تسعة
الرئيسية » مجتمع وعلاقات » الشخصية » توريث الشخصية : هل شخصياتنا مورثة إلينا من آبائنا حقًا؟

توريث الشخصية : هل شخصياتنا مورثة إلينا من آبائنا حقًا؟

هل فكرت في ما إذا كانت شخصيتك مورثة إليك أم مكتسبة؟ في الواقع توريث الشخصية هو أمر محط للكثير من الجدال بين علماء النفس والأحياء، ولا يوجد قول قاطع فيه.

توريث الشخصية

توريث الشخصية هي واحدة من أقدم المناقشات التي تدور في أذهاننا وداخل أروقة اجتماعات العلماء؛ حيث أن علامات الاستفهام دائماً ما تتجمع حول ما إن كانت جينات الفرد مسئولة عن تكون صفاته الشخصية مثلما تكون صفاته الجسدية أم لا؟ وهي مناقشة في الأحرى تقارن بين الطبيعة والتربية، فلو كانت كفة الميزان لصالح الطبيعة فهذا يعني بأن توريث الشخصية يتحدد بشكل أساسي بواسطة المادة الوراثية المتناقلة من جيل لآخر وأنه إن كان الطفل مولوداً لأبوين بصفات معينة فذلك يعني بأنه سيرثها لا محالة حتى وإن تم تربيته بواسطة أفراد آخرين وفي بيئة مختلفة، وأما إن كانت الإجابة بلا فذلك يقضي على أي أمل لكل أب وأم في أن يرث أبناؤهم بعضاً من صفاتهم الشخصية حتى ولو بقدر بسيط.

توريث الشخصية بين علماء الأحياء وعلماء النفس

فعلى إحدى الجانبين تجد أن وجود تفسير طبيعي لكافة الظواهر المحيطة بنا- كتفسير نيوتن لسقوط التفاحة بنظرية الجاذبية- يستوجب أن يكون هناك محدداً ما ومعايير على أساسها تتحدد مسألة توريث الشخصية من عدمها، وبالنظر لتمكن الآباء من نقل جيناتهم الخاصة المتعلقة بالصفات الجسدية كالوزن ولون الجلد والشعر والعيون وحتى القابلية للكثير من الأمراض الوراثية إلى أبنائهم يرجح كفة انتصار الطبيعة على التنشئة وأنها هي التي تتدخل أولاً وأخيراً لتحديد شخصية الطفل عبر المادة الوراثية التي يحملها أبويه؛ وعلى ذلك فإن التربية لن تتمكن من تعديل ما وثقته الطبيعة من قبل.

وأما على الجانب الآخر المؤيد لفكرة التربية والتنشئة كمعيار توريث الشخصية فنجد أنه بافتراض أن الطفل يولد بعقل خالي تماماً- وهو ما يعد صحيحاً ولو كان بشكل جزئي- فإنه يمكننا تشبيه العقل في تلك المرحلة بالسبورة البيضاء الخالية من أي كتابات عليها تماماً؛ وعلى كذلك فإن الكتابات المتكونة على تلك السبورة تكون نتاجاً مجمعاً للبيئة المحيطة والسلوكيات والتصرفات التي يتعلمها الطفل من أبويه وأفراد أسرته وأصدقائه وكافة المحيطين به لتشكل معاً الشكل الذي تنمو عليه شخصية الطفل ويزيد عليها مجموع الخبرات التي يكتسبها طوال فترة حياته بداية من غرفة الطفولة وحتى مراحل التعليم والعمل المختلفة.

رأي علم النفس في توريث الشخصية

حتى وقتنا هذا لا يوجد رأي قاطع لأطباء وعلماء النفس في حسم الصراع على المتحكم الرئيسي في تكون شخصية الطفل، فكلما مر زمان ما تتواجد قناعات سائدة معينة تجبر آراء علماء النفس على الاتجاه في نفس ذلك التيار حتى تأتي أفكار أخرى تقوض سلائفها وتفرض تواجد آراء جديدة بخصوص تلك القضية؛ فعلى سبيل المثال بمجرد نشأة نظرية التطور التي وضعها داروين وبداية اقتناع العالم أجمع بتلك النظرية ودورها في تطور الإنسان منذ قديم الأزل وحتى اليوم كانت جميع الآراء العلمية في ذلك الوقت تدور حول نفس المحاور، فالطبيب النفسي فرانسيس جالتون- ابن عم داروين- فسر توريث الشخصية بناء على نظريات داروين في التطور حيث افترض بأن المواد الوراثية هي المتحكم الأول والأخير في تلك المسألة وبالتالي فمن الممكن للمجتمع أن يتحكم في تحسين شخصيات أفراده جيلاً بعد جيل بمجرد التحكم في معدل النسل وانتقاء الأفضل بينهم.

وفيما بعد في القرن العشرين عندما بدأ عالم النفس والاجتماع فرويد في وضع نظرياته الخاصة بفكرة التنشئة والتربية تغيرت مفاهيم العلماء حول توريث الشخصية إلى العكس؛ حيث كان الاتجاه السائد في ذلك الوقت هو أن التنشئة والتربية هي من يتحكم في تكون الشخصية وليس العكس، ومما رسخ ذلك الاعتقاد هو قيام باندورا بتجربته الشهيرة التي أثبت من خلالها أن الإنسان من الممكن أن يتعلم العنف ويغدو شخصية وحشية عبر تقليد ما يشاهده حوله من تصرفات ومواقف فقط. وبالفعل اقتنع الكثيرون بتلك النظرية مما دفع الآلاف من المواطنين في الولايات المتحدة الأمريكية إلى اللجوء للأطباء النفسيين رغبة منهم في تلقي التقويم النفسي الملائم لإصلاح شخصياتهم التي أفسدتها البيئة المحيطة.

