كثير من النظريات والتجارب التي وضعت فرضية- بمرور الزمن أصبحت حقيقة راسخة- بأن الأطفال في مراحلهم العمرية الأولى لا تشكل عقولهم أي نوع من أنواع الذاكرة على الإطلاق. فكان آخر ما توصل إليه العلم فيما يخص موعد تكون ذاكرة الطفل هو أن معظم الأشخاص تتكون ذاكرتهم وتبدأ في التشكل والتطور مع مطلع عامهم الخامس وأن هناك نسبة قليلة من البشر لا تتعدى 5% هم وحدهم من يتمكنون من تذكر أحداث بسيطة وقعت فيما قبل عامهم الرابع وأحياناً قبل العام الثالث كذلك.
اعرف أكثر عن تطور ذاكرة الطفل عبر مراحل عمره
بحث جامعة كندا حول ذاكرة الطفل
حتى قدوم عام 2011 والذي أطلق فيه بحث جديد بواسطة البروفيسورة كارول بيترسون بجامعة كندا يهدف إلى هدم كافة النظريات السابقة التي نفت تكون ذاكرة الطفل مبكراً، ويطمح إلى إثبات النقيض وأن الأطفال في مقتبل حياتهم تتكون الذاكرة لديهم بالفعل لكنها سرعان ما تتلاشى.
قبل ذلك البحث كانت الأبحاث والدراسات السابقة تستند على نفي تكون ذاكرة الطفل في الأعوام القليلة الأولى من حياته إلى افتقاد عقله للمهارات الإدراكية واللغوية الكافية التي تؤهله لترجمة ما يحدث حوله من أحداث وما يقال أمامه من كلام حتى يتمكن من تخزينها داخل عقله كذكريات أساسية، لكن بيترسون نفت مثل تلك الاعتقادات زاعمة بأن ذاكرة الطفل في العشر أعوام الأخيرة يمكن وصفها بالذاكرة المتجددة دوماً؛ أي إنها تقوم بتسجيل الأحداث المختلفة في الذاكرة لكن على قدر بسيط لا يتعدى قدرات الطفل العقلية في ذلك الحين وبالتالي فكلما جاءت أحداث جديدة تستحق التسجيل في الذاكرة يتم تثبيتها محل الأحداث القديمة التي تدخل في طي النسيان، كل ذلك يستمر في الحدوث طيلة عشرة أعوام من عمر الطفل أي بالتحديد عندما يبدأ الطفل في التعلم بشكل متواصل داخل المدرسة مما يترتب عليه محو كافة الذكريات التي تم تسجيلها في مرحلة ما قبل الدراسة وبداية عهد جديد داخل ذاكرة الطفل.
خطوات الدراسة
لفهم ما تحويه ذاكرة الطفل وتحديد ما إذا كانت تعمل في عمر مبكر أم لا قامت بيترسون ومجموعة من مساعديها بإجراء دراسة شملت 140 طفلاً تتراوح أعمارهم بين الرابعة والثالثة عشرة حيث طلب من كافة الأطفال الخاضعين للدراسة أن يتذكروا أكثر حدث مبكر في حياتهم، ومن ثم يتم إعادة التجربة لكل طفل بعد عامين من الآن وللتحقق من صحة النتائج سئل الأطفال كذلك- في كلتا المرتين- عن أعمارهم في الوقت الذي وقعت فيه تلك الأحداث التي يتذكرونها مع مقارنتها بإجابات لنفس الأسئلة وجهت لآباء هؤلاء الأطفال للوقوف على الأعمار الحقيقية للأطفال.
وبالمقارنة بين نتيجة الدراسة الأولى والثانية بعد عامين وجد أن كافة الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين الرابعة والسابعة قد تذكروا بالفعل أحداثاً مبكرة من حياتهم في المرة الأولى، لكن في المرة الثانية- بعد عامين- لم يتذكروا نفس تلك الأحداث وبمواجهتهم بها أنكروا أن يكونوا على علم بذلك أو شهدوا مثل تلك الأشياء، على النقيض الأطفال الذين تعدت أعمارهم العاشرة تذكروا نفس الأحداث في كلتا المرتين بنفس الكيفية والترتيب الزمني.
ذاكرة الطفل وتأثرها بالاختلافات الثقافية
حتى قبل بحث بيترسون كانت هناك العديد من الأبحاث القديمة والتي أكدت أن البيئة الثقافية التي يحيا بها الطفل تؤثر تباعاً على تكون ذاكرته سواء من حيث الموعد أو الكيفية؛ فعلى سبيل المثال بالمقارنة بين الذكريات التي تمكن الأطفال الكنديون من تذكرها وتلك التي يتذكرها الأطفال الصينيون وجد أن ذاكرة المجموعة الثانية تأتي متأخرة بفارق عام أو أكثر عن أطفال كندا، مما فتح الباب لدراسات أخرى تبحث في الاختلاف الثقافي وتأثيره على ذاكرة الطفل منها واحدة أجريت في جامعة إيموري بالولايات المتحدة الأمريكية والتي خضع للدراسة فيها مجموعتين من الأطفال إحداهما أمريكية الجنسية والأخرى صينية.
