعلاء قيمة التجربة فوق نظم الكلام أو على الأقل جعلهما متعاضدين يدعم أحدهما الآخر.
تحويل التراب إلى ذهب؟
كانت وعود صنعة الخيمياء رهيبة جدا، فهو لم يكن علما يعد الناس بمجرد تسهيل طرائق معيشتهم وتوفير أساليب لتحسين الصناعات، لكنه كان العلم الذي لعب دور المصطلح الحديث الذي نعرفه باسم “الخيال العلمي”، فكما قلنا صنعة الخيمياء هي علم السحر القديم، والقدور التي تغلي محتوياتها الكثيفة الثقيلة لليال عديدة ويدور حولها رجال بلحى طويلة أو نساء بشعور مغبرة غير مصففة، يحلمون بتحقيق المستحيل والحصول على كل شيء وامتلاك سيطرة كاملة على كل المخلوقات والجمادات … القوة المحركة للطموح البشري التي تم تهدأ أبدا حتى اليوم، والتي جعلت الأحلام القديمة متاحة الآن، والتفسيرات القديمة مضحكة للغاية، رغم أن سعة الخيال تحسب لهؤلاء الذين لم يملكوا طرقا لمعرفة العالم كما نعرفه اليوم وحاولوا تأليف عناصره جميعا في كل متماسك يخدم روح الإنسان القلقة التي لا ترضى أبدا بالعالم كما هو.
ومن هنا جاءت فكرة تحويل، لا التراب فقط، بل أيّ معدن إلى ذهب، المعدن الأسمى والأنقى، وكذلك الثروة والغنى والامتلاك لكل شيء.
لكن كيف يتحول التراب إلى ذهب؟
بدأت الفكرة أولا بمحاولة لتفسير تشابه كثير من الجمادات والكائنات كذلك في صفات كثيرة، ومن نظرية الوحدة بين كل الكائنات ونشأة كل شيء عن أصل مشترك، فتم الاتجاه إلى نظرية التفصيل؛ تفصيل كل شيء إلى مكوناته الأساسية، وتقرير أن لكل شيء أساسات واحدة لكن تختلف النسب وبهذا تنتج العناصر المختلفة … نستطيع تخيل هذا بالنظر إلى معرفتنا الحديثة بالنيوترونات والإلكترونات التي بتغيير أعدادها ونسب تكوينها تتكون ذرات مختلفة عن بعضها، وباتحادها تتكون الجزيئات ومن ثم العناصر … لم تكن هذه المعلومات كلها معروفة في السابق، فتم الاتجاه للبحث عن عناصر يمكن اعتبارها عناصر أساسية تتكون من اختلاطها باقي العناصر، وباختلاف نسبها تختلف العناصر بل والكائنات عن بعضها، وهي العناصر الأساسية هي الماء والهواء والتراب والنار.
من هذه العناصر الأساسية يتكون الذهب والفضة والرصاص والقصدير وغيرها من المعادن، كل بنسب خاصة به، إذن، فلم لا يمكن تحويل الفضة أو الرصاص إلى ذهب بتغيير نسب مكوناته الأربعة كي تتشابه مع الذهب فتصير ذهبا؟ ليست فكرة بعيدة أبدا، بل هي الفكرة المنطقية التالية!
ومن هذه الفكرة اكتسبت صنعة الخيمياء فتنة جديدة كعلم يستطيع تحقيق حلم الثروة لأيّ راغب، وعلى أساس علمي (كما كان ينظر للعلم حينها، أي بتتابع منطقي يتلو بعضه بعضا، فالمنطق يستطيع خلق صورة “حقيقة” للعالم بهذه الطريقة كما افترض القدماء). وهكذا جاءت صنعة الخيمياء للعرب، واشتغل فيه العالم العربي العظيم جابر بن حيان الذي أكد أفكار التحويل هذه، بل وإضافة لها وضع تفاسير أخرى خاصة به.
جابر بن حيان و صنعة الخيمياء
يعد العالم العربي جابر بن حيان أهم من اشتغل بصنعة الخيمياء في العصور الوسطى، أو في العصور القديمة بكاملها، فهو من خطا بهذا العلم خطوته الجديدة تجاه التجريبية والمنطقية العلمية القائمة على الملاحظة والتدوين، فقد أعلى قيمة العمل فوق التنظير، لكن لم يفصلهما ولم يلغ أهمية النظرية أبدا. ويظهر هذا من تنظيره الخاص لكيفية تحويل العناصر إلى ذهب.
حيث ابتكر نظرية الروح للعناصر، فهو يرى أنه كما للكائنات الحية من بشر وحيوان “روح أو جوهر” فإن للمعادن كذلك أرواح تؤثر على طبعها أي طريقة ظهورها وصفاتها واختلافها عن بعضها.
وهذا الروح قد يكون نقيا وقد تكون غير ذلك، ولا يكون روح المعدن نقيا إذا كان مختلطا بمعادن أخرى، ووسيلة تنقية الروح هي بفصله عن باقي الشوائب المختلطة به. وأنقى روح بين كل أرواح المعادن هو روح الذهب، الذي أنتج معدنا يفوق كل المعادن الأخرى وأسمى منها جميعا.
ويرى جابر أن عملية التقطير قد تؤدي إلى فصل الروح عن العنصر، وإذا تمكنا من السيطرة على هذا الروح، روح الذهب مثلا، وألقيناه على عناصر أخرى، فإمكانه تحويل هذه المعادن الأخرى إلى ذهب!
لكن لا ينبغي أن تصرف هذه الآراء الغريبة نظرنا عن عظمة صنعة الخيمياء القديمة، وكونه الأساس لهذا العلم الحديث الذي وفر لنا –لا أكسير الحياة الذي يشفي من كل الأمراض، لكن أكاسير كثيرة تحاول شفاء أكبر عدد منها، ولا تمل البحث عن البقية.
ورغم أن صنعة الخيمياء لم تتمكن من تحويل التراب والمعادن الأخرى إلى ذهب، إلا أنه وفر للبشر طرقا عديدة لتحقيق الثروة والسيطرة على الأرض من حولهم.
أضف تعليق