النضج الوجداني هو التمام والكمال لعملية ما، وهي عملية نمو مستمرة، فيها نكتسب ونتعلم ونعرف ونحدد ونقرر، وعلى هذا الأساس يكون اكتمل جزء من نمونا النفسي، النضج الوجداني هو أهم وأكبر جزء من النضج النفسي عامّة، لذا هو مفتاح الحياة الجيدة، ومفتاح النجاح والخير والقيادة السليمة الموجهة نحو الخير. والنضج الوجداني أو الذكاء الوجداني يطلق عليه الذكاء العاطفي أحياناً، ولكن من وجهة نظر شخصية أرى أن كلمة وجدان هي أعم وأشمل لأن الوجدان يشمل العواطف والانفعالات والسلوكيات الناتجة عنها وهي كلمة أكثر شمولاً للمعنى. النضج الوجداني ينقسم إلى وحدات أو مراحل كلها متصلة ببعضها وتؤدي إحداها للأخرى. وهذه المراحل هي معنى النضج الوجداني وعلامات وجوده وسماته وكيفية تنميته، والتواصل الوجداني مع الآخرين وأخيراً التأثير الوجداني. وفي هذا المقال سنتحدث عن هذه المراحل.
النضج الوجداني : ملف كامل عنه
معنى النضج الوجداني
وهناك بعض السمات التي يتميز بها الشخص الناضج وجدانياً ومن أهمها الحكم الموضوعي على قراراته وانفعالاته وعلى سماته الشخصية دون تحيز أو إنكار، والتمتع بالأخلاقية الإيجابية التي تهدي إلى الخير والعمل الواعي والقيادة الموجهة المصلحة المؤثرة في الناس، كما أن الوعي بالنفس والمشاعر وضبطها من أهم سمات النضوج الوجداني:
الوعي بالنفس وضبط الانفعالات
لا يوجد نضوج إلا مع المعرفة الحقيقية للنفس ودافعها ومسببات سلوكها، وإدراكك لحالتك الوجدانية في هذه اللحظة يجعلك تفهم لماذا تتصرف بهذه الطريقة أو تلك، فمثلاً إذا كنت مكتئباً فستفسر كل ما يحدث حولك تفسيراً سلبياً وهذا التفسير غالباً ما يكون تفسيراً خاطئاً وغير موضوعياً وسوف يؤثر هذا على مجرى يومك وسوف يزيد من مشاعرك الاكتئابية ولن تستطيع أن تغير حالتك المزاجية والوجدانية بسهولة، لذلك من المهم أن تعرف كيف تشعر لتعرف كيف ستؤثر ذلك على تفكيرك وسلوكك.
ويجب أيضاً أن تدرك مشاعرك بموضوعية أي بدون انحياز للأهواء، فلا تظلم نفسك ولا تلوم أحداً على ما أنت فيه، واعرف بالضبط بما تشعر بدقة وانصت لقلبك. أما عن ضبط الانفعالات فهو من أكثر السمات تأثيراً على الشخصية وبالتالي على النضج الوجداني ، والثبات الانفعالي هو ضبط النفس عن إصدار أي انفعال لحظي بناءً على موقف حدث أمامك مما استثار غضبك وحنقك، ضبط رد الفعل يعني أن تهدأ أولاً حتى تستطيع الحكم على الموقف بعقلانية ثم تعرف كيف تتصرف وما يجب فعله بعيداً عن الأهواء والانفعالات السلبية كالغضب والصراخ والعصبية والتحدث بأسلوب يقلل من احترامك لنفسك ويقلل من احترامك للآخرين، وأهمية الثبات الانفعالي تكمن في تحديد سلوكياتك بدقة كما تريد دون تدخل أية عوامل خارجية تجبرك على أن تصدر سلوكاً معيناً عكس ما تريده أنت، وهذا يجعلك تمشي في طريقك إلى هدفك غير مثنياً وغير متردد فيه، ولكنك تعرف كيف تصل إلى الهدف بثبات نفسي وقيم واضحة !
