حقوق الإنسان إحدى المفاهيم المواكبة لعصر الحداثة بما اشتمل عليه من أفكار وفلسفات نظرت للإنسان والعالم نظرة اختلفت كثيرا _بل اختلفت جذريا_ عن ذي قبل. لكن لطفا، فالأمر يبدو فيه الكثير من التناقض فيما سيتم سرده الآن. فلقد كان التصور القديم للإنسان والعالم به من التناقض ما بالتصور الحديث لهما، ولقد أثرت هذه التصورات الحديثة أبلغ الآثار فيما أتى لاحقا من فلسفات ومفاهيم ليس حقوق الإنسان سوى واحدا منها… كيف؟ دعونا نقول أنه وقبل عصر الحداثة، ولزمن امتد لأطول من عمر الحضارة الإنسانية، تصور الإنسان العالم على نحو، ثم في مطلع العصر الحديث تصورهما على نحو مختلف، أو إن شئت دقة، فإن هذه التصورات هي التي آذنت بفجر العصر الحديث.
تعرف على أهم حقوق الإنسان الأساسية عن قرب
تصورات الإنسان القديمة
تصور الإنسان إلى منذ خمس قرون أن الأرض هي مركز الكون، وهي ثابتة ثباتا مطلقا لا يحتاج معه _من فرط بديهيته_ إلى التحدث في الأمر إلا قليلا وبصورة إقرارية ليس إلا، وأن الأفلاك والكون كله يدور من حولها في نظام وصمت ووقار. وترتب على هذه النظرة للعالم نظرة أخرى هي للإنسان. إذ أنه إذا كان العالم كذلك، فإن الإنسان بما هو سيد الخليقة على هذه الأرض، وبالتالي هو سيد هذه الأرض، وأن الأرض هي سيدة هذا الكون لتمحورها في مركزه، فإن الإنسان بالتبعية هو سيد هذا الكون وركيزته ومحور دورانه وسبب نشأته، أي أن الكون كله خلق من أجل الإنسان. فكان الإنسان قديما من ناحية هو سيد هذا الكون، لكن وعلى النقيض لا يُعامَل بما تمليه هذه النظرة، فقد كان هناك من الأرقاء والمنبوذين والطبقات الدنيا المستبعَدة والمستعبَدة ما يفوق كثيرا هذا الإنسان السيد الكريم الذي يتفق ونظرة الإنسان للإنسان آنذاك. وربما أدى ذلك إلى بلورة العديد من النظريات التي تحصر صفة الإنسانية على الرجل الناضج الحر وفقط، ومن ثم فهو وحده الذي يمكن أن يتمتع بما يعرف حديثا ب” حقوق الإنسان “، بما تتضمنه من حرية وإنصاف و… إلخ. وقد كانت هذه النظرة هي نظرة أرسطو أيضا، والذي أوقف تقريبا مسيرة البحث الإنساني لما يقارب العشرين قرنا من الزمان.
تصورات الإنسان الحديثة
وعلى تمام النقيض مما سبق، فإن مطلع العصر الحديث قد شهد تغيرا عميقا في نظرة الإنسان للعالم، فعلى عكس النظرة القديمة، فإن “نيكولاس كوبرنيكوس” عالم الفلك الهولندي قد أتى بنظرة مختلفة تماما مفادها أن الأرض ليست محورا للكون والأفلاك تدور من حولها، وإنما هي جرم من أجرام السماء تدور حول الشمس! بالطبع يمكنك أن تنظر لهذا الأمر بعين الازدراء أو الملل أو البديهية؛ ذلك أنك قد نشأت منذ نعومة أظفارك وأنت تسمع مثل هذا الكلام فتحول بحكم الاعتياد إلى بديهة ليس تسبقها بديهة. لكن الأمر كان مختلفا كل الاختلاف من خمس قرون فقط، فقد أُعدم أناس على رأسهم كوبرنيكوس هذا لهذا الرأي، وقد زُلزلت معتقدات وبديهيات استقرت في الوجدان الإنساني طيلة عمره على الأرض، كما أنها تخالف ما تأتي بها الحواس المباشرة… إلخ. وترتبت على هذه النظرة بالتبعية نظرة أخرى للإنسان، أنحته عن عرش الخليقة ومركز الكون. غير أن هذه النظرة للإنسان، وعلى عكس ما تمليه من تفريغ الإنسان من قداسته وجلاله، فإنها قد فتحت أبواب العصر الحديث على مصراعيه على يد فلاسفة كُثُر يتقدمهم “ديكارت” الذي جعل من الوعي الإنساني أساسا لإنسانية الإنسان ولحضوره في هذا الوجود، ومن ثم فصفة الإنسان ليست حصرا على سيد دون العبد، ولا على رجل دون طفل أو امرأة، ولا على طبقة دون أخرى، وإنما هي صفة ملازمة لكل ذي عقل أيا يكن. ثم أتى على إثر ديكارت فلاسفة الأنوار من أمثال روسو ومنتسكيو ولوك وكانط. فأما روسو ومنتسكيو ولوك فقد كان لهم أثرا بليغا في بلورة المفاهيم الأساسية للقانون الحديث والنظم السياسية الحديثة، والذي كانا بدورهما البذرة الأولى لمفهوم حقوق الإنسان ، أما كانط فكان له أبلغ الأثر في بلورة القواعد الكبرى للأخلاق الحديثة، ومن بين هذه القواعد ألا يتخذ الإنسان من الإنسان وسيلة لتحقيق غاية، فالإنسان غاية في ذاته. فقد كانت هذه القاعدة وغيرها من القواعد هي حجر الأساس في العديد من المواد التي جاءت بها وثيقة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948م، والتي ترتكز على مبدأ الحرية وعدم الاسترقاق.
