قبل الخوض في تفاصيل تجربة العزلة ، نبدأ بتعريف مايكل ستيفنز، إن مايكل ستيفنز شاب في الحادي والثلاثين من عمره يشتهر بقناته على اليوتيوب “V Sauce” والتي قد أنشأها منذ عام 2010 وحصل على الكثير من المتابعين فاق عددهم اليوم 11مليون متابع. يهتم مايكل في الأساس بالمحتوى العلمي الممتع على قناته أو بمعنى أدق فهو يهتم بتبسيط أي محتوى علمي وجعله ممتع وسهل الاستيعاب للجميع، أما عن درجاته العلمية فهو حاصل على شهادة الماجستير في علم النفس والأدب الإنجليزي ولكن اهتمامه شامل لكافة نواحي العلم من أسئلة ممتعة محيرة للعقل فيصطحبنا في رحلة لحلها ومعرفة رأي العلم بها بأسلوب يسير ممتع.
تجربة العزلة لمدة 72 ساعة عن كل المؤثرات
الغرض من تجربة العزلة
منذ فترة بدء مايكل ستيفن برنامجاً جديداً على قناته يعطيه مساحة وقتية أكبر وجهد أكبر وكانت أولى حلقاته هي تجربة العزلة؛ حيث بدأ مايكل الحلقة بالغرفة التي سيبدأ بها تجربته وهي غرفة ضيقة مساحتها 10 أقدام طولاً وعرضاً لا تحتوي على أي وسيلة اتصال أو نوافذ أو حتى أي آلة تدل على الوقت ولا حتى أي شيء يكتب عليه، فكان غرضه هو تجربة نظرية بعض علماء النفس والتي تنص على أن المكوث في غرفة مثل تلك الغرفة لأقل من ثلاثة أيام قد تؤدي إلى انهيار عقلي؛ ومن ثم فإن مايكل ستيفنز قرر خوض تجربة العزلة في تلك الغرفة لمدة ثلاث أيام كاملة. وقبل الحديث عن تجربة العزلة دعونا نأخذ جولة سريعة لنظرة أعمق عن الانعزال.
الانعزال
يقال أنه في مدينة واسعة مليئة بالناس يمكننا أن نشعر بالوحدة أو الملل، فالعقل أشبه بالإسفنجة التي تتغذى على البيئة المحيطة من معلومات وصور مرئية وأصوات مسموعة وموسيقى وأفكار وعلى ذلك فالعقل لا يهدأ أبداً فكثرة تلك المنبهات العقلية تؤدي إلى نمو العقل أكثر وأكثر ويزيد من التشابكات العصبية بين خلايا المخ، لكن ماذا إذا قطعنا كل تلك المغذيات العقلية مرة واحدة؟ أو بمعنى آخر قمنا بعمل تجربة العزلة.
ففي تجربة في جامعة هارفارد وجد أن النسبة الأكبر من الطلاب تفضل الألم الجسدي على أن يجربوا ربع ساعة من الملل الذي يقل فيه النشاط العقلي، في تلك التجربة جلس الشخص في غرفة فارغة من كل شيء إلا من زر يصيب من يضغط عليه بألم كهربي وللمفاجأة فإن النسبة الأكبر ممن قاموا بتلك التجربة قاموا بإرادتهم بتجريب ذلك الزر للقضاء على الملل بل بعضهم قام بالضغط عليه أكثر من مرة! إذ أنهم قد فضلوا العذاب الجسدي على عذاب العزلة النفسي وهذا يوضح لنا كيف يكون خمول العقل مؤلماً جداً.
استعداد ستيفنز للتجربة
قبل أن يقوم مايكل ستيفنز بتجربته قام بزيارة بعض السجون ليتحدث مع المساجين ولينتفع بخبرتهم في العذاب النفسي المصاحب للحبس الانفرادي، أخبره الكثير منهم عن بشاعة هذا العذاب الذي يتعرضون له والذي يجعلهم يفكرون أكثر من مرة قبل اتخاذ أي فعل قد يودي بهم في ذلك السجن مرة أخرى، كما أخبره بعضهم أن أصعب ما في تلك التجربة هو حالة الجهل بما يدور في الخارج وعدم القدرة على معرفة الوقت والليل والنهار وعدم التمكن من التعرض لضوء الشمس؛ كل ذلك جعل هذا مايكل أكثر قلقاً وتصميماً في نفس الوقت على ألا يعرف الوقت طوال فترة عزلته.
