رغم أن عمليات زراعة المخ غير ممكنة حاليًا إلا أن من المحتمل أن تكون قادرين على فعل ذلك في المستقبل القريب، المخ من أكثر الأعضاء الحية إثارةً للحيرة والجدل منذ قديم الزمن، فانظر أين صار العلم وكيف أصبح الطب وبرغم كل ما وصل إليه يبقى المخ هو اللغز الأكبر، درسوه وشرحوه وقاسوه ووزنوه وقطعوه وأعادوا وصله مرةً أخرى إلا أنه ظل لغزًا يحيرهم ويؤرق ليلهم وما زال من أكثر الألغاز التي تمتعهم وترضي فضولهم وتعطشهم العلمي للغامض والمجهول، وأظن أن هالة الرهبة المحيطة بالمخ تلك تسببت فيها طبيعته وتكوينه وخلاياه الفريدة من ناحية، ومن ناحيةٍ أخرى كانت دقته وحساسيته الشديدة وتعقيده واتصاله بالجسم بأكمله والتحكم في أهم وظيفتين هما الإحساس والحركة يساعده الحبل الشوكي المتصل به بالطبع، لكن تخيل معي دقته وخطورته عند مقارنته بعضوٍ لا يمكن الاستغناء عنه كالقلب مثلًا، فقد تموت خليةٌ في القلب فلا نشعر بل وتعود بعد فترةٍ فتتجدد بمنتهى البساطة، لكن إن ماتت خليةٌ عصبية فقد تؤدي للشلل ومن المستحيل أن تتجدد ثانيةً أو تحل خليةٌ محلها!
وعلى هذا الأساس الحساس والمعقد بدأ مجتمع زراعة الأعضاء واستبدالها بعد أن نجحوا في زراعة أغلب الأعضاء الحيوية تقريبًا وحتى القلب نفسه في النظر إلى المخ والتساؤل إن كان بإمكانهم زراعة المخ من شخصٍ إلى شخصٍ آخر بنجاح!! هل من الممكن أن يتلف مخ شخصٌ فيفقد كل وظائفه الحيوية وغرفة التحكم المركزية في جسمه ويكون على شفا الموت فننتزع مخه ببساطة ونزرع له مخًا جديدًا؟ وما مدى نجاح عملية الزرع؟ أحد الفلاسفة قال مرةً أن المخ هو العضو الوحيد الذي يجب أن تتمنى أن تكون المتبرع به لا مستقبله فهل ما زالت تلك الفلسفة الساخرة المخيفة حقيقة؟
زراعة المخ بين الحقيقة والخيال
عقبات زراعة المخ
ببساطة كل ما هو مطلوبٌ في عملية زراعة المخ أن يتم جلب مخٍ من جسدٍ ميت وإعادة زراعته مرةً أخرى في جسدٍ فقد الإحساس والحركة أو أبعد منهما بسبب تلف خلايا مخه وعدم قدرة المخ على أداء وظائفه بشكلٍ سليم، زراعة المخ بالنسبة للكثيرين قد تسبب تغيرًا تامًا في قدرهم ومسار حياتهم.
أول عقبةٍ تتمثل في إبقاء المخ الذي سيتم زراعته حيًا فمن المعروف أن الإنسان لو كان حيًا وانقطعت سبل الحياة عن مخه لعددٍ من الثواني تبدأ خلايا المخ في الموت بسرعة ولا يمكن إعادة إصلاحها ثانيةً، كما أن المخ يكون بحاجةٍ إلى الحفظ في درجة حرارةٍ معينة وظروفٍ خاصة.
العقبة الكبرى كانت في إعادة توصيل المخ بالحبل الشوكي مرةً أخرى فالمخ بدون الحبل الشوكي لن يؤدي أية وظيفة ولن يحصل به المريض على أي ميزةً فوق ما كان لديه بالفعل بمخه القديم، ففي إحدى المرات نجح أحد الأطباء في إعادة زراعة مخ في أحد القرود إلا أن القرد لم يظهر أي تحكمٍ بجسده بسبب عدم وصول المخ بحبله الشوكي، لم يمنعهم ذلك من البحث والحلم للوصول لليوم الذي سيتم فيه زراعة مخٍ صحيحٍ في جسمٍ آخر ويعمل بمنتهى الكفاءة كأنه مخه الأصلي.
هل من الممكن أن تكون زراعة المخ ناجحة؟
عندما تتساءل ذلك التساؤل اسأل نفسك أولًا عن معنى كلمة عملية زراعة ناجحة؟ في الطبيعي في عمليات زراعة الأعضاء المختلفة يتم الحكم على نجاح أو فشل العملية من طريقين إما أن الجسد تقبل العضو الجديد وبدأ يعمل في انسجامٍ معه فتكون ناجحة وإما أن جهاز المناعة تمت إثارته وهاجم العضو المزروع فرفضه ودمره وأصبحت عمليةً فاشلة.
