تحقيق كتب التراث من أهم وأشق ما يمكن لباحث من الباحثين القيام به، ذلك أن التراث هو الميراث من الماضي، هو ذاكرة الأمة التي من دونها فقدت الأمة ماضيها وحاضرها وهويتها، فنحن نتاج ماضينا (بالمعنى الحرفي للكلمة). فإذا أردنا معرفة أسباب الحاضر توجب علينا العودة دائما للماضي، فالسببية دائما ذات طابع ماضَوي (أي من الماضي)، وليس يتسنى لنا أن ننسى أن كل حركات الإحياء في كل أرجاء العالم نبعت من الرجوع إلى الماضي وفهمه وتحليله وقتله بحثا، ذلك أن الحضارات كما المعارف ذات طابع بنائي، تنبني طباقا بعضها فوق بعض، فليس يمكن للحاضر أن ينبني على لا شيء، وإنما على ماضي كان له بمثابة الأساس والقاعدة، فينبني الأعقد على الأبسط، وهكذا تسير الحضارات البشرية في متوالية صاعدة دوما من الأبسط إلى الأعقد. وبما عُقِد عليه الاعتقاد من أن قوّاد التاريخ والحضارات هم أعلام الفكر في شتى المجالات، فإن تسليط الضوء لا يكون على الماضي بكل تفاصيله وأحداثه، وإنما يكون تسليط الضوء على ما خلفه لنا هؤلاء الأعلام في مجالات المعرفة المختلفة والتي تنهض على كواهلها الحضارة.. من طب إلى رياضيات وفلك إلى لغة وأدب.. إلخ، وهذه المجالات المختلفة التي تستحق تسليط الضوء عليها هي التراث الذي توارثناه، والقيام على هذا التسليط يسمى: تحقيق كتب التراث ، ويعني تحقيق كتب التراث إخراج المخطوط الأصلي -بعد أن تم نسخه نسخا كثيرة في أزمنة مختلفة قد تختلف هذه النسخ عن بعضها اختلافات طفيفة أو كبيرة- في أصح وأدق الصور الممكنة تشكيلا وضبطا وتعليقا وشرحا، وأقرب إلى مضمون النص الأصلي لفظا ومعنى، كمًّا وكيفًا، وذلك وفقا لأصول منهجية وضعها من يتعاطون هذا العلم.
كل ما يجب عليك معرفته عن تحقيق كتب التراث
المؤهلات التي يجب توافرها فيمن يقوم بتحقيق كتب التراث
ليس تحقيق كتب التراث بالأمر الهين، وليس كلأً مباحًا أو شِرعةً لكل وارد، وإنما هي مهمة صعبة لا يقوى عليها إلا من توافرت فيه عدة شروط، أهمها: أن يكون شغوفا بالتراث الذي يريد التحقيق فيه عارفا لقيمته العلمية، والنبش في هذا التراث للبحث فيه عن علل الحاضر ومنابعه ومؤدياته. أن يكون مثقفا تثقيفا رفيعا وخصوصا فيما يخص موضوع المادة المراد تحقيقها والظروف التاريخية والسياق الحضاري الذي تحرك فيه عقل المؤلف وبالتالي أنتج النص نفسه.
أن يكون المحقق على علم متين بأصول وفروع ودقائق اللغة التي يحقق النص المكتوب بها، ليس ذلك فحسب، بل أن يكون على علم متين أيضا بلغته الأم، إذ ربما يتصادف أن يحقق باحث نص بلغة غير لغته الأم، ليس ذلك فحسب وإنما أن يكون الباحث عارفا للتاريخ والسياق الحضاري والثقافي والدلالات اللغوية للمفردات في هذا العصر، إذ يحدث في كثير من الأحيان أن اللفظة يحدث لها ما يعرف ب”الانحراف الدلالي” وأحيانا “الانقلاب الدلالي” وذلك بفعل الزمن وتناول الناس لها في سياقات متبدلة بفعل تبدل الظروف. فعلى سبيل المثال نحن نطلق على الأشخاص من نسب مرتفع (ولاد ناس)، فإذا بحثنا في التاريخ وجدنا أن أول استعمال لهذا التعبير كان في عصر المماليك، إذ لم يكن يُعرف للمماليك أبٌ أو أم، فكان يطلق عليهم (ولاد ناس) إشارة إلى أنهم غير معروفين النسب، فلما اعتلى المملوكين عروش السلطة اعتلت معهم دلالة الكلمة لأنها تدل لا على أناس حقيرين مملوكين غير معروفي النسب وإنما تدل على علية القوم من ملوك وأمراء! وصرنا نتعاطى هذا التعبير اليوم على أنه دلالة على رفعة المدلول..دلالة على علو شأن من يطلق عليهم هذا التعبير. فلو أن أحدا قرأ هذا التعبير في كتاب من كتب التراث لالتبس عليه الأمر وفهمه كما نفهمه نحن الآن، والذي حدث لهذا التعبير عبر التاريخ هو ما نطلق عليه “الانقلاب الدلالي” لأن دلالته انقلبت من الضد إلى الضد، ومن هنا وجب التنويه إلى ضرورة الإلمام بالحقيقة التاريخية للتعبير أو للفظة والتي لا يمكن لمن يتصدى لعمل المحقق أن يتغافل عنها، ويمكن للمحقق أن يستعين على دقائق اللغة –رغم إحكامه لها- بالمعاجم الكبيرة والمعتمدة كلسان العرب لابن منظور ومقاييس اللغة لأحمد ابن فارس ابن زكريا وغيرها هذا بالنسبة لمن يحقق نصا عربيا.