وجد في تلك الدراسة الأخيرة أن ذاكرة الطفل الغربي عموماً تبدأ في عمر مبكر عن الطفل الشرقي، وتم تفسير ذلك بناء على أن المحتوى الحواري مع الطفل الغربي يعتمد على منهج أشبه بالسيرة الذاتية (كيف تقابل والداه مثلاً- كيف كان مسكنهما الأول- كيف هي عائلته- كيف يمارس هواياته.. إلخ) مما يزيح جزء كبير من الجهد المطلوب من الطفل حتى يتمكن من تسجيل كل تلك الأشياء في ذاكرته، على عكس الثقافة الصينية أو ثقافات شعوب جنوب شرق آسيا عموماً الذي يعتبر فيها من العيب أن يتحدث فيها الشخص عن نفسه بشكل متكرر.
كذلك التحدث المستمر مع الطفل- حتى وإن كان في عمر مبكر- عن أحلامه وما يحدث له وما يشعر به والإصغاء لما يقوله باهتمام شديد يقوي المهارات العقلية المطلوبة لتبدأ ذاكرة الطفل في العمل في عمر مبكر، على عكس المجالس الحوارية التي يهمل فيها الطفل ويضرب بكل ما يقوله عرض الحائط بل أحياناً لا يسمح له بالكلام.
أحدث الدراسات عن ذاكرة الطفل
تعد الدراسة الأمريكية التي أطلقتها جامعة هارفارد في عام 2016 هي أحدث ما تناول ذاكرة الطفل وموعد تكونها بشكل مفصل، حيث افترضت تلك الدراسة بأنه بشكل عام لا يختلف موعد عمل ذاكرة الطفل بين طفل وآخر. بينما تبدأ الطفرات المسئولة عن تكوين رقعة الذاكرة بالمخ في التكون بعد انقضاء العام الأول من عمر الطفل وتحتاج لعام كامل حتى تكتمل في النمو المبدئي؛ أي أنه يلزم الطفل عامين على أقل تقدير لتبدأ ذاكرته في العمل، أضف إلى ذلك أن قطاعاً كبيراً من الذكريات التي تسجل من بعد العام الثاني في الحياة لا تكون دقيقة أو موثوقة فكلها تتكون نتاج أوهام وخيالات في عقل الطفل لا تستند إلى واقع ملموس أو تستند إليه لكن مع تشويهه بشكل كبير.
قام العلماء في تلك الدراسة بتقسيم الأطفال إلى 3 مجموعات الأولى تبلغ أعمار الأطفال 7 أشهر والثانية 9 والثالثة عامين كاملين ومن ثم قضى العلماء شهوراً كاملة في محاولة تعليم المجموعات الثلاثة تسلسلاً معيناً من الأحداث (مثلاً عند إضاءة النور يصدر صوت التلفاز ومن ثم تسقط لعبة من الأعلى ثم يطفئ النور مرة أخرى) ثم ترك الأطفال مدة كبيرة من دون إجراء ذلك التسلسل أمامهم، وبعدها أعيدت التجربة فوجد أن المجموعة الأكبر سناً تتذكر ذلك التسلسل بفارق واسع عن المجموعتين الأصغر سناً. بالطبع تم تفسير ذلك بواسطة أساتذة جامعة هارفارد على أن الخلايا العصبية للأطفال في الفص الوجهي من المخ (المنطقة الأمامية من المخ والمسئولة عن الذاكرة) تبدأ في التكون بشكل دقيق بعد الشهر الثامن من العمر مما يقطع الطريق على أي طفل أصغر من ذلك العمر أن يتذكر أي شيء على الإطلاق.
بناء على تلك الدراسة فإن أول علامة يمكن أن تشير إلى أن ذاكرة الطفل بدأت في العمل هي زيادة رغبة الطفل في البقاء بجوار والديه وبالأخص الأم؛ حيث أن ذلك يعني بأن ذاكرته بدأت في التشكل وأول ما تمكن من تسجيله هو الأبوين ومدى قربه منهم وهو ما يبدأ الطفل في استيعابه بعد الشهر الثامن تقريباً. وبداية من ذلك العمر فإن ذاكرة الطفل تعمل ولكن بشكل عشوائي غير منتظم وغير مكتمل حتى الوصول إلى سن العاشرة تقريباً تكون ذاكرته قد اكتملت تماماً كأي شخص بالغ، مما يفسر أيضاً كيف أن معظم الطلاب لا يتذكرون عامهم الأول في المدرسة بشكل كامل كالأعوام التي تليه.
أضف تعليق