وقبل أن يبدأ مايكل تجربة العزلة سمع عن بعض المراكز التي توفر علاجاً نفسياً يتم عن طريق الانعزال، فهي توفر سرير مليء بالماء يغلق من الخارج كمقبرة يتم استخدامه من قبل بعض الأشخاص المحتاجين للصفاء الذهني اللازم لأعمالهم ويستخدمه الكثير من العلماء والممثلين. لكن مدة تجربة العزلة تلك لا تزيد عن ساعة واحدة وعندما جربها وجد أنه بمجرد غلقها بدأت جميع أفكاره تطارده وكأن عقله يأبى العزلة والهدوء الزائدين عن الحد، لكن كمجمل للتجربة قد ذكر مايكل أنه شعر بالراحة التامة بعدها وقد ساوره الشك أنه قد يستطيع أن يمكث لثلاثة أيام كاملة.
ذكر مايكل أيضاً أنه قد تمت العديد من التجارب حول نفس الموضوع؛ وكالة ناسا كان لها النصيب الأكبر من الاهتمام بالعزلة ودراسة تأثيراتها المختلفة على الإنسان نظراً لبعثاتها طويلة المدى للفضاء لتعرف كيف تخفف من وطأ تلك العزلة عليهم وكيف يمكنها منحهم الوسائل المختلفة لتجعلهم أقل إحساساً بها، ليدرسوا هذا التأثير كانت التجربة الأبرز تجربة لعالمة فضاء قررت الانعزال بغرفة تحت الأرض لمدة ثلاث أشهر ولكن كانت محاطة بوسائل مختلفة للاتصال وكتب عديدة لتقرأها.
بداية تجربة العزلة
قبل بدء التجربة مباشرة قام المراقبون بتسجيل المؤشرات الحيوية لمايكل مثل معدل النبض وضغط الدم ودرجة الحرارة ونسبة السكر في الدم، كما أنه قام ببعض الاختبارات العقلية للتأكد من وظائف التذكر وغيرها عندما يخرج من عزلته، وتساءل مايكل عن أصعب ما يمكن التعرض إليه في الداخل حيث أشار إلى أنه في بعض التجارب قد عانى البعض من نوبات هلع وهلوسات سمعية وبصرية كآليات عقلية للهروب من تجربة العزلة.
بدأ مايكل التجربة بعد أن عانق زوجته وأمه في الغرفة ذات العشر أقدام طولاً وعرضاً المطلية بلون أبيض ساطع ولا تحتوى غير الغذاء الكافي لمايكل والعديد من زجاجات المياه وسرير ومرحاض صغير ينزوي بركن الغرفة، بدون أي وسيلة للتسلية أو لقضاء الوقت وتراقب الغرفة كاميرات ويجلس خارجها زوجته ووالدته وعالمين من المهتمين بالتجربة.
بمجرد أن أغلق مايكل الباب أدرك أنه قد نسي أنه لم يعرف الوقت قبل أن يدخل إلى الغرفة، وبعدها بدل ملابسه بملابس مريحة أكثر وتمدد على السرير وقرر بعد الجلوس لفترة وإدراك أنه في اليوم السابق قد بذل الكثير من الجهد أن ينام، استيقظ مايكل في الرابعة والنصف فجراً وهو غير مدرك للوقت الذي قد فاته؛ إذ أنه قد اعتقد أن الساعة تعدت التاسعة صباحاً فتناول مايكل إفطاره وقام بعمل تمارين الضغط وغيرها، الغريب في الأمر أن زوجته قالت بأن تلك هي المرة الأولى التي تراه يقوم فيها بتلك التمرينات!
بعد مرور بضع ساعات قرر مايكل التجول في الغرفة وعد الخطوات التي يخطوها، وفسر العلماء ذلك على أنها وسيلة دفاعية ضد الملل والجهل بالوقت فيقوم الشخص بمحاولة السيطرة على الوقت بالعد كي يشعر بمروره من حوله، ثم قام مايكل بالغناء قليلاً وكأنه يأبى أن يستسلم للعزلة.
في الساعة الحادية عشر من صباح اليوم الأول اعتقد مايكل أنه في السابعة والنصف من مساء نفس اليوم وبذلك أدرك العلماء أنه يفقد حاسة الإحساس بالوقت تدريجياً وتتفاوت نسبة خطئه فيه؛ وعلى ذلك فقد قرر تناول وجبة العشاء الأمر الذي فسره العلماء بأنه استخدم حاسة الإحساس بالجوع كمؤشر لمرور الوقت، ويعتبر هذا خطأ شائع حيث أن هرمونات الجسم نتيجة عدم الإحساس بالوقت تتغير كميتها كما يستخدم العقل أيضاً الجوع كمحفز لممارسة أي نشاط مطلوب وبذلك تتداخل المواقيت ويفوته الإحساس بالوقت الذي يمر.
في نهاية اليوم الأول- كما اعتقده مايكل- وصف يومه بأنه قد غلب عليه الملل ولكن لم يصل إلى المرحلة التي يتغلب عليه فيها بشكل كامل؛ فقد كانت الساعة لم تتعدى الثالثة عصراً في حين اعتقد هو أنه منتصف الليل فخلد إلى النوم.