كما أن من الشروط الواجب توافرها في من يتصدى لمهمة المحقق أن يكون عالما خبيرا في الموضوع المراد تحقيقه، فإذا كان موضوع المخطوط مثلا في الرياضيات وجب أن يكون المحقق رياضيا، وإذا كان في الطب وجب أن يكون المحقق طبيبا وفي النحو يجب أن يكون المحقق ضليعا في النحو خبيرا بأعلامه ومدارسه ومناهجه.. وهكذا. ولا يكاد يشذ عن هذه القاعدة سوى الباحث المصري العربي الكبير “يوسف زيدان” الذي هو متخصص في الفلسفة الإسلامية وباحث في المخطوطات العربية ونجده حقق موسوعة الشامل في الطب لأبي العلاء ابن النفيس! كما أن الخبرة والتمرس في العمل المخطوطي من العوامل المهمة التي يجب توافرها فيمن يضطلع في تحقيق كتب التراث وذلك للسعة البون بين طبيعة الخطوط في المخطوطات وطبيعة الخطوط المطبوعة التي نتعامل بها منذ ما يقرب من أربعة قرون، كما أن تفاصيل كثيرة أخرى بخصوص الخطوط تنتظر من يتصدى لمهمة التحقيق كنوعية الخطوط المستخدمة وتطورها خلال مراحل زمنية مختلفة ونوعية وخامة الورق الذي كتب عليه النص، ذلك أنه من شأن معرفة هذه الأمور -معرفة المرحلة التاريخية التي كتب فيها النص المنسوخ على الورق والفترة الزمنية التي اتخذت فيها الخطوط هذا الطوْر، ومن ثم معرفة ما إذا كانت هذه المخطوطة معاصرة للمؤلف أم في فترة زمنية تالية عليه وبالتالي يقل احتمال مطابقتها للمخطوطة الأم، أما إذا كانت طبيعة الورق وطبيعة الخط سابقة على المؤلف كان احتمال نسب النص لهذا المؤلف صفرا. كما يجب لمن يقوم بتحقيق كتب التراث أن يكون عارفا لمناهج التحقيق العلمي ومصادر هذا العلم وعارفا لمناهج المحققين.
كيف تقدم على تحقيق كتاب بعد أن توافرت فيك جميع الشروط السابق ذكرها؟
يجب عليك وأنت مقدم على تحقيق كتاب أو بإخراجه من شكله المخطوط إلى شكله المطبوع أن تراعي ألا يكون الكتاب قد حُقِّق بالفعل من قبل. ويمكنك التأكد من ذلك من أولئك الذين لهم خبرة بتحقيق كتب التراث والذين لهم معرفة واسعة بالنصوص المحققة ومن قاموا بتحقيقها، أو بالبحث على شبكة الإنترنت فهو مفيد أيضا. فإذا كان محققا فلا تضيع وقتك واصرف جهدك إلى غيره وإلا ذهب عملك سدى. لكن أيضا ربما استجدت أمور لم تكن في ذهن المحقق الأول لهذا الكتاب، فربما لم يراعِ من قام بتحقيق هذا الكتاب الأصول العلمية لمناهج التحقيق. وربما يكون قد أغفل نسخا مخطوطة أخرى لم يقابلها أثناء قيامه بعملية التحقيق، سواء أنه أغفلها عمدا وكسلا أو لم تظهر وقت تحقيقه لهذا الكتاب، وربما عثرتَ على نسخ أقدم وبالتالي أنفس مما أتيحت للمحقق الأول ووجدت اختلافات بين النسخة التي عثرت عليها وبين الكتاب المحقَّق. وربما يكون المحقق قد أخطأ في تحقيق عنوان الكتاب أو في نسبته إلى مؤلف آخر غير مؤلفه الحقيقي. وكذا الحال أن يكون المحقق الأول أخرج كتابه دون دراسة علمية تدعم الكتاب أو إخراجه من غير كشافات وفهارس فنية تبرز فوائد الكتاب وكنوزه، وذلك على النحو الذي عرف عند المختصين من أهل الصنعة.. صنعة التحقيق.