حقوق الإنسان الأساسية
عرفنا من التسلسل الذي سقناه لتطور تصورات الإنسان، أن مفهوم حقوق الإنسان ليس وليد الصدفة أو أنه حدثا عرضيا في تاريخ الإنسان، وإنما هذا المفهوم هو نتاج تغيرات عميقة طرأت على الفكر الإنساني. وكذلك فهو ثمرة محاولات لا حصر لها من سعي الإنسان _فكرا وتطبيقا_ للوصول إلى مجتمع أمثل يحقق له من الرفاه والرخاء والعدل والحرية ما يتواكب مع روح العصر وطبيعة التصورات التي استجدت واستقرت في الوجدان الإنسان. ولقد تبلورت حقوق الإنسان في أحدث صورها وأكثرها دقة وإحكاما في وثيقة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والتي تتكون من ثلاثين مادة. غير أن هذه المواد من التفصيل والتداخل بحيث يمكن أن نرجعها إلى عدة مبادئ أو حقوق أساسية تنبثق عنها هذه المواد الثلاثين.
الحق في الحرية
وما يتفرع عنها من استقلالية وديمقراطية: وهذا الحق يتمثل في المواد: (1، 4، 9، 12، 13، 14، 15، 16، 18، 19، 20، 23، 26، 27). ويتلخص هذا الحق من حقوق الإنسان في أن جميع البشر يولدون أحرارا بالفطرة، ومن ثم لا يجوز استرقاق أو استعباد أحدا من أبناء الأسرة البشرية، كما لا يجوز القبض التعسفي أو النفي التعسفي لأحد منهم. كما يؤكد هذا الحق حماية الأشخاص من التدخلات التعسفية في حياتهم الخاصة، بما قد تشتمل عليه من مسكن وأسرة واختيار تكوين هذه الأسرة بحسب رغبة الأفراد المقدمين على الزواج متى بلغوا سنه، وبما قد تشتمل أيضا من تنقل واختيار محل الإقامة في أي مكان أو بلد، سواء كان سفرا حرا أو لجوءًا هربا من اضطهاد. كذلك يمنح الحق في الحرية للناس جميعا حق التمتع بأي جنسية وعدم حرمانهم منها تعسفا، كما يؤكد الحق في الحرية أيضا حق الأشخاص في اعتناق ما يناسبهم من القيم والأفكار والمعتقدات الدينية أو السياسية مع الحق في تغييرها متى أرادوا ذلك، كما لهم الحق أيضا في الاشتراك دون إرغام في المؤسسات السلمية المعبرة عن هذه القيم والمعتقدات والأفكار، وكذلك حق الإعراب والتعبير عن هذه الأفكار والمعتقدات وكذلك تلقيها وإذاعتها بكل الوسائل المتاحة له غير متقيد بحدود جغرافية.
الحق في المساواة وعدم التمييز
وهذا الحق يتمثل في المواد: (1، 2، 6، 7، 15، 16، 23، 26). ويتلخص هذا الحق في أن جميع الناس متساوين في الحقوق وفي الكرامة بما هم متساوون في العقول والضمائر، دونما اعتبار للاختلافات بسبب اللغة أو اللون أو العرق أو الدين أو الجنس أو الأيديولوجيا أو المركز الاجتماعي أو الاقتصادي… إلخ، ومنه فإنه يحق لكل إنسان أن يُعترف بشخصيته القانونية، ومنه أيضا فكلهم سواء أمام القانون بما هم سواء كاملي الأهلية، ومن ثم لهم حق الحماية بأقدار متساوية من القانون ضد أي تمييز قد يقع عليهم. كما يتمثل عدم التمييز في تساوي الحظوظ من التعليم الأساسي، وكذلك تساوي الأجور متى تساوت الأعمال والمهام المُقام بها ومكافأتها مع هذه الأعمال ومع ما يقيم حياة كريمة للإنسان في نفس الظروف الاقتصادية.
