شخصية الطفل لا تتكون عند ولادته قطعًا، فالطفل عندما يأتي إلى هذه الحياة يكون صفحةً بيضاء ناصعة لا حرف فيها ولا بقعة لون، ثم تبدأ تلك الصفحة تتخلى عن بياضها وتكتسب الألوان والأشكال المهداة إليها، نقرب الصورة أكثر؟ هل شاهدت فيلم ديزني Inside out؟ إن لم تشاهده فاحرص على مشاهدته لأنه واحدٌ من أجمل الأفلام التي تشرح لك ببساطةٍ آلية مشاعر الإنسان منذ صغره وكيفية تكون شخصيته، في البداية تبدأ الذكريات بالتدفق تحمل مشاعر صافية ومركزة من السعادة أو الحزن أو الغضب أو الاشمئزاز أو الخوف، بعض الذكريات يدوم وبعضها يختفي ويُنسى مع الزمن، أفضل الذكريات واللحظات في حياة الطفل تكون جزءًا كبيرًا من شخصيته التي ستبنى عليها حياته بعد ذلك، الأبوان يكونان أول ذكريات طفلهما وأول من تراه عيناه عندما يفتحهما، ويكونان هما مجتمعه الأول الذي يتعامل معه ويصقل مشاعره وذكرياته ويوجهه ويكونان قدوته، وحتى عندما يكبر قليلًا ويخرج للحياة الخارجية يعود إليهما ثانيةً باعتبارهما مرجعه الأول في الحياة.
شخصية الطفل وكيفية مساهمة الأبوان في تكوينها
الاعتماد على الذات
أولى خطوات الأبوين على درب بناء شخصية الطفل لتصبح شخصيةً مستقلة هو تعليمه الاستقلال والاعتماد على الذات منذ صغره، الأطفال يحملون إمكانياتٍ أكبر مما نعتقد ومجرد الإيمان بأن الشخص الذي أمامك لا يستطيع عمل شيءٍ بنفسه لمجرد صغر سنه هي فكرةٌ هادمةٌ بدون أن تشعر، الطفل يرى تلك الفكرة في عيني أبويه ومع الوقت يؤمن بها وبأنه لن يتمكن من أن يفعل أي شيءٍ بدون مساعدتهما لأنه صغير ولأنه عاجز ولأنه لا يستطيع، لا يحتاج الطفل منك إلا مرةً تعلمه فيها ومرةً ثانيةً تدفعه فيها ليجرب بنفسه ليفاجئك بإمكانياته وقدرته على الاعتماد على نفسه، علينا أن نزرع في شخصية الطفل منذ صغره فكرة أنه مسئولية نفسه وأن الأشياء البسيطة التي تتعلق به لا يجب أن يساعده فيها أحد، علمه أن يرتدي ثيابه بنفسه أن ينظم ألعابه أن يتناول طعامه أن يتوقف عن اللعب في وقتٍ محدد لينتهي من واجبه المدرسي، إن سقط طفلك فلا تهرع وتأخذ بيده لينهض وإنما دعه يعتمد على نفسه ويتعلم النهوض بعد السقوط، لا ينقص ذلك أبدًا من حبك له وحنانك عليه فدائمًا ستجد فرصًا تعبر له فيها عن الحب لكن لا تجعل حبك يفسده ويعلمه التواكل عليك.
طلب رأيه دائمًا
الطفل شخصٌ مثلنا يفكر ويتخيل ويحلم وعندما تواجهه معضلة يحاول التفكير فيها، بل ربما ستنبهر من أفكار الطفل وحلوله وسرعة بديهته لأن الأطفال كائناتٌ لا تعرف التشتت، مشاعرهم وأفكارهم تكون مركزةً تمامًا على الشيء الذي بين أيديهم ولا يعانون مما نعاني منه من تضارب المشاعر والتوتر واختلاط الأفكار وتشتت الذهن، الطفل لم يولد عالمًا ولا عارفًا لذلك هو يسأل ويحاول أن يكون فكرةً كاملةً عن الأشياء التي تحيره من إجابتك، وسؤاله وقلة خبرته جعلانا نعتقد أن كل ما عند الطفل لنا هي الأسئلة وحسب، لكن الطفل أمام كل سؤالٍ يملكه لديه عشرة آراءٍ وأفكارٍ مختلفة! فلا تكوّن معه علاقةً أحادية الجانب تكون المجيب وهو السائل بل تبادل الأدوار معه، اسأله دومًا عن رأيه في الأشياء وما الذي يعتقده في المواقف أو القضايا البسيطة المعينة، تناقش معه لتعلمه لغة الحوار واستهدف عقله بأسئلتك وحديثك لتحثه على التفكير وإنتاج الأفكار والاستنتاجات والبحث والتأمل والأهم من كل ذلك تكوين رأيه الخاص، التناقش مع الطفل يجعله يتعلم أن الحياة ليست مجرد تلقي للأفكار الخارجية وتسجيلها في الذاكرة كما هي وإنما هي استنباطٌ لبعضها بأنفسنا، وجزءٌ من طلبك رأيه سيصب في نقطة حثك الاعتماد على الذات في شخصية الطفل، اجعله يبدي رأيه في المسائل المتعلقة به مثل الذي يريد ارتداءه اليوم أو ماذا يريد أن يأكل أو إلى أي متنزهٍ تود الذهاب معي أو ماذا تريد أن نفعل في وقتنا يوم العطلة، اجعله يشعر أنه مهم وأن رأيه يحدث فارقًا ليتعلم التمسك به والاعتماد عليه.