لكن بالنظر إلى المخ فالمخ من الأعضاء المحصنة من جهاز المناعة ما يعني أن نسبة مهاجمة جهاز المناعة للمخ الجديد ورفضه نسبةٌ ضئيلة واحتمالٌ ضعيف، إذًا كيف تفشل العملية؟ يحدث الفشل بسبب أن المخ الجديد لم يقم بالوظائف الكاملة للمخ الصحيح السليم الأصلي، وأن المخ الجديد لم يحصل على تحكمه الكامل على الجسد ولم يستطع الأطباء جعل مشلول الحركة ينهض بعد عملية زراعة مخ ويركض في الشوارع.
لذلك للأسف ما تزال الإجابة لا، لا يمكن زراعة مخ آخر في جسدٍ آدميٍ وتنجح العملية نجاحًا تامًا ولم يحدث ذلك حتى الآن، بالرغم من أن العلماء والأطباء نجحوا في زراعة مخ كاملة وجزئية في الفئران والقرود وحتى الكلاب، وبالرغم من أن أغلبهم ماتوا بعد أيامٍ من الزراعة كما تمت تجربة العملية على أجسادٍ ميتة وهي بالطبع ليست أنسب مقياسٍ للدلالة على نجاح العملية من فشلها، إلا أن الإنسان ما زال مخه يبدو أكثر تعقيدًا وأبعد مدى من تلك الزراعات الناجحة.
الطبيعة العصبية
شكلت الطبيعة العصبية عائقًا كبيرًا أمام عملية الزراعة فالخلايا العصبية خلايا حساسة ومميزة عن بقية أنواع الخلايا في الجسم في الشكل والوظيفة لكن الأسوأ كان عدم قدرة الخلايا عن العصبية على التجدد وعدم استطاعة أي خلايا أخرى أن تقوم بعملها لو فشلت أو ماتت، لذلك تسببت بحاجة الطب إلى البحث عن طرقٍ لإعادة زراعة المخ وجعله يعمل بكفاءة مرةً أخرى، فلو كانت الخلايا العصبية يمكن علاجها كانت الكثير من المشاكل قد حُلّت ولم يعد بنا حاجةٌ ملحةٌ بهذه الطريقة إلى زراعة المخ وإنما سيحتاجها أنواع معينةٌ من المرضى، لكن من كان السبب الرئيسي في معاناتهم هو موت الخلايا العصبية وفقدان وظيفتها يواجهون نفس المعاناة.
يحاول الأطباء حتى اليوم أن يحصلوا على حلولٍ وأدويةٍ تساعد الخلايا العصبية على التجدد واستعادة وظائفها خاصةً وأن زراعة المخ ليست حلًا متاحًا حتى الآن لشخصٍ فقد وظيفةً بسبب تلف الخلايا، فلو استطاع الأطباء علاج تلف تلك الخلايا سيتمكنون من إعادة الوظيفة له دون الحاجة للزراعة.
من جانبٍ آخر
قلنا أن المخ عضوٌ غريبٌ وغامضٌ ومحير وكان التساؤل الكبير إن استطاع الأطباء توصيل المخ الجديد بالحبل الشوكي هل سيكون المخ قادرًا بكفاءة على السيطرة على جسدٍ غريبٍ بالنسبة له؟ الأمر هو أن أي عضوٌ آخر يتم زراعته هو مسئولٌ عن وظيفته الخاصة وما يتصل به وحسب ولا علاقة له بالجسد أو بقية أجزائه ما لم تتدخل في وظيفته، إلا أن المخ هو الرئيس والمتحكم بالجسد فهل سيكون قادرًا بكفاءةٍ وسلاسة على التحكم والسيطرة بجسدٍ ليس جسده بعد أن عاش دهرًا يسيطر على جسدٍ آخر ويتحكم فيه؟
من الطبيعي أن المخ كأي عضوٍ آخر قادرٌ على التأقلم مع البيئة المحيطة وتعلم الجديد فيها كما فعل المخ في الصغر عندما بدأ يتحكم في أجسادنا، لكن هل يحمل المخ الكبير الناضج نفس مرونة المخ الصغير في مرحلة النمو؟ يستدل البعض على أحقية تلك التساؤلات بمواقف ذكر فيها اشخاصٌ فقدوا أطرافهم أنهم ما زالوا في بعض الأحيان يشعرون بأطرافهم التي لم تعد موجودة ويشعرون بألمٍ وهميٍ في المكان الذي كانت فيه ويستمر ذلك لفتراتٍ طويلة، ما يعني أنهم لم يستطيعوا التأقلم مع حقيقة فقدانهم تلك الأطراف تمامًا فهل يستطيع المخ التأقلم على بيئةٍ كاملةٍ جديدة والسيطرة عليها؟
المؤكد أن الطب لا يوقفه شيء وأنه في يومٍ من الأيام ستصبح عملية زراعة المخ حقيقةً واقعة وعمليةً موجودة تُجرى في المستشفيات وتغير حياة الآلاف وتجيب لنا على كل تلك الأسئلة.
أضف تعليق