إن من أخطر ما قد تواجهه في حياتك هو الغرق في انفعالاتك دون امتلاك القدرة على التحكم بها، هذا يعطّل مسار حياتك العاطفية ويؤثر بشدة على حياتك المهنية، لا يجب أن تدع مشاعرك تتملكك خاصّة المشاعر السلبية، كما يجب أن تتعلم أن تتقبل مشاعرك مهما كان الأمر صعباً بالنسبة لك، مواجهة نفسك دائماً ومصارحتها والتصالح معها هو المفتاح لحياة هادئة وسعيدة.
المنظومة الأخلاقية الإيجابية
لا نضج بدون أخلاق، ومنظومة القيم التي نتبناها هي التي تحركنا من دواخلنا، إذاً المنظومة الأخلاقية هي جزء لا يتجزأ وجزء أساسي في عملية النضج الوجداني ، والنضج هو تحقيق هذه الأخلاقيات في تعاملنا، فهو تحقيق الحكمة والعدل والمنافسة النزيهة والصدق مع الذات ومع الآخرين وتحمل المسؤولية والتحفيز الإيجابي وحب الخير للجميع وحفظ الوعود. ولا يمكنك أن تجد شخصاً ناضجاً مع عدم وجود قاعدة أخلافية، كذلك لا يمكنك أن تجد شخصاً لا يتمتع بأخلاق ثم تقول مثلاً أنه ناضج أو يحسن التعامل مع الناس، فهذا الشخص لا يمكن أن يكون صادقاً مع نفسه أومع غيره وغالباً هو فقط يحسن التلاعب بالآخرين.
هذه القاعدة الأخلاقية التي لا يكتمل النضج الوجداني إلا بها تمكّن الإنسان من أن يتمتع بالبصر والبصيرة وحسن اتخاذ القرارات والحكم على الأحداث والمواقف بموضوعية، كما أنهم دائماً ينشرون حب الخير وطاقاتهم الإيجابية في كل مكان، وهم يوجهون الناس لا إرادياً نحو هذه السمات وهذه الأخلاق.
حب الإنجاز
ويختلف هذا عن الحب العادي للعمل والنجاح والإنجاز، فهو دافع ينبع من دواخلهم ومن أحاسيسهم اليقظة الواعية، وهذا الدافع هو دافع وجداني وليس دافع مادي أو دافع منطقي، لأن الدافع المنطقي للعمل يوجد عند جميع الناس، فمن الطبيعي أن تعمل حتى تكسب لقمة العيش وتعيش حياة كريمة، ولكن الأمر يختلف مع هؤلاء الذين يتمتعون بما سميناه النضج الوجداني .
وهو ليس دافعاً واحداً، بل هو عدة دوافع متحدة مع بعضها ولا يمكن فصل هذا عن المنظومة الأخلاقية الإيجابية التي تحدثنا عنها ولا يمكن فصل ذلك أيضاً عن الوعي بالذات وضبط الانفعالات والثبات النفسي، فكل هذه السمات معاً تشكل منظومة كبيرة ثابتة ناضجة وواعية قادرة على التحرك في هذا العالم بثبات وقوة، لا يستطيع أحد أن يثني هؤلاء عمًا يريدون أن يحققوا، إنهم يملكون مفاتيح ذواتهم الحقيقية ويملكون قراراتهم ومصائرهم ويعرفون بالضبط ما الذي ينبغي فعله حتى يصلوا إلى أهدافهم السامية، وتختلف أهداف هؤلاء عن أهداف الناس العادية، فهم يحلمون بالأشياء الصعبة التي تحدث تأثيراً كبيراً في نفسية الناس ووعيهم بأنفسهم وبالحياة التي يعيشون وتؤثر على فكرهم وعقولهم، وهم لا يختارون الأهداف السهلة أو الطرق السهلة للوصول إلى ما يريدون، بل يخطون خطواتهم في الطرق الشاقة بنفس قوية وثابتة، ولا يتزعزعون بسهولة، ويحملون على عاتقهم مسئولية الناس الفقيرة والناس الجاهلة الغير واعية ويعتبرون أن من وظيفتهم توعية الناس وتعليمهم وإحداث فرق في هذا العالم.