آلية عملية تحقيق كتب التراث
ولتحقيق كتاب بعينه ينبغي تتبع بعض الخطوات، أولها تحقيق عنوان الكتاب، وهو بالتأكد من صحة العنوان، وبالتأكد من اسم من ألفه ونسبة الكتاب إليه. ثانيا، تحقيق المتن، وهذه العملية تتم عن طريق جمع جميع النسخ المخطوطة الممكنة، ثم تصنيفها حسب الأنفس وصولا إلى المخطوطة الأم إن وجدت، والمخطوطة الأم هي تلك التي كتبها المؤلف بخط يده أو أملاها على كاتبه أو أحد تلاميذه، وترتيب الأنفس يكون ترتيبا زمنيا بحيث تكون الأقدم في الزمن والأقرب إلى زمن المؤلف هي الأصل والأنفس، وبالطبع تكون أنفس هذه المخطوطات على الإطلاق هي المخطوطة الأم، وهي يصعب وجودها، وإن وجدت تعذر وجودها على حالتها الأولى لأن الزمن يكون قد ترك بصماته عليها. ومن هنا يأتي دور المحقق عبر عملية تسمى “المقابلة”، وهي الموازنة بين النسخ التي بين يديه عن طريق مقابلتها بعضها ببعض وترميم الفجوات في النص الأقدم (الذي ارتآه المحقق أقرب للنص الأصلي الذي كتبه المؤلف) بما لدى النص الأحدث من عبارات إن كان ذلك يناسب سياق النص الأقدم. وهنا تجدر الإشارة إلى نقطة أخرى في غاية الخطورة، وهي أن المعيار الذي يجعل المحقق يختار لفظة أو عبارة من بين ألفاظ أو عبارات أخرى من بين المخطوطات التي أمامه هو درايته أو إلمامه بلغة المؤلف في مجملها وتقريب الألفاظ في النصوص المقابلة بحيث يضع اللفظ الذي يناسب لغة المؤلف، ولا يخفى أنه لإنجاز مثل هذه المهمة ينبغي للمحقق أن يكون مطلعا على كتابات المؤلف الأخرى أو الكثير منها على الأقل ليكتمل لديه النسق اللغوي للمؤلف.
ويكون عمل المحقق بعد عملية المقابلة واختيار النسخة التي ارتآها أكثر قربا من نص المؤلف –هو أن يورد في الهامش الألفاظ الأخرى التي استبعدها والتي وردت في النسخ الأخرى والتي يستشعر من ذكرها دلالة لدى القارئ، كما يقوم المحقق بما يعرف ب”تخريج النصوص”، وهو أنه إذا ذكر في النص آية أو حديث أو ما إلى ذلك يذكر موضع الآية من المصحف (سورة كذا آية كذا) أو إيراد إسناد الحديث وموضعه من الصِّحاح (صحيح البخاري وصحيح مسلم). كذلك على المحقق أن يوضح الألفاظ والمصطلحات الغريبة والأعلام والأماكن المغمورة التي يعتذر على القارئ معرفتها. كذلك على المؤلف توثيق ما صرح المؤلف بنقله عن غيره من عبارات، وما لم يصرح به المؤلف على المحقق -إن اكتشف ذلك- أن يبحث عن صاحب هذه العبارة وذلك لما يجده المحقق من اختلاف العبارة عن النسق اللغوي للمؤلف. ويتوجب أن تعمل هذه النقاط السابقة في الهامش على إضاءة النص وتوضيحه في الهامش، لا أن تتوسع إلى تفسير النص بالكامل.
خاتمة
كما رأينا عبر هذا المقال، فإن عملية تحقيق كتب التراث ليست يسيرة، وإنما تتطلب إمكانيات ومؤهلات يحفها كلها الصبر والأناة، لذا وجب علينا تقدير وتبجيل أولئك الذين يتصدون لمثل هذه المهام بغية ترميم ذاكرة الأمة وحفظها من الزوال وبالتالي يصير الحاضر هائما على وجهه كما شجرة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار. ونحن نكن لك أيضا عزيزي القارئ كل التبجيل والتقدير كونك قررت أن تسأل مثل هذا السؤال، تحقيق كتب التراث : كيف تقوم به؟
أضف تعليق