نظرية الثواب والعقاب
في بداية الحياة وقبل أن تتكون شخصية الطفل ستجده يجهل الصواب من الخطأ والذي يجدر بنا أن نفعله وما لا يصلح القيام به، وبعيدًا عن الصواب والخطأ التامين سيضيع الطفل في المنطقة الرمادية بينهما في الأشياء النسبية التي تكون جيدةً أحيانًا وخاطئةً أحيانًا أخرى، الضرب والزجر ليسا وسيلة تهذيبٍ ولا تعليم خاصةً في تلك الفترة ويجب أن نتفق على ذلك، لأن كل مرةٍ تقسو فيها على طفلك بدون أن تحتويه فأنت تهدم حجرًا في صرح استقلاله الذي نحاول أن نبنيه، وجه طفلك بالعقل والتفاهم والنقاش ولا تستخف بعقله أو تأمره بلا فهمٍ ولا شرح، عندما يفعل أمرًا صائبًا اجعله يشعر بسعادتك وفخرك به وحثه على الاستمرار، وعندما يخطئ ويصر على الخطأ عاقبه عقابًا لا يؤذيه، تفاهم واسأل عن السبب واجعله يصل بنفسه لنتيجة أنه أخطأ واجعل العقاب شيئًا مفيدًا ومساعدًا لا مجرد أذى.
تعامل الأبوين مع الطفل أمام الآخرين
التعامل مع الطفل في البيت أمرٌ وأمام الآخرين أمرٌ آخر، صحيحٌ أن شخصية الطفل لم تتكون بعد بالكامل لكنه ما زال يشعر مثلنا بالفرح والحزن والإحراج، يريد أن يبدو بأفضل صورةٍ أمام الآخرين ويريد أن يرى الآخرون أن والديه فخوران وسعيدان به، قد يبدو ذلك شيئًا بسيطًا لكنه إنجازٌ عظيمٌ في نظر الطفل، تقليلك من شأن طفلك أو إحراجه أمام الآخرين سيسبب له الشعور بالاستصغار والتفاهة، سيشعر أنه بلا قيمة وأنه لا يستحق وأنه لا شيء وأنكما غير سعيدان به ولا تفخران بكونه ابنًا لكما، وعندما يخطئ الطفل لا تعنفه في حضور الآخرين وإنما احفظ له كرامته وماء وجهه وأمره بالذهاب لغرفته وعاقبه وتناقش معه في الخفاء، اجعله يشعر بقيمة الكرامة من صغره وأن للآخرين حدودًا يرونها من علاقة الشخص بأهله لا يجب تجاوزها، لا تشمت الآخرين فيه لأن ذلك سيضعف شخصيته ويكسرها في حضور الغير.
تنمية ذاتية
الطفل كبر قليلًا ويذهب إلى المدرسة يتعلم فيها ما تعلمناه جميعًا وما ستتعلمه الأجيال القادمة والتي تليها، لكن بعض الأشياء لا تُعلم في المدرسة ولا توجد في الكتب، لا تجعل تعليم طفلك مقتصرًا على المواد الدراسية التي يتعاطاها في المدرسة وإنما ذلك مجرد جزءٍ من دروس الحياة وحسب، الدرس الأكبر سيكون في البيت على يديك، افتح عيني طفلك على حقيقة أنه لا يجب أن يُملى عليه كل شيءٍ يتعلمه وإنما هو قادرٌ على أن يختار ما يريد أن يتعلمه، ذلك يزرع في شخصية الطفل فكرة الاستقلال عن القطيع، اطلب منه أن يفكر ويبحث عما يحبه وما يريد أن يتعلمه وأن يجد لنفسه شغفًا وهواياتٍ يحب أن ينميها ويستغلها لصالحه، على الطفل أن يدرك أن هناك قراراتٍ خاصةً بنا وحدنا في الحياة يجب أن نأخذها بدون مساعدةٍ من أحد ولا نستطيع ألا نأخذها لأن ذلك سيجعلنا لا نتميز عن الآخرين في شيء، لا تنشئ طفلًا تقليديًا بل علم طفلك أن يكون مميزًا.
أضف تعليق