وهم لا يلومون الآخرين على أخطائهم ولا يخافون الفشل بل يدرسون الموضوع والموقف ويقومون بتحليله من جميع الجوانب حتى يقفوا على الأمور بموضوعية تمكنهم من المضي قدماً إلى النجاح والتغلب على العقبات بروح إيجابية لا تحمل المشاعر والأفكار السلبية وهم دائمي التعلّم والتفكر ولذلك يعرفون كيف يواجهون المشكل والمصاعب بعقل واع ونفس يقظة وفكر متحرر مبدع على أسس أخلاقية.
وكما ترى أن عملية النضج الوجداني لا تعني فقط الذكاء العاطفي أو فن التعامل في العلاقات مع الناس، فهي أكبر من ذلك بكثير، والحقيقة أن قليل فقط من الناس من يمتلكون هذه الملكة العظيمة التي امتلكها العظماء من الكتّاب والعلماء والمصلحين على مر التاريخ ولا يسعنا إلا أن نحاول قد إمكاننا أن نصل إلى هذه السمات ونتعلمها ونكتسبها، بأن نتجاهل التفاصيل التافهة وننقي قلوبنا من الحسد والحقد والكراهية ونوظف ضمائرنا دائماً فتكون هي المرشد الدائم لنا.
الذكاء الوجداني/ العاطفي
وهو فن التعامل مع المشاعر سواءً كانت هذه المشاعر هي مشاعرك أو مشاعر الآخرين، وهو أيضاً فن التواصل مع الناس وهذه المرحلة تأتي نتيجة لتحقيق المرحلة الأولى من مراحل النضج الوجداني الذي تحدثنا عنه في عنوان رقم واحد.
الوصول إلى قلوب الناس والتأثير على مشاعرهم ليس أمراً سهلاً، أنت لا تستطيع فقط أن تؤثر على الناس بكلمة أو فكرة، ولكنك تحتاج أن تصل إلى قلوبهم وعواطفهم أولاً ثم تقوم بالتأثير على فكرهم أو نفسيتهم أو إيصال فكرة ما أو توجيه أمر ما لهم.
وقد تحدث العالم جولمان في كتابه الذكاء العاطفي عن هذا الموضوع باستفاضة، وقد ذكر أن هناك خمس نقاط لوضع أساس الذكاء العاطفي وهم :
1- الوعي بالذات، وهذا ما تكلمنا عنه في بداية المقال، والوعي بالذات يعني الثقة بالنفس والتحكم فيها وفي رغباتها وعدم غلبة الهوى عليها، كما يعني معرفة نقاط القوة والضعف في الشخصية للاستفادة من نقاط القوة بأقصى ما يمكن، ولتقوية نقاط الضعف والتخلص منها، لأن هاتين النقطتين هما الأساس لشخصية واعية مستقلة متقبلة لأخطائها، وتجاهل هذه النقطة يعني أنك لم تعد تحكم حكماً موضوعياً ودقيقاً على نفسك لذا سيهتز الأساس الذي تريد أن تبني عليه كل شئ بعد ذلك. كما أن الوعي بالذات يعرفنا ما الذي نشعر به بالضبط، اهو ابتهاج أم فرح أم نشوة أم انفعال زائد ليس له معنى. ويبدأ الوعي بالذات من الداخل وليس من الخارج أي انه يجب عليك ملاحظة نفسك دائماً ومراقبة تفكيرك وردود أفعالك ومناقشة ذلك مع نفسك وتصحيح ما يجب تصحيحه دون تكبر على أخطائك وبمرونة تامةً.
2- التعامل مع الجوانب العاطفية، ويعني ذلك معرفة كيف نحزن وكيف نغضب وكيف نفرح، وما الذي يؤثر علينا دون أن نشعر، ومعالجة ذلك بمرونة دون تحيز للنفس، كما أن هذه المعرفة ستجعلك في حالة تصالح مع نفسك، حتى إن كنت تمر بوقت عصيب، فإنك لن تستسلم ولن تتخلى عن نفسك، بل ستقويها حتى تمر الأزمة بسلام، ويشمل هذا أيضاً التعامل مع الجوانب العاطفية مع المقربين إلينا.