الحق في الحياة، بما يتضمن كرامتها وسلامتها
وهذا الحق يتمثل في المواد: (3، 5، 23، 24، 25، 26). ويتلخص هذا الحق من حقوق الإنسان في أن لكل إنسان حقه في العيش بسلامة وكرامة تليق بإنسانيته، بحيث لا يتعرض للتعذيب أو للعقوبات التعسفية أو المعاملات الوحشية أو القاسية أو الحاطّة لكرامته. كما يتضمن هذا الحق حصول الفرد على عمل يدر عليه دخلا عادلا كفيلا بحفظ حياة كريمة لائقة، وتحقق له مستوى معيشة يكفيه للحفاظ على الرفاهية والصحة له ولأسرته، بما تتضمن هذه الحياة من تغذية ومسكن وملبس وعناية طبية وخدمات اجتماعية لازمة كالتعليم والمرافق وكل مستلزمات عصر الحضارة الحديثة، كما يتيح له هذا العمل من الفراغ والراحة والعطلات الدورية ما يعزز هذه الكرامة الإنسانية. وفي حالة البطالة أو الشيخوخة أو العجز أو الترمل أو المرض أو أي مما يعيق الإنسان عن التكسب والعيش بكرامة، فإن من حق هذا الإنسان على الدولة تأمين معشيته.
الحق في الأمن: ويتمثل هذا الحق في المواد
(11، 12، 16، 22، 23، 28، 29). ويتلخص هذا الحق من حقوق الإنسان في أن كل متهم بجريمة ما هو بريء حتى تثبت إدانته قانونيا، وبمحاكمة علنية تضمن له كافة حقوقه، وتتكفل بإجراءات قانونية نزيهة وشفافة. كما يتضمن الحق في الأمن عدم تعرض أي شخص لأي تدخل تعسفي في حياته الخاصة بما تتضمنه من أسرة أو مسكن أو مراسلات أو أن يتعرض لحملات تشويه تستهدف شرفه وسمعته، كما لكل شخص الحق في أن يحميه القانون من مثل هذه الحملات أو التدخلات. كما يتضمن الحق في الأمن أحقية كل شخص وكل أسرة في الضمانة الاجتماعية التي يوفرها المجتمع لأفراده. كما بموجب هذا الحق فإن لأي شخص الحق في إنشاء أو الانضمام إلى النقابات التي تحمي مصلحته. ويتضمن الحق في الأمن أيضا حق حماية الإنسان من البطالة، وبمعنى آخر حمايته من العوز والاحتياج، أي إذا كان لابد من البطالة فمقابل ذلك معونة تعفيه من العوز والشعور بعدم الأمان الاقتصادي.
الحق في الملكية
وهذا الحق يتمثل في المواد: (17، 27). وهو يتلخص في أحقية الإنسان في التملك، بل وحماية هذه الملكية سواء كانت ملكية مادية أو ملكية فكرية.
الحق في التعليم
وهذا الحق يتمثل في المواد: (26). وهو يتلخص في أحقية كل إنسان في التعليم، ويتضمن هذا أن يكون التعليم مجانيا في مراحله الأولى الأساسية. ليس ذلك فحسب، بل يجب أيضا أن يكون كلا من التربية والتعليم هادفا إلى تنمية شخصية الفرد بشكل متكامل، كما يكون هادفا إلى إرساء قيم الاحترام المتبادل والتسامح ونشر الحريات الأساسية ونبذ العنصرية والتمييز. وهذا الحق من حقوق الإنسان وإن كان ظاهره حق التعليم، فإنه يتضمن أيضا كافة الحقوق الأخرى باعتبار العملية التعليمية سبيلا يسيرا إليها.
هذا، وقد تضمنت وثيقة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في ثناياها بعض الحقوق الأخرى والتي يمكن أن نطلق عليها: “الحقوق الإجرائية”، وهي تلك التي تهدف إلى كشف السبل التطبيقية لنيل الإنسان حقوقه الأساسية.
كما تضمنت الوثيقة بعض الواجبات المفروضة على أفراد المجتمع بما هم أعضاء فيه، وذلك لتحقيق التوازن الاجتماعي بين الحقوق والواجبات. فلكي يستطيع المجتمع والدولة القيام على حقوق الإنسان بالتعهد والمراعاة، كان لزاما على هذا الإنسان الالتزام ببعض الواجبات، والتي هي بمثابة حقوق للأفراد الآخرين المشاركين له في المجتمع.
أضف تعليق