استيقظ مايكل وهو غير مدرك في أي مكان هو للحظات ثم استوعب مكانه، وقال بأن أكثر ما رغب فيه في تلك اللحظة هو أن يتفاعل مع عائلته وأصدقائه مرة أخرى.
بدء أثر تجربة العزلة السلبي
بدأ الملل يتسلل تدريجياً وبدأ العقل يبحث في الغرفة عن أي شيء قد يبقيه فعالاً حيث بدأ باللعب بزجاجات المياه الفارغة وبقايا الطعام ووجه الكثير من الحديث للكاميرات ليدون ملاحظات ما يدور بداخله من هدوء يتسرب إليه ومن الأفكار التي تساوره.
في الثلث الأول من اليوم الثاني اعتقد مايكل أنه في بداية اليوم الثالث وهو اليوم الذي سينتهي فيه ذلك العذاب النفسي لكنه كان مخطئ جداً وخطؤه في الوقت يتزايد بسرعة، بدأ الهدوء يسيطر على مايكل كثير الكلام فبدأ يسرح في سقف الغرفة كثيراً وقد اكتست ملامحه بالكآبة وبدأت تزوره ذكريات كثيرة عن حياته وعن يوم زفافه وذكريات طفولته التي عاشها فوصف عقله في ذلك الوقت بأنه كالسينما يعرض له الكثير من المواقف المتعاقبة التي عاشها بشكل أكثر وضوحاً.
في اليوم الذي اعتقد مايكل أنه سيخرج من الغرفة فيه ساوره الأمل لبعض الوقت وحاول النوم ولكنه لم يستطع فأدرك بعد مرور الوقت أنه من المؤكد بأنه فقد الشعور بالوقت، بدأت أمه بالبكاء حين رأت كيف تبدل مزاجه إلى التوتر والاكتئاب حيث أنه بدأ يفقد القدرة على العد الصحيح ففي أثناء لعبه أخطأ أكثر من مرة حين قام بعد الزجاجات وغيرها من المواقف الأخرى وبعدها بدأ في التجول بالغرفة والنظر إلى أركانها المختلفة.
في اليوم الثالث وقبل ست ساعات من الموعد المحدد لفتح الغرفة كان مايكل نائماً حين استيقظ ونظر حوله مستغرباً لما يدور حوله وذهب إلى الباب وكاد أن يستسلم ويخرج إلا أنه قد فتح الباب فتحة ضيقة ثم دخل إلى الغرفة مرة أخرى، بدأت الأحلام في عقله بالتداخل مع الواقع فلم يكن يدري ماذا يفعل في تلك اللحظات وكأنه قد حلم بشيء ما واستيقظ ليتأكد منه خارج الغرفة ثم عاد محتاراً لما حدث وجلس صامتاً بعدها على السرير.
انقضت الاثنين وسبعون ساعة وتم طرق الباب فارتعد مايكل لأول وهلة فهو لم يعتد على أي صوت طوال ثلاثة أيام كاملة جلسها بمفرده، عندما خرج بدا مايكل متفاعلاً أكثر من اللازم من فرط الاستثارة لرؤيته شخصاً آخر فبدأ بالكلام بصورة عفوية مع الموجودين وانفرجت أساريره لرؤية زوجته ووالدته في انتظاره.
نتائج ما بعد تجربة العزلة
قام الطبيب بمراجعة مؤشرات مايكل الحيوية فوجد أن ضغط الدم ارتفع بشكل ملحوظ مع خروجه وكذلك معدل النبض، الغريب أن الاختبارات العقلية التي قام بها عند خروجه دلت على نشاط عقلي أكبر مما سجله قبل دخوله تجربة العزلة.
بعدها بدأ مايكل في وصف ما دار بعقله طوال الثلاثة أيام من ملل ومحاولات للتغلب عليه وأصعب اللحظات التي مرت عليه طوال تلك الفترة وكيف أنه اشتاق جداً إلى أن يستمع إلى حديث شخص آخر أياً كان من هو.
الاستنتاج
الملاحظ جداً من تلك التجربة هو مقدار نشاط العقل البشري ومحاولاته التي لا تنتهى ليدفع الإنسان لممارسة أي نشاط سواء أكان حركي أو ذهني عن طريق الذكريات أو الأحاسيس المختلفة طوال فترة العزلة، ولا شك أن العذاب النفسي هو أقسى وأصعب جداً من أي عذاب جسدي مهما بلغ، وقد يبقى أثره مدة أطول ولذلك تعتمد عليه بعض السجون في تأهيل بعض المساجين ذوي المشاكل المتكررة. أخيراً وليس آخراً العقل البشري معقد جداً، ولا شك أنه معجزة إلهية لا زلنا حتى اليوم نحاول فك ألغازها التي لن تنتهي.
أضف تعليق