3- الدافع أو المحفز، وهذا يعني وجود دافع دائم للتقدم والإنجاز، دافع للتحسين من قدرتنا على فعل شئ أو تحسين مهارة معينة مثل فن التواصل وغيره، المهم أن تكون من الأشخاص الذين لديهم القدرة على تحفيز نفسهم دائماً والتطلع إلى الأفضل وعدم الركون إلى القديم الممل.
4- التعاطف. وتعني الإحساس بالشفقة والتعاطف مع الآخرين وتفهم حالتهم وما يمرون به، ولولا وجود التعاطف لتحولنا إلى كائنات مخيفة لا يوجد بينهم إلا الطمع والجشع والحقد والقتل والانتقام. وهو أكثر من مجرد التفوه بكلمة في حالة حزن أحدهم أو فقدانه صديقاً أو غيره من الحالات، ولكنه التقمص العاطفي الذي يؤثر في كيانك ووجدانك ويجعلك تشعر بما يشعر به هذا الشخص بعمق.
5- المهارات الاجتماعية، وهي القدرة على التوافق مع المجتمع والتعامل المرن مع الأشخاص والمواقف المختلفة.
ويقوم التواصل الوجداني على بعض النقاط والمهارات الأساسية تتلخص فيما يلي.. وهذه النقاط هي الطريق إلى عواطف الناس وقلوبهم وهي المجموعة الثانية من السمات التي يجب توافرها في شخص ما لتكوين عملية النضج الوجداني لديه.
6- تفهم مشاعر الآخرين: كما أن تفهّم مشاعرك هو أساس المرحلة الأولى فإن أساس المرحلة الثانية هو تفهّم مشاعر الآخرين ومعرفة انفعالاتهم بالضبط ولماذا شعروا بهذه المشاعر، ومعرفة ذلك يجعلك تفهم سلوكهم ورد فعلهم فلن تقوم بلومهم أو إيقاع الخطأ عليهم أو توبيخهم لأنك قد فهمت الدافع النفسي والعاطفي، ويساعد هذا الأمر كثيراً في معالجة وحل المشكلات في العلاقات الشخصية بأنواعها، فتقدير رؤية الطرف الآخر يجعله يتقبلك ويسمع لما ستقوله ويحترمك وربما يطلب نصيحتك إذا وقع في مشكلة ما في وقت لاحق.
الإنصات من أهم المهارات التي تمكنك من تحقيق التواصل الوجداني الجيد مع الآخرين، تفاعل مع المتحدث بقلبك وليس بأذنك فقط، استمع له بصدق، عامله كأنه أقرب الأقربين لك وليس فقط شخصاً عادياً، أخبره انك تشعر بما يشعر به وأنه محق فيما يشعر، والاهتمام الذي ستبديه سيظهر عليك في عينيك وفي نبرة صوتك وفي تعبيرات وجهك وهذا سينقل للطرف الآخر مشاعرك الصادقة وبهذا تكون قد اجتزت الخطوة الأولى في عملية الدخول إلى قلب الآخرين.
بعد أن تفهم مشكلة المتحدث قم بما يجب عليك فعله إذا وجد، قم بعرض خدماتك وأصر على القيام بها، شاركه محنته أو فرحه إلى أقصى أحد ولكن لا تكن متطفلا، فهذا يزعج الآخرين مهما كانوا يحبونك أو تحبهم، لا تتدخل في مساحة الآخرين الشخصية، ولكن قدّم بصدق ما يمكنك فعله من أجلهم في هذا الوقت.
وهذا الأمر قد يحل مشاكل كبيرة جداً في أماكن العمل، فكثيراً ما نسمع عن مشاكل للموظفين تعيق من عملهم فيقوم المدير بانفعالات سلبية تزيد من حدة الأمر وربما يتفاقم الأمر للطرد أو غيره، لذا فالمدير أو القائد يجب أن يتحلى بهذه المهارات التي تمكنه من التواصل الصادق مع موظفيه وتفهم مشاعرهم ومشاكلهم.
وهناك بعض العلامات التي يتمتع بها الأشخاص الذين ليس لديهم مقومات النضج الوجداني كما أنه يوجد علامات لوجود النضج الوجداني وإليكم بعض العلامات التي تدل على عدم وجود نضج وجداني عند هذا الشخص:
1- الاعتماد الزائد على الآخرين، وعدم القدرة على أخذ القرارات بنفسه، وهو يخاف من مواجهة نفسه وتحمل أية مسؤولية.
2- المشاعر الغير مستقرة، فأحياناً تجد هذا الشخص منفعل وغاضب بشدة وأحياناً لا يتحمل أي شئ ولديه حساسية زائدة للمواقف حتى وإن كانت مواقف عادية لا تستدعي الغضب أو الانفعال.
3- الرغبة في إشباع رغباتهم في الوقت الحالي، فهم يتصرفون كالأطفال بأنانية، لذا هم دائماً مرتكزون حول ذواتهم الضعيفة وهم لا يراعون مشاعر الآخرين كما أنهم لا يثقون بأنفسهم ولديهم حاجة كبيرة للعطف والاهتمام من الآخرين Low self-esteem.
4- ليس لديهم المرونة النفسية الكافية ليتعلموا مما يحدث لهم فهم دائماً في نفس المنطقة الأنانية الطفولية الغير ناضجة وهؤلاء إذا لم يأخذوا قراراً حازماً بالتغيير إلى الأفضل وتعلم النضج الوجداني فسيعيشون حياتهم في هذه المنطقة الغير صحية للنفس والعاطفة والجسم وربما يسببون لأنفسهم الكثير من المعاناة النفسية.
التأثير الوجداني
التأثير في أي إنسان يحتاج أن تكون لدية حجة قوية في الإقناع حتى تستطيع أن تضم لصفك أكبر عدد وهذا يتم عن طريق التواصل الجيد المبني على الثقة المتبادلة والصدق والأمانة.. وهناك بعض السمات التي يجب أن يتمتع بها المتحدث أو القائد أو أياً كان حتى يستطيع أن يؤثر في من حوله تأثير إيجابي ويغيّر من قناعاتهم وفكرهم. وهذه المرحلة هي الأخيرة لاكتمال عملية النضج الوجداني.
1- حماسة المتحدث لما يتحدث عنه، فالناس يشعرون بطاقتك وعاطفتك مهما حاولت إخفائها، فإذا كنت تتحدث ببرود فسيشعرون بذلك مهما حاولت أن تخفي ذلك، وكذلك إحساسك بالشغف والحماسة والطاقة الإيجابية، إذا لم تتحدث من قلبك فلن تؤثر في أي أحد.
2- مهما كان ما تقدمه للناس ذا محتوى قيمي جيد فإنه إن قُدِّم بشكل سئ فإنه يفقد قيمته، علاقة الشكل بالجوهر هي علاقة وثيقة جدا ولا يعني ذلك أن تتجاهل أحدهما على حساب الآخر، فمثلاً إذا كنت تتحدث عن فكرة ما فإن بين الفكرة ومعناها وطريقة عرضها علاقة تكامل لا تتم إلا بوجود كل أبعادها.
3- تدعيم روح الفريق، إن الأساس لنجاح أي عمل جماعي هو الرابطة التي تنشأ بين أعضاء فريقه، وهذه الرابطة لها وجهان الوجه العاطفي ويظهر من خلال المودة والحب والمشاركة بين أعضاء الفريق، والوجه الآخر هو الاحترام الناتج عن تقدير كل عضو للآخر، لوجهة نظره، لرؤيته، لأسلوبه وشخصيته التي تختلف عن الآخر. هذا الاحترام هو الذي يجعل الفريق يتماسك مهما واجهته المشاكل، لذا فمن الواجب على قائد الفريق أن يشعر كل عضو بأهميته في الفريق، ويؤكد أن لكل عضو دور معين لا يقل أهمية عن دور أي عضو آخر في الفريق.
4- التوق إلى التغيير الدائم للأفضل، فالإنسان الذي يتمتع بمفهوم النضج الوجداني هو إنسان يكره الملل والتكرار والروتين، فهو يريد أن يرى تغييراً نحو الأفضل في كل شئ، في الحياة، في العمل، في المنزل، في كل ما حوله، وهو ليس تغيير من أجل التغيير بل هو تغيير من أجل الإبداع، من أجل مزيد من الخير والتقدم والنجاح، تغييراً من أجل التطور الحضاري الذي أصبح يجري بسرعة كبيرة جداً.. والشخص الذي يريد أن يكون لديه مستوى عالي من التواصل الوجداني يجب أن يمتلك مهارة القيادة التي تجعل الآخرين يؤمنوا بأفكاره الجديدة ويكون قادر على أن يحرك دواخلهم النفسية والروحية حتى يؤمنوا بالفكرة بقلوبهم وأرواحهم فضلاً عن عقولهم. والحقيقة أننا جميعاً نحتاج إلى التغيير بشدة في حياتنا، فقد يحدث أن نتعرض لأزمة نفسية ولو بسيطة ثم نغضب ونشعر بالعصبية والألم، وكل هذا قد ينتهي بأن نغير المكان الذي نحن فيه، نتطلع إلى منظر طبيعي جميل أو نغير الألوان التي اعتدنا عليها .. والتغيير هو الذي يشعرنا بوجودنا في هذه الحياة ويجعلنا نشعر بطاقة الحياة التي نفتقدها.
5- القدرة على حل المشكلات بشكل حاسم وإيجابي في نفس الوقت، فبدلاً من التعمق في المشكلة وتفاصيلها والاستمرار في اتهام كلٌ الآخر، يجب أن يكون هناك بديلاً إيجابياً يرضي جميع الأطراف، فالبحث عن حلول مبدعة من سمات القائد الذي لديه نضج وجداني، مثل التشجيع على النقاشات الجماعية لمعالجة الأمر والمواجهة المباشرة مع أطراف الجدال، لأن توجيه الآراء بشكل موضوعي ونقدي إيجابي يعطي الطرف الآخر الفرصة بأن يرد رداً كافيا شافيا ليدافع عن نفسه أو يشرح نفسه وأسباب سلوكه دون التطاول على الغير، وهذه السمة تسهّل علينا الكثير من الأمور في الحياة، لأن الحياة ما هي إلا علاقات مع الناس، في المنزل، في العمل، في كل مكان.
6- أن يكون لديك منطقاً قوياً لإقناع الآخرين بأفكارك، وهذا لا يتطلب فقط أن تكون دارساً واعياً بما تقول ولكن يتطلب منك أن تكون ملماً بأفكار وهوايات ومنطق وتفكير الشخص الآخر الذي تحاول إقناعه، إن الإقناع فن لا يتقنه إلا من لديه هذه المهارة ولكن إن لم تكن لديك فيمكنك تعلمها واكتسابها وكل شئ يكتسب بالخبرة والممارسة الفعالة، أنت لا تخاطب العقل فقط حينما تتحدث إلى شخص ولكنك تخاطب قلبه وروحه وكيانه بأكمله، وقد يتحتم عليك أن تعرض فكرتك بأسلوب مبتكر وجديد يجذب المستمع، احرص على أن تكون مهارات عرضك جيدة وحافظ على توازن لغة الجسد والتواصل البصري مع المستمعين، واحرص على الاهتمام بآرائهم وبما يقولون، لا تقلل من أي رأي أبداً، وكن صادقاً معهم ولا تتصنع شخصية أخرى حتى يحبك الآخرون.. وتحدث من القلب إلى القلب.
7- مهارات القيادة أيضاً من أهم عوامل اكتمال عملية النضج الوجداني، وهي عبارة عن مهارات إنسانية ومهارات إدارية ومهارات عقلية، وكلها يجب توافرها فلا تغني مجموعة مهارات عن الأخرى، فالتواصل الإنساني مهم على مستوى الوجدان والعاطفة والروح ولا يغني ذلك عن قوة الحجة والإقناع مثلا التي تعتبر من المهارات العقلية ومن ثَم قوة الحجة لا تغني عن التثقيف الجيد والوعي الذاتي والفكري، والقائد الجيد لديه من النضج الوجداني ما يمكنّه من الدخول إلى كيان الفريق الذي يقوده والتأثير فيهم بأفكاره بقوة، وبهذه الطريقة فإنه ينشئ فريقاً كاملاً يحمل أفكاره، ونحن نحتاج في هذه الأيام إلى أناس بهذه المواصفات، ليحركوا هذه الجموع الغافلة عن سباتها ويقودوها إلى الوعي والرفعة مرة أخرى.
8- ما يجب معرفته أخيراً أن التفوق الأكاديمي أو المهني لا يعني النجاح في الحياة وإنما يعني النجاح على مستوى معين فقط، أما المستوى الأهم وهو المستوى الإنساني هو ما يتمثل في عملية الذكاء العاطفي أو النضج الوجداني كما تحدثنا.
إن كل ما نتعلمه ونكتسبه في حياتنا منذ أن بدأنا نتعلم في سن صغير، يكبر من مساحة واعينا الذاتي والخارجي، وعلينا إذا ما وصلنا إلى مرحلة من الوعي تمكننا من الملاحظة، أن نكون قادرين على فلترة وتصفية الأفكار التي تمر إلى عقولنا، فنسمح فقط للأفكار المفيدة السوية أن تتربع في عقولنا أما الأفكار الأخرى فيجب أن نرفضها ونعلم مدى خطورتها كيف نحاربها في أنفسنا وفي الآخرين، لأن سلوكياتنا وألفاظنا وشخصياتنا ما هي إلا نتاج لهذه الأفكار.. إن العقل هو المتحكم الأساسي في تكويننا.
ولكن هناك نقطة أخرى في غاية الأهمية، وهي أن العقل ليس له دور كبير في عملية النضج الوجداني، والأهم هنا في هذه هو الضمير اليقظ والنفس المسامحة المتعالية على صغائر الأشياء والقلب المحب المتسع للجميع والنفس الراضية الإيجابية التي تعلم كيف تستغل ما لدى العقل من فكر وتوظفه في الخير والصلاح.
ولنعلم أن النضج الوجداني هو غاية النضج النفسي بأكمله، فلن تجد شخصاً ناضجا وجدانيا إلا وستجد لديه من السمات الشخصية التي تقترب إلى الكمال.. سواء في الأفكار أو في السلوكيات.. وأساس عملية النضج الوجداني هو الوعي الذاتي الموضوعي.. هذا شرط أساسي لأنك إذا لم تستطع أن تحكم على نفسك حكم موضوعي فلن تستطيع أبداً أن تحكم على الآخرين حكم موضوعي أو أن تطور من نفسك وشخصيتك ووعيك إلى الأفضل.. الانحياز إلى الذات من أخطر العقبات التي ستواجهك إذا حاولت أن تكون ناضج وجدانياً.. أو حتى ناضج بشكل عام.
ولتعلم أيضا أن الناس ليسوا موضوع دراسة نفسية .. يمكنك إجراء التجارب معهم، ولكن عليك أن تندمج معهم وتصل إلى قلوبهم وعواطفهم وتشاركهم أحزانهم وأفراحهم وهذا يحدث عن طريق التعاطف والتفهم أو التقمص العاطفي Empathy وهناك في كتاب الذكاءات المتعددة ذكاء قائم بذاته يسمى الذكاء التعاطفي.
لذا في كل مرة تتعامل مع الناس فكّر.. هل أنت تتعامل بالطريقة الصحيحة؟ هل هذا ما يمليه عليك ضميرك ؟ هل هذا السلوك مبني على قاعدة أخلاقية صحيحة ؟ هل هذا سيغضب الشخص الآخر ؟.. دائما اسأل نفسك هذه الأسئلة فهي ما تكون ما يسمّى بالوعي الذاتي الموضوعي.. ولا تتردد في أن تلوم نفسك إذا أخطأت، فالاعتراف بالخطأ بداية التغيير للأفضل.. ودمتم.
موضوع جميل وعميق وغنى. و لكن يحتاج إلى أدوات وتدريبات تساعد على التطبيق