ومع مزيد من التطور والتقدم في مجالات البحث العلمي بدأ العلماء في محاولة البحث عن إجابة حاسمة لذلك السؤال عبر دراسة تركيب المادة الوراثية (الحمض النووي) في كل شخص وبيان مدى علاقته بشخصيته وتكوينها، وربما كانت أكبر فرصة تسنح للدراسة والمقارنة هي دراسة شخصيات التوائم وبالأخص التوائم الذين نشأ كل واحد منهم في بيئة مختلفة عن الآخر.

دراسات التوائم

عبر دراسات استمرت لأكثر من 20 عاماً متواصلين خضع من خلالها أكثر من 350 زوجاً من التوائم إلى عمليات فحص شامل حاول علماء جامعة مينسوتا بالولايات المتحدة الأمريكية دراسة طبيعة شخصيات هؤلاء التوائم بشرط أن يكون كل فرد منهم تربى في بيئة مختلفة عن قرينه مما يسمح للعلماء الاطلاع على مدى تأثير التنشئة والمشرفين على التربية في توريث الشخصية.

خلال تلك الدراسة خضع التوائم إلى سلسلة كبيرة من الاختبارات لقياس معايير الشخصية الخمسة وهي: اكتساب الخبرات (مقدار الفضول) – الوعي والضمير (المصداقية في العمل) – الانبساطية والانطوائية (الانفتاح الاجتماعي) – التوافق والعاطفة – درجة الاضطراب والخجل، وكانت نتائج تلك الاختبارات أكثر من رائعة بالنسبة لتوقعات الفاحصين؛ حيث وجد بأن هناك أكثر من 50% من عينات الاختبار تثبت قطعاً بأن توريث الشخصية موجود بفعل المادة الوراثية لا محالة وذلك عبر العثور على الكثير من الصفات المتطابقة بين أزواج التوائم على الرغم من أنهم تربوا في بيئات مختلفة تماماً كصفات العصبية والرغبة في القيادة والسيطرة وما يثير الدهشة وما يسبب السعادة وما يستدعي الخوف والرهبة، كل تلك الصفات انتشرت عبر التوارث بين 50 أو 60% من التوائم.

وأشهر هؤلاء التوائم الذين أثبتوا صحة نظرية توريث الشخصية بالجينات هم التوأم جيم لويس وجيم سبرينجر الذين أبدوا تطابقاً مذهلاً في عدد هائل من الصفات المختلفة لدرجة أنك من الصعب جداً أن تجد فروقاً تذكر بين شخصياتهم.

هل مازال هناك دور للتربية في توريث الشخصية؟

بعدما تتطلع على نتائج دراسات التوائم السابقة لابد من أن يقفز إلى ذهنك على الفور السؤال السابق؛ فإن كانت العوامل الوراثية هي المسئولة عن تحديد الشخصية فلم يتعب الآباء أنفسهم ويبذلون قصارى الجهد لتربية الأبناء؟

لم يتوقف العلماء عند النتائج السابقة ويكتفوا بها بل قاموا بمزيد من الدراسات والتي أثبتت أنه وعلى الرغم من تمكن كل جيل من توريث صفاتهم الأساسية إلى الجيل التالي إلا أن لولا إتاحة الوسائل وتوفير البيئة المناسبة التي علمتهم كيفية استغلال الموارد المتاحة لهم لتعلم واكتساب الخبرات المختلفة، ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد بل في إحدى الدراسات البريطانية الحديثة التي شملت طلاب مدارس لندن والضواحي المحيطة بها وجد أن عوامل بيئية كثيرة أهمها مكان السكن وطبيعته والتلوث المحيط والمستوى المادي والاجتماعي كلها تحدد كيفية ظهور الصفات المتناقلة عبر الحمض النووي؛ أي بمعنى آخر إن تواجد شخصان يحملان صفة الفضول ضمن شخصياتهم لكن أحد الطفلين تربى في أسرة شديدة الحرص عليه ولا تتركه يلعب بالخارج أو يحاول استكشاف ما حوله فإن هذا الطفل ستضمر بداخله تلك الصفة ولن تظهر فيما بعد أبداً على عكس الطفل الثاني الذي قضى وقتاً كافياً في اللعب والتنزه ومعرفة ما يحيط ببيئته فنمت لديه خاصية الفضول وحب الاستكشاف حتى أصبحت متأصلة فيه.

الخلاصة

الاستنتاج الكامل أن توريث الشخصية يتحدد بكلا العاملين الطبيعة المتمثلة في المادة الوراثية المنقولة من جيل لجيل والتربية المتمثلة في تعامل بيئة الطفل معه ولا يمكن إهمال عامل منهما على حساب الآخر، لكن السؤال الذي يطرح نفسه الآن ومازال العلماء يبحثون عن إجابة وافية له هو ما مقدار مساهمة كل عامل من العاملين السابقين في توريث الشخصية؟

عمرو عطية

طالب بكلية الطب، يهوى كتابة المقالات و القصص القصيرة و الروايات.

أضف تعليق

